رأيتُ ضابطًا في الجيش الإسرائيلي هنا في بغداد.
أسعد، لاجئ فلسطيني. [1]

في تمام الساعة التاسعة والربع من مساء الثامن من إبريل/ نيسان عام 1950، مرَّت سيَّارة، من أمام مقهى «الدار البيضاء» اليهودي الواقع في شارع أبي نواس في بغداد، أُلقِيَت منها قنبلة يدوية على مجموعة من الشباب اليهود الذين كانوا يحتفلون بعيد الفصح، تَسَبَّبَت في إصابة 4 بجروح خطيرة. بعدها مُباشرةً وزعت جهات مجهولة منشورات تحث اليهود على الرحيل إلى فلسطين المُحتلة.

وفي 14 يناير/ كانون الثاني من عام 1951، في حوالي الساعة السابعة مساءً، ألقيت قنبلة في فناء كنيس «مسعود شمتوف» في بغداد. كان الفناء بمثابة مكان لتجمع اليهود قبل مغادرتهم إلى فلسطين المحتلة. في وقت الهجوم، كان المكان ممتلئًا بمئات الأشخاص. قُتل أربعة، بينهم صبي يبلغ من العمر 12 عامًا. وأصيب نحو عشرة. أيضًا تم توزيع منشورات تحث اليهود على ترك أرض العراق.

وما بين عامي 1950 والعام التالي وقعت حوادث مُشابهة.

المُسلمين؟

حتّى اليوم مازالت إسرائيل تتهم المُسلمين، لكنّ تقريرًا للسفارة البريطانية في بغداد تم بثه إلى لندن يُقيّم دوافع الهجوم على كنيس «مسعود شمتوف»، ويقول:

أراد نشطاء الحركة الصهيونية تسليط الضوء على الخطر على يهود العراق، من أجل تحفيز دولة إسرائيل على تسريع وتيرة هجرتهم.

في ذلك الوقت، كان هناك نقاش جاد في إسرائيل حول هذه القضية، وتمنى البعض إبطاء معدل الهجرة من العراق. يقول «صدِّيق صدِّيق»، يهودي عراقي وناشط سياسي:

إحدى الوسائل التي استخدمت لإرغام يهود العراق على مغادرة وطنهم هي أن الحركة الصهيونية، بواسطة عملائها، نفذت تفجيرات في كنس اليهود، من أجل أن يُقال: العرب يفجرون الكنس كي يطردوا اليهود.

قدمت السفارة البريطانية تفسيرًا محتملاً ثانيًا:

الهدف هو التأثير على اليهود الأثرياء في العراق الذين يرغبون في البقاء هناك، لحملهم على تغيير رأيهم والقدوم إلى إسرائيل.

ألقت السلطات العراقية باللوم على ناشطين من الحركة الصهيونية السرية وقامت بإعدامهما. وبحسب شهادة الضابط العراقي «عبد الرحمن حمود السامرائي» فإن «شالوم صالح شالوم» اعترف ودل عن مكان وجود الاسلحة في بيت «يوسف خبازة» المسئول في منظمة «شورا»، وهي الجناح العسكري للحركة الصهيونية السرية، كما كانت المنظمة تستخدم الكنس اليهودية لتخبئة الأسلحة.

كان رجل الموساد الرئيسي في بغداد «مردخاي بن بورات» متورطًا في تلك الحوادث والتفجيرات، وأطلق عليه اليهود العراقيين في اسرائيل «مراد أبو القنابل»، حيث مراد هي الصيغة العربية من مردخاي.

فلسطين-بغداد

قبل أنّ يُغادر «أسعد» عكا في فلسطين، أدى خدمة لابن عمّه المريض، واحتل مكانه كـ نادل في مقهى بالقرب من مجمع الحاكم العسكري، ظلّ «أسعد» لأسبوع يسير في أروقة مبنى الحاكم العسكري حاملًا صينية نحاسية مُزخرفة، ومقدمًا أكواب من القهوة التركية لضباط الجيش الإسرائيلي، وقد علقت وجوه بعض الضباط الشباب في ذهنه.

وبعدها بوقت قصير ترك «أسعد» منزله وبلدته وحياته وأصبح لاجئًا في بغداد، وتوّلى بيع ربطات العنق وفي متجر «أوروزدي باك» في شارع الرشيد ببغداد، وفي الثاني والعشرين من مايو/آيار من عام 1951 بينما كان «أسعد» يؤدي عمله المُعتاد في المتجر، لاحظ وجهًا مألوفًا بالنسبة إليه. قال في نفسه: «هذا مُستحيل». قام أسعد بإبلاغ الشرطة قائلًا: «رأيتُ ضابطًا في الجيش الإسرائيلي هنا في بغداد».

وبدأت قصّة مُثيرة.

حينما ألقت الشرطة العراقية القبض على الرجل ذو الملامح الأوروبية كان بصحبته يهودي عراقي يُدعى «نسيم موشيّه». أدّعى الأخير أنه ألتقي هذا السائح في حفلة موسيقية وطلب منه اصطحابه إلى المتاجر. عُزل الاثنين عن بعضهما وتم التحقيق معهما على انفراد. تحت التعذيب تمسك «موشيّه» بروايته، وأنه لم يلتقي بهذا السائح من قبل، وبعد أسبوع أطلقت الشرطة العراقية سراح «موشيّه»؛ النحيل صاحب النظارة الطبية لأنه لا يُمثل أيّ خطورة.

أمّا السائح فظل يُردد أنّه إيراني، اسمه «إسماعيل صالحون»، وقدّم جواز سفره الإيراني. إلا أنّه لم يستطيع نطق كلمه فارسيّة واحدة، فواصل المحققون تعذيبه. وحينما تمت مواجهته بأسعد، تجمد الدم في عروقه وخرّ كل شيء. «اسمي؛ يهودا تاغار، نقيب في الجيش الإسرائيلي».

اصطحب المحققون تاغار إلى الشقة الّتي كان يسكنها، كسروا الأثاث، وفتشوها بدقة، اكتشفوا كميّة من الوثائق في ملف ضخم مُثبت أسفل درج مكتبه.

لماذا أتيت إلى هنا؟

بحسب «ميخائيل بارزوهار» و«نسيم ميشعال»: وصل تاغار البالغ من العمر 27 عامًا إلى بغداد من أجل فصل شبكات التجسس عن المنظمات السرية اليهودية التي كانت تعمل لصالح إسرائيل، لأن سقوط واحد يجر معه الآخرين بسهولة. وكانت تلك هي مهمة تاغار الأولى في الخارج. [2]

لكن الحقيقة أن «تاغار» كان في بغداد من أجل هدف آخر: المزيد من القنابل… والمزيد من القتل من أجل حث اليهود على مُغادرة العراق. وهذا ما يؤكده بيان الحكومة العراقية الصادر في السادس والعشرين من يونيو/حزيران، أعلن فيه اكتشاف حلقة تجسس في بغداد يديرها أجنبيان، تم توقيفهما، الأول «يهودا تاغار»، وهو ضابط إسرائيلي والآخر «رودني» (روبرت رودني)، بريطاني الجنسية سرعان ما اتضح أنه ضابط مخابرات إسرائيلي. كما أُعلن عن القبض على «أكثر أعوان» هذين الرجلين، والذين تبين أنهم كانوا مسئولين عن سلسلة التفجيرات التي استهدفت عدداً من المباني والمصالح والمعابد اليهودية، واليهود أنفسهم، والتي بدأت في العام 1950.

في الأيام التالية لاعتقال «تاغار» انهار التنظيم السري وتوالت اعتقالات أعضائه، واكتشفت الشرطة العراقية وثائق تربط بعض اليهود بعمليات التجسس تحت بلاط كنيس «مسعود شمتوف». وعثرت الشرطة على مخبأ كبير للأسلحة جمعها اليهود على مرّ السنوات، قنابل يدوية ومُسدسات آلية ومدافع رشاشة.

«زكي حبيب»

كانت اتصالات تاغار تمر عبر قائد كل الشبكات في بغداد، وكان اسمه المُعلن؛ «زكى حبيب». ولا يعرفه سوى مجموعة قليلة. وفي التحقيقات برز اسمه، لكن لا أحد يعرف هويته الحقيقية ولا أين هو؟

مُحقق عراقي مُحنّك ربط بين «زكي حبيب» وبين النحيل الطيب «نسيم موشيّه»، الذي تم القبض عليه مع «تاغار» وأطلق سراحه لأنه لا يُمثل أي خطورة.

جرت عمليات تفتيش ومُطاردات لكن «موشيّه» كان قد اختفى مثل الشبح. في الحقيقة كان في مكان لن تتوقعه الشرطة، كان في السجن.

بعد بضعة أيام من إطلاق سراح «موشيّه» طرقت الشرطة العراقية باب بيته، وصاح رجل من الخارج بصوت قوّي: افتح الشرطة… انهار موشيه وعلم أنها نهايته وأن حبل المشنقة في انتظاره. استسلم وفتح الباب، تظاهر بالغباء وسأل الشرطة عما فعل؟

رد الشرطي: «لا شيء مُجرد حادث سيارة، ارتد ملابسك».

كان «موشيّه» متورطًا في حادث صدم سائق دارجة هوائية، وتجاهل استدعاء المحكمة إليه.

عُقدت له محكمة سريعة وحُكم عليه بالسجن لمدة أسبوعين. وهكذا أنقذته المحكمة من الاعتقال. [3]

مر الأسبوعين؛ قبل إطلاق سراح «موشيّه» نُقل من «السجن المركزي في بغداد» إلى المقر الرئيسي لآخذ بصماته، وهنا عرف أنه سيُفضح أمره وأن هويته الحقيقة ستظهر من بصماته. سار مع حارسيه وحينما وصل الثلاثة إلى «سوق الشورجة»، دفع حارسيه وجري مُختفيّا بين الأزقة الضيقة الملتوية وبضاعة التجار وصياح الباعة على بضائعهم، لم يهتم الحارسين بهذا المجنون الذي يهرب قبل إطلاق سراحه بأقل من ساعة.

حينما أبلغا عمّا حدث، فُتحت أبواب الجحيم، فقد تركا المطلوب الأول في العراق «زكي حبيب» يفرّ من بين أيديهم. أعلنت الشرطة أنها توصلت إلى شكل الجاسوس الخطير «زكي حبيب». وسخرت الصحافة من حماقة الحكومة، وسألت إحدى الصحف: «أين حبيب»، وأجابت: «حبيب في تل أبيب».

في الحقيقة لم يكن اسمه «زكى حبيب» أو «نسيم موشيه» كان اسمه الحقيقي «موردخاي بن بورات»!

ليلة الهروب الكبير

في ذات الوقت كان هناك جسر جوي لنقل اليهود من العراق عن طريق قبرص، وكانت الطائرات تُقلع كل ليلة تقريبًا ضمن عملية «عزرا ونحميا» في إشارة إلى سفرين من أسفار التوراة. سمح العراق لليهود بالرحيل علنًا.

كان رئيس الوزراء «نوري السعيد» يرى أن كثرة المُهاجرين إلى إسرائيل سيفوق قدرتها على الاستيعاب، وفي النهاية سيؤدي ذلك إلى الانهيار. [4] كما أنه رغب في وضع حدٍّ لنزيف الثروة الوطنية العراقية الذي كان اليهود يتَسَبَّبَون به من جراء هجراتهم السرية من العراق إلى فلسطين بتنظيم العصابات الصهيونية، مهرّبين معهم أموالهم الطائلة إلى خارج العراق.

في تل أبيب تم وضع خطة جريئة لإحضار «بورات» من مخبأه في بيت أحد الأصدقاء في بغداد. ففي ليلة 12 يونيو، ارتدى «بورات» ملابس رمادية، وركب سيارة أجرة، وطلب من السائق التوجه إلى مطار العلاوي، جلس في المقعد الخلفي وتظاهر بالنوم كالسكران، وفي رواية أخرى أنه ركب سيارة بصحبة فتاة وشاب. [5]

نزل «بورات» في شارع خلفي بالقرب من المطار في تمام الساعة الواحدة والنصف بعد منتصف الليل، تأكد «بوارات» أنه أصبح وحيدًا (وحسب الرواية الأخرى أن الفتاة والشاب انتظرا)، تسلل «بورات» إلى داخل المطار من فتحة تم إعدادها مُسبقًا في السياج، وعلى المدرج كان ثمة طائرة انتهت على الفور من تحميل المُهاجرين، فجأة؛ وجه الطيار الأنوار ناحية برج المراقبة فأعمي المراقبين الجويين بشكل مؤقت (أرى سذاجة الرواية)، قامت الطائرة بتسفير مُحركها لمدة عشر ثوان. استعدت الطائرة للإقلاع وفُتح بابها الخلفي، وتدلى منها حبل (أو سلم حسب الرواية الأخرى)، وعندها خرج «بورات» من الظلام وأمسك بالحبل، وتم رفعه إلى داخل الطائرة أقلعت فورًا.

بعد بضع ساعات أصبح «بورات» في تل أبيب. [6]

«بورات» سيُصبح فيما بعد عضوًا في الكنيست. وفي عام 1979 أُرسل إلى إيران (لإنقاذ) اليهود هناك، وفي إبريل/نسيان 2011 حصل على جائزة إسرائيل لدوره المفصلي في هجرة اليهود العراقيين. لكن الحقيقة أنّه كان يقتلهم.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.

المراجع
  1. ميخائيل بارزوهار ونسيم ميشعال، “الموساد: أكبر مهام جهاز المخابرات الإسرائيلي”، ترجمة: زينة إداريس، الدار العربية للعلوم ناشرون، الطبعة الأولى، 2013، ص 44.
  2. المرجع السابق، ص ص 44-45.
  3. غازي السعدي، “شلومو هيلل وتهجير يهود العراق”، دار الجليل للنشر والأبحاث الفلسطينية، الطبعة الثالثة، 2015، ص 336.
  4. المرجع السابق، ص 329.
  5. “الموساد: أكبر مهام جهاز المخابرات الإسرائيلي”، مرجع سبق ذكره، ص ص 47-48.
  6. “شلومو هيلل وتهجير يهود العراق”، مرجع سبق ذكره، ص ص 337-338.