الإنسان طبيب نفسه.

تلك المقولة الشعبية التي تحتمل تأويلات عديدة، هي أيضًا صحيحة من وجوهٍ عدّة. لكن من المحال أن يكونَ المرءٌ طبيبَ نفسه، إن لم يكن على درجةٍ جيدة من المعرفة الطبية الصحيحة.

تفسد الأفكار الخطأ والخرافات الطبية المنتشرة، وعي الناس الطبي، وتعوق فهمَ الإنسان واستيعابَه لحالته الفعلية من الصحة والمرض، كما تُصعِّب تواصلَهُ مع طبيبه، وبالتالي استفادته من الخدمة الطبية، واقتناعه بها. كما تزيد فرص تأخر التشخيص الصحيح، وتلقي العلاج الأنسب في الوقت الأنسب. مما يُهدِرُ أعمارًا وأموالًا لا تُعوَّض، وكان بالإمكان حفظُها.

في السطور التالية، سنسلطُ الضوء- بإيجازٍ شديد- على أشهر تلك الأفكار والمعتقدات الطبية الخطأ في المجتمع المصري.

وجديرٌ بالذكر أن تلك الأفكار لا تقتصر على المستويات الاقتصادية والاجتماعية والتعليمية الأقل، إنما تنتشر أفقيًا ورأسيًا في كافة المستويات، وحتى بين شرائح المجتمع المتصلة بشكلٍ مباشرٍ وغير مباشرٍ بممارسة الطب.

عِصمة الطب

يتصور غالبية المصريين أن الطب قد تقدم بشكلٍ هائل، وأصبح بمقدوره الإتيان بالمعجزات، وأن الاستثناء النادر هو وجود مرض لا علاج له، وأن مشكلة الخدمة الطبية في مصر تتلخص في انعدام ضمير الأطباء الجشعين فاقدي الرحمة، وضعيفي الإمكانيات!

بالفعل نجح الطب في حل كثير من المعضلات الطبية، لكن ما يزال كثير منها يحتاج إلى جولاتٍ لا تحصى من البحث والتعديل والتطوير. وما زالت معظم الأمراض المزمنة الكبرى، المصاب بها الملايين من المصريين كارتفاع ضغط الدم والسكري وضعف عضلة القلب المزمن، والتليف الكبدي… إلخ من دون علاج جذري يُعيد الأمور إلى ما كانت عليه قبل الإصابة بالمرض، على الرغم من وجود كثير من العلاجات الدوائية وغير الدوائية التي تتحكم في الأعراض، وتُقللُ فرصَ حدوث المضاعفات، وتُقلل نسب الوفيات المحتملة، ومرّات الحاجة للحجز بالمشافي.

والكلام السابق يسري على الطب عمومًا، في البلدان الكبرى التي تمتلك الطبقة الأولى من المعرفة الطبية والتأهيل والتدريب ومنظومة صحية متكاملة تستخدم الموارد بشكل كفء وفعال. فما بالنا بمصر التي تفتقر إلى كثير من كل ذلك. وكفاءة الطبيب وطاقم المريض ليست وحدها العامل الرئيس في جودة الخدمة الطبية، فتوافر الأجهزة الطبية، والمعدات الحديثة، وحسن التنظيم، وتوزيع أعباء العمل، لا يقل أهمية.

«اسأل مجرب… ولا تسأل طبيب»

لسببٍ ما، يلجأ كثير من المرضى المصريين في تقييم وتشخيص وعلاج حالتهم المرضية، إلى أصدقائهم ومعارفهم وأقربائهم، من مختلف المهن غير المتصلة بالطب، أو على الأقل، المهن الطبية خارج الطب البشري.

 ويتصورُ هؤلاء أن العلاج الفلاني أو الترتاني، طالما نجح مع أخيه أو أقربائه أو زوجته أو الجيران… إلخ فهذا مستند علمي ومنطقي على أنه يصلح علاجًا له، وأن العملية الجراحية الفلانية طالما تُوُفّيَ أثناءَها جدُّ صديقه في العمل، فعليه الفرار منها فراره من الأسد.

لا يعرف كثيرون أن استجابة معظم الأدوية تختلف من جسمٍ لآخر، وأن تفاعل بعض الأدوية مع بعضها، يقلل أو يضاعف من أثرها الدوائي، وآثارها الجانبية. وأن وجود حالاتٍ مرضية أخرى لدى المريض، يغير من اختيار الطبيب بين المجموعات الدوائية المختلفة. كما أن الظروف المحيطة بكل حالة جراحية، تختلف تمامًا عن الأخرى، وقد تُجري عملية جراحية لشابٍ في الثلاثين فلا يُكتَب له النجاة، بينما يخوض غمارها عجوز ثمانينية وتمر بسلام دون مضاعفات.

الليزر

لا شكَّ أن اكتشاف أشعة الليزر وتطويرها كان من أبرز الفتوحات العلمية في القرن الفائت، وما يزال مجال الاستخدامات الطبية لليزر يجذب اهتمام كثير من الباحثين في مختلف التخصصات، وهناك دورية علمية دولية قوية متخصصة في نشر الأبحاث والمقالات العلمية المتخصصة في تطبيقات الليزر في مجالات الطب والجراحة.

https://www.youtube.com/watch?v=J0NNhT8xEqk

ولدينا العشرات بل المئات من الاستخدامات الجوهرية والشكلية لليزر الطبي في كافة التخصصات منها على سبيل المثال لا الحصر، تذويب التكلسات الشديدة في الشرايين التاجية أثناء القسطرة القلبية، والكي بالليزر في شبكية العين في حالات السكر المتقدم والانفصال الشبكي، وعلاج الجلوكوما، وإزالة الشعر بالليزر بشكلٍ أكثر استدامة لدى السيدات، وتفتيت حصوات المسالك البولية… إلخ.

لكن في المقابل، استغل العديد من الأطباء المتعجَّلين في نيل الشهرة، تلك السمعة الجيدة لليزر كتدخل طبي متقدم، فرأيْنا إعلانات تروّج بعض الأوهام تحت عنوان الليزر، مثل علاج البواسير بالليزر من دون جراحة، وخياطة الجروح من دون أثر بالليزر، وإزالة الندوب الجراحية بشكلٍ تام بالليزر، وإزالة اللوزتيْن للأطفال بالليزر، وتصغير أو تكبير الثدي بالليزر… إلخ.

المضاد الحيوي

لا أمَل من تسليط الأضواء دائمًا على كارثة سوء استخدام المضادات الحيوية في مصر، والتي أدت إلى ما نشاهده من نتائج مزارع بكتيرية مخيفة تظهر تصاعد الإصابات بالبكتيريا المُقاومة لمعظم أو كل المضادات الحيوية المتاحة، والتي تجعلنا كأطباء نقف متفرجين بينما تفتك هيَ بمرضى الرعاية الحرجة، وأطفالٍ مصابين بالعدوى البكتيرية ولا ذنب لهم في هذا المصير الأسود.

اقرأ أيضًا: سوء استخدام المضادات الحيوية: انتحار جديد للبشرية.

وأيضًا: الأساطير المؤسسة لطب الأطفال في مصر: أسطورة المضاد الحيوي.

أغلب أدوار البرد، وإصابات الجهاز التنفسي العلوي، والتهابات الحلق واللوزتيْن، هي إصابات فيروسية، لا يوجد داعٍ مطلقًا لإعطاء المضادات الحيوية معها، فتلك المضادات لا تستهدف سوى البكتيريا. وهذا الاستخدام غير السليم لها يعرضنا لظهور سلالات البكتيريا المقاومة، فهو أشبه بعرض أسلحتنا دون معركة أمام العدو. واستخدام المضادات الحيوية في مثل تلك الحالات لا يسرعَ الشفاء، وإن تحسنت بعض الحالات بعد تعاطيها، فهذا لأنها كانت ستتحسن ذاتياً كمعظم الإصابات الفيروسية.

اقرأ: مجموعة البرد: هيا ندمر المناعة ونغذِّي البكتيريا.

كذلك فإن الاستخدام العشوائي للمضادات الحيوية، يؤذي مجموعات البكتيريا النافعة التي تعيش في جهازيْنا الهضمي والتنفسي، والتي تعتبر جزءًا من جهاز المناعة المحلي، وتساهم في التوازن الفطري، والوظائف الطبيعية لهذيْن الجهازيْن.

تسليك الشرايين والدعامات الذكية وأشياء أخرى

كطبيب متخصص في أمراض القلب والقسطرة الطبية، أجد العديد من الخرافات الخطيرة الرائجة في تخصصي، والتي لا يتسع المجال لحصرها جميعًا، لكنني سأمر سريعًا على ثلاثةٍ منها تتعلق بالقسطرة القلبية، والتي تعتبر من أهم التدخلات الطبية إذا استُخدمَت بالشكل العلمي والطبي السليم الذي تدل عليه الأدلة العلمية والدراسات القوية:

  1. القسطرة ليست سحرًا، وليست بديلًا عن العلاج الدوائي، فهما متكاملان، سواءً كان الدافع لإجرائها هو الجلطات الحادة الكلية أو الجزئية، أو القصور المزمن الشديد غير المستجيب لكافة العلاجات الدوائية المتاحة. بالفعل عصمت القسطرة كثيرين من جراحات القلب وتركيب الوصلات الشريانية على شرايين القلب المسدودة، وتطورت الدعامات وكافة أدوات وآليات القسطرة كثيرًا في السنوات الأخيرة، لكن إن أهمل المريض المتابعة الطبية، وتعاطى كافة العلاجات، فسيتكرر انسداد الدعامات، والإصابة بجلطات القلب، والوفاة المفاجئة.
  2. لا يوجد في القسطرة ما يُسمى تسليك الشرايين، فشرايين القلب ليست مواسير مياه أو صرفاً صحياً. وللأسف فإن بعض زملاء التخصص مسئولون عن رواج تلك الخرافة، الذين يشعرون بالحرج من إبلاغ المريض بأن القسطرة القلبية التشخيصية أظهرت سلامة شرايينه وخلوِّها من أي ضيقات جوهرية، إذ قد يتهمهم المريض أو أقرباؤه بأنهم أجروْا له القسطرة دون داع، فيدّعون أنهم (سلَّكوا) الشرايين. الحالة الوحيدة التي يوجد فيها واقعيًا ما يشبه تسليك الشرايين، هو قلة من حالات الجلطة الحادة بالشريان، والتي يكون فيها الشريان المصاب مُكتظًّا بالجلطات، فتُستَخدم قسطرة خاصة لشفط الجلطات أولاً، حتى يتسنَّى وضع الدعامات.
  3. لا يوجد دعامات ذكية. الدعامات هي شبكة معدنية دقيقة، تُنفخ بواسطة بالونة دقيقة في أماكن ضيق شرايين القلب أو الجلطات، لفتح وتوسيع الشريان، واستعادة التغذية الدموية الطبيعية، وفي السنوات الأخيرة تطورت الدعامات كثيرًا في تقنية التصنيع، ودقته، والمعادن المستخدمة، لكن كان التطور الأبرز بظهور أجيالٍ متتابعة من الدعامات الدوائية، والتي تزوَّد ببعض المواد التي تقلل فرص ضيق وانسداد الدعامات، وهذه الدعامات الدوائية هي التي توصَف تسويقيًا بالدعامات الذكية، وهو الوصف الذي قد يُشعر الشخص العادي أنها مزودة بشريحة كمبيوتر دقيقة مثلًا، أو أنها تظهر بعض جوانب الذكاء الاصطناعي.

اقرأ: أهم ما ينبغي معرفته عن قسطرة شرايين القلب.

المقويات

اكتبلي حبوب مقوية يا دكتور.

لا يكاد يمر يوم على أيِّ طبيب مصري دون أن يُطلَب منه هذا الطلب. يؤمن المصريون كثيرًا بقدرات سحرية في أقراص الفيتامينات التي تُباع في الصيدليات، ويؤكد بعضهم أن حقنة الفيتامين هذا، أو أقراص الفيتامين ذاك، تُشعرُهم بالسعادة والحيوية والقوة.

المعلومة الأولى أنه إن صحّ هذا الشعور، فهي تأثر نفسي بالإيحاء Placebo Effect، وهو مبدأ شهيرٌ في عالم الطب، فالمريض عندما يقتنع بشدة بفعالية شيءٍ ما -ولو كان سكاكر مُحلّاة- على أنه دواء، فقد يتحسّن بشكلٍ جزئي، ولو إلى حين.

أقراص الفيتامينات لا تفيد قطعًا إلا من يعانون من نقصٍ منها، أو حاجة طبية لها. فمثلًا مرضى فشل الكبد المزمن، لا تستطيع خلايا كبدِهم تخزين فيتامين ب-12، فيجب تعاطيه دوائيًا، بينما يصفه الأطباء لمرضى السكري، لأنه يساهم في حمايتهم من التهاب الأعصاب الطرفية شديد الذيوع لدى هؤلاء المرضى. أمّا إذا تعاطاه مريضٌ سليم، فالمستفيد الأول والأخير هو شركة الدواء المنتجة للفيتامين.

من الظواهر الخطأ هنا أيضًا، شيوع تناول أقراص الحديد كنوع من المقويات، بينما هي في الأصل مخصصة لعلاج أنيميا نقص الحديد، أو للمرشحين بقوة للإصابة بها، كالحوامل الذين يستنزف أجنّتهم احتياطات الحديد في الجسم. وهذا خطأٌ مركب، لأنها لن تفيدَ المريض فحسب، إنما قد تسبب له بعض الأضرار الصحية، مثل التهاب وقرحة المعدة، والإمساك، والقيء.

اقرأ: الأنيميا: هل تُصلح أقراص الحديد والفيتامين كل شيء؟

أمّا المقويات الحقيقية، فهي النوم الجيد، والرياضة المنتظمة ولو المشي لثلث ساعةٍ يوميًا، والأكل الصحي المتنوع.

المحلول

طب علّق له محلول حتى يا دكتور ألحقه بيه، على ما تعرفوا حالته وتعالجوه.
أقوال مأثورة.

تحمل قضية المحاليل الوريدية في مصر أبعادًا نفسية وعاطفية واجتماعية. يعتقد المصريون أن الطبيب الذي لا يبادر المريض في غرفة الطوارئ أو على سرير العناية بالمحلول الوريدي، يفتقر إلى آداب الضيافة والكفاءة الطبية معًا. ولو شاءت الأقدار، وتُوفي المريض في تلك اللحظة، بينما لم تكن قطرات المحلول تسري في دمائه بالفعل، فالطبيب في نظر أهل المريض هو قاتل بالإهمال مع سبق الإصرار والترصُّد، وأصبح الاعتداء على هذا الطبيب القاتل باللفظ وباليد هو دفاعُ شرعي عن النفس.

في الواقع، لا تحمل المحاليل الوريدية في ذاتها سحرًا خاصًا، بالأخص المحاليل الرائجة مثل محلول الملح المخفف 0.9% والجلوكوز المخفف 5%. لكنها حين تُستخدم في ضرورتها الطبية، فإنها قد تنقذ حياة مريض، مثل حالات الحوادث المصحوبة بنزيف، وهبوط في الدورة الدموية. وهناك العديد من الأدوية التي تُحل في مثل تلك المحاليل وتُعطى وريديًا، وتستخدم بشكلٍ طاريء في العديد من الحالات الطبية الطارئة، مثل مذيب الجلطة streptokinase في حالات جلطة الشريان الرئوي الحادة، أو الكورتيزون بجرعة كبيرة في حالات تفاقم الأمراض المناعية مثل الذئبة الحمراء… إلخ.

في المقابل، هناك بعض الأمراض يكون فيها إعطاء المحاليل الوريدية مُضرًا للغاية، مثل حالات الضعف الشديد في عضلة القلب، وما يصاحبها من ارتشاحٍ رئوي، أو حالات الفشل الكلوي المزمن… إلخ.

اقرأ: 8 أسئلة توضح لك الفائدة الحقيقية للمحلول في أقسام الطواريء.

أدوار البرد… أسطورة السمك واللبن والبيض

ستجلبُ لي هذه الفقرة عداءَ ملايين الأمهات، والذين يعتبرون تناول السمك أو الألبان أو البيض من أكبر الكبائر الصحية في حالة إصابة أطفالهم بأدوار البرد أو الإنفلوانزا، فالاعتقاد السائد لديْهنَّ أن هذا قد يفاقم الأعراض، وقد يُسبِّب مضاعفات صحية خطيرة.

في الواقع، لا يوجدُ أيُّ دليلٍ علمي على أيٍّ من هذا، بل على العكس، فتناول السمك مفيدُ لجهاز المناعة بوجهٍ عام، لاحتوائه على الأوميجا-3 الذي يعمل كمضاد للأكسدة، ويُقلل تضرر الأنسجة من الالتهابات. والزبادي كذلك مفيدٌ للمناعة أثناء أدوار البرد والإنفلوانزا. أمّا ما ينبغي منعه فعلًا مع أدوار البرد والإنفلوانزا فهو الكحول والكافيين والأطعمة المصنعة مثل الشيبسي… إلخ، لأنها إمّا مُضرة تسبب الجفاف والتهاب المعدة وتُضعِف المناعة، أو في أقل الأحوال سوءً لا تفيد وتحتل مكان الطعام الصحي الأكثر فائدة.

الخلاصة

ما ذكرته في الفقرات السابقة هو غيضٌ من فيض، ودفعني ضيق المساحة إلى التركيز على الخرافات واسعة التأثير، والتي تتجاوز حدود التخصصات، لكن لكل تخصص العديد من الخرافات الصغيرة الخاصة به، والإحاطة بكل هذا يحتاج إلى مجلدات.

وعلى الأطباء- كل في تخصصه ومكانه- المسئوليةُ الأولى في دحض تلك الخرافات، أو على الأقل عدم مجاراتها لأغراض عديدة، أقلها (إراحة الدماغ) وأسوأَها مكاسب مادية ضيقة.