مسجد وقصر ومحراب: ماذا بقي من الأمويين في سوريا؟
تُخبئ دمشق في جعبتها الكثير من القصص والحكايات، التي تناقلها المؤرخون على مرّ الزمان، فهي من أقدم المدن المأهولة في السكان في العالم، وهي عاصمة الدولة الأموية التي أسسها الخليفة معاوية بن أبي سفيان، واستمرت قرنًا من الزمن (41- 132هـ/166- 750 م).
عاشت دمشق أجمل أيامها في عصر الدولة الأموية، حيث اهتم الأمويون بفن العمارة، وانتشر بناء المدن والمساجد والقصور، ولا يزال بعضها يحكي عظمة الفن العربي الإسلامي في ذلك الزمن المبكر من عمر الدولة الإسلامية.
وما زالت دمشق تفخر بما بقي من إرثها الأموي الحاضر في حجارتها إلى الآن، رغم زوال القسم الأكبر منه.
من هم الأمويون؟
هُم أسرة عربية قرشية من مكة، خرج أفرادها مع جيوش الفتح وعلى رأسهم معاوية بن أبي سفيان الذي شارك في فتح دمشق 14هـ/635م، ولم يلبث أن صار واليًا عليها بعد سنوات قليلة من فتحها، وبعد نحو عشرين عامًا تمكن من أن يصبح خليفة للمسلمين 41-61هـ/661-680م ويتخذ من دمشق قاعدة وعاصمة له.
واهتم الأمويون بتقديم بمشروع فني معماري وعلى رأسهم عبد الملك بن مروان خامس الخلفاء الأمويين، الذي يعود إليه الفضل في إطلاق مشروع حضاري عربي أموي كانت العمارة والفنون من أبرز مظاهره.
وبعد أن تُوفي عبد الملك ازدهرت في عصور أولاده، الوليد وسليمان ويزيد وهشام، العمارة على نحو رائعٍ، خصوصًا في عهدي: الوليد، وهشام، واهتم الرجلان بفنون العمارة وطرزها. ويعتبر الجامع الأموي الذي شيده الوليد بن عبد الملك، أبرز ما بقي من الحضارة الأموية في دمشق.
الجامع الأموي في دمشق
نشرت الموسوعة العربية للآثار دراسة للدكتور غزوان ياغي تحدث فيها عن أسباب تشييد الجامع الأموي وكتب: بعد قيام الدولة الأموية 41هـ/661م واتساع حدودها كانت هناك حاجة ملحة لإقامة جامع كبير يليق بعظمتها، وازدياد عدد سكان دمشق، كما زاد عدد المسلمين فيها، وضاق بهم المسجد الأول، ولم يعد يتسع للأعداد الكبيرة من المسلمين.
ويقع الجامع الأموي في قلب مدينة دمشق القديمة، وتُعدّ أرضه من أقدم الأجزاء التي عُمرت فيها، فهي أرض مقدسة أُوقِفت للعبادة منذ آلاف السنين، أقيم فيها معبد للإله «هدد» الآرامي في مطلع الألف الأول قبل الميلاد، ثم شيّد على أنقاض المعبد الآرامي معبد للإله «جوبيتر» Jupiter بُعيد دخول الرومان لسوريا سنة 64ق.م
ثم شيدت في عهد الإمبراطور «ثيودوسيوس» بعد إعلان المسيحية دينًا رسميًا للبلاد سنة 392م كنيسة حملت اسم القديس يوحنا المعمدان، يرجح أنها كانت تحتل الجانب الغربي من الهيكل، وقد ظلت حتى عهد الوليد بن عبد الملك (سادس الخلفاء الأمويين).
وقام الوليد بعدها بهدم كل ما كان قائمًا داخل جدران الهيكل بما فيه الكنيسة والمسجد، وشّيد جامعه وفق مخطط جديد مبتكر يتجاوب مع شعائر الدين الإسلامي وأغراض الحياة العامة، فجاء فريدًا بهندسته، لم يُبنَ على نسقه أي بناء آخر، ووضَعَ به مبادئ إنشاء الجوامع الكبرى التي شيدت بعده في العالم الإسلامي. وظل المعماريون عدة قرون يستوحون منه، وينسجون على منواله.
حي قصر الحجاج في دمشق
وفي زيارة إلى دمشق القديمة، ندخل من باب سوق الحميدية، ونتوجه جنوبًا إلى حي الميدان، نمر بمنطقة الدروشية، يستقبلنا جامع السنانية، ثم ندخل باب الجابية، لنصل بعدها إلى حي قصر الحجاج، هذا الحي القديم، ذكره ابن عساكر في كتابه «تاريخ دمشق»، في عداد الأحياء الواقعة خارج سور دمشق الأثري، وقال إن القصر يُنسب إلى الحجاج بن يوسف الثقفي، بناه عندما كان أميرًا على دمشق، ثم توسع الحي من بعده وبقي يحمل اسمه إلى وقتنا الحالي رغم زوال القصر.
يقول نزار قضماني، 72 عامًا، أحد أبناء الحي، لـ«إضاءات»: أسكن هنا منذ عشرات السنين، ورثت بيتي العربي الدمشقي عن أبي، الذي ورثه عن جدي، وتنتشر في هذا الحي البيوت العربية الواسعة، والدكاكين التجارية الملتصقة ببعضها، والبيوت الترابية القديمة ذات الطابقين، ونوافذها الخشبية الكبيرة المطلة على الشارع، واتخذ حيّنا اسمه من قصر كان يسكنه في العهد الأموي الحجاج بن يوسف الثقفي، قبل أن يذهب واليًا إلى العراق، حيث أحب الحجاج هذه المنطقة التي كانت في أيامه تمتلئ بالأشجار والبساتين.
نهر بردى
وقبل أن نغادر دمشق القديمة، لابد أن نذكر نهر بردى، الذي ينبع من بحيرة نبع بردى في جنوب الزبداني على سلسلة الجبال السورية شمال غرب دمشق، ويصب في بحيرة العتيبة جنوب شرق مدينة دمشق، مارًا بمدينة دمشق ودمشق القديمة والغوطة، ويقسم على سبعة أنهر: أربعة غريبة، وهي داريا والمزة والقنوات وبانياس، واثنان شرقية وهما يزيد وتورا.
وكان نهر يزيد صغيرًا لا يسقي إلَّا قريتين من قرى الغوطة، فلما ولي يزيد بن معاوية ثاني خليفة للمسلمين في دمشق أَمَرَ بِحَفْره، أخبرنا ذلك ابن عساكر في كتابه تاريخ دمشق فقال: ولي يزيد فنظر إلى أرضٍ واسعة ليس لها ماء، فنظر إلى نهر يزيد فإذا هو صغير، فأَمَرَ بِحَفْره، فمَنَعَه من ذلك أهل الغوطة ودافعوه، فلطف بهم على أن ضَمِنَ لهم خراج سنَتِهم من حاله، فأجابوه إلى ذلك، فاحتفر نهرًا سعة عرضه ستة أشبار في عمق ستة أشبار على أن له ملء جنبتيه.
الجامع الأموي الكبير في حلب
من العاصمة ننتقل إلى الشمال، حيث تنتظرنا حلب المدينة المعلقة في قلوب السوريين، التي تشهد حجارتها على ماضيها العريق، نقف أمام الجامع الأموي الكبير آخر ما بقي من الحضارة المعمارية الأموي في مدينة حلب القديمة.
ويقول المؤرخ السوري محمد قجة، في الكتاب التذكاري لأعمال ترميم الجامع الأموي الكبير في حلب بين عامي 1999 و2005، إن ابن شداد ذكر أن موضع الجامع كان بستانًا للكنيسة العظمى أيام الروم في القرن الأول الهجري (السابع الميلادي)، ولما فتح المسلمون حلب صالحوا أهلها على موضع المسجد.
وبحسب الكتاب ذاته، ذكر سبط بن العجمي (مؤرخ سوري من حلب): أنه لما فتح أبو عبيدة بن الجراح باب انطاكية (أحد أبواب مدينة حلب القديمة)، رسم صحابة رسول الله حدودًا في بستان الكنيسة، واتفقوا أنهم ضمن هذه الحدود سيبنون جامعًا، ولم يرَ الجامع النور إلا في العهد الأموي.
ويذكر ابن الشحنة نقلاً عن ابن العديم، أن سليمان بن عبد الملك جدد الجامع، أو أعاد بناءه وفق مخطط جديد يضاهي جامع الوليد في دمشق، وتشير بعض المعلومات إلى أن الوليد هو الذي شرع بناء جامع حلب، وأكمله سليمان من بعده.
ويقول المؤرخ السوري محمد قجة في كتابه «ترميم جامع حلب الكبير»: ليس لدينا أية معلومات عن مخطط الجامع كما اختطه أو رسمه الصحابة وقت فتح حلب أي عام 17 هـ، لذلك فإننا يُمكن القول إن تاريخ بناء الجامع يعود إلى عهد الفتح الإسلامي، لكن كل المعلومات المعمارية التي نعرفها عنه تختصُّ باللحظة التي قرّر فيها سليمان بن عبد الملك إعادة معماره.
ويضيف: الشكل العام للبناء الذي أخذ صورته أيام سليمان بقي على مدى التاريخ من حيث الطول والعرض ومكان القبلة والصحن والأبواب، مع بعض الإضافات والتغييرات أيام نور الدين الزنكي، وتعرّض البناء للتجديد وكما تم تجديد المئذنة الحالية نتيجة أعمال الهدم والحرائق التي لحقت بالجامع.
تعرض الجامع الأموي الكبير في حلب لأضرار في بنائه الخارجي، وسُرق منبره خلال الحرب في سوريا. وتجري حاليًا عمليات ترميمه بوتيرة سريعة، تحت إشراف لجنة متخصصة من عدة جهات رسمية، لإعادته إلى شكله السابق، مع الحفاظ على تراثه التاريخي.
يقول مدير مشروع ترميم الجامع الأموي الكبير في حلب الدكتور صخر علبي لموقع إضاءات: إن البنية المعمارية الأموية لا تزال موجودة وواضحة في الجامع، وعندما نقول أموية أي قبل 1300 عام، خلال السنوات اللاحقة لبنائه تركت الحضارات المتتالية بصماتها داخل الجامع، لكن البنية المعمارية الأساسية بقيت ذاتها.
ماذا بقي من العمارة الأموية داخل الجامع؟ يقول علبي: تحمل الجوامع الأموية سمات محددة، عندما نرى مئذنة مربعة الشكل، كمئذنة الجامع الأموي الكبير في حلب، لابد أن ندرك أنها أموية والواجهات الداخلية تطغى عليها بساطة الطابع الأموي رغم أنها تحمل بصمات العصور اللاحقة، والواجهة الرئيسية القبلية أموية والمصلى الرئيسي يتألف من 12 قوسًا، كلها أموية باستثناء قوس الوسط العثماني.
وعن مراحل ترميم الجامع يقول علبي: تنقسم عمليات ترميم الجامع الأموي الكبير في حلب إلى مرحلتين؛ الأولى بدأت في العام 1999 وانتهت في العام 2006 عندما كانت حلب عاصمة للثقافة الاسلامية، وخلال الحرب تعرضت أجزاء من الجامع للتدمير فبدأنا بالمرحلة الثانية من الترميم في العام 2017، وقمنا بترحيل الأنقاض من داخل الجامع، ولا تزال عمليات الترميم مستمرة.
رصافة هشام
تتكئ مدينة الرقة السورية على الضفة الشرقية لنهر الفرات، وعلى بعد ثلاثين كيلو مترًا من الرقة، تقع مدينة الرصافة، وتسمى «لؤلؤة البادية»، أسهم الخليفة الأموي هشام بن عبد الملك في عمرانها وازدهارها، فعُرفت باسم: رصافة هشام.
وبحسب وزارة السياحة السورية، تضم مدينة الرصافة، الكاتدرائية الكبرى، ويتموضع إلى جانبها وعلى جدارها الشمالي، محراب ومنبر مسجد هشام بن عبد الملك، الذي أحدثه داخل السور خلافًا لبقية منشآته العمرانية، وهذا كل ما بقي من مسجد هشام في الرصافة.
قصرا الحير الشرقي والغربي
ولم يكتفِ الخليفة الأموي العاشر هشام بن عبد الملك ببناء مسجد فقط، بل بنى قصر الحير الشرقي في قلب البادية السورية، ويبعد 110 كيلومترات شرقي مدينة تدمر الأثرية، وقصر الحير الغربي الذي يقع بين تدمر والقريتين (مدينة تتبع لمحافظة حمص على تخوم البادية السورية).
يقول خبير الآثار طارق الأسعد ونجل عالم الآثار السوري الراحل خالد الأسعد لـ«إضاءات»، إن الخليفة الأموي اهتم بالبناء والعمران، وجعل من قصر الحير الشرقي قصرًا خاصًا بالخليفة وعائلته، وقصر الحير الغربي قصرًا خاصًا بالحاشية، وبين القصرين تتموضع مئذنة عالية، وجامع على طرفه الجنوبي الشرقي.
لماذا بنى الخليفة الأموي هذه القصور؟ يقول الأسعد: جعل الخليفة من هذه القصور خاصة ومن مدينة الرصافة عامة استراحة له، فكان أثناء سفره بين دمشق وبغداد يستريح في قصر الحير الشرقي، ويحيط بالقصر بستان طوله 12 كيلومترًا، وعرضه 6 كيلومترات، عاشت فيه الغزلان، فأحب الخليفة الأموية المكان، ومارس هواية الصيد، وبنى سورًا حول البستان، ما زال موجودًا حتى الآن.
ويكمل الأسعد: جرى إضافة إلى قناة مياه أثرية تبعد عن القصر نصف كيلو متر، حيث برع الأمويون في تشييد قنوات جلب المياه، إذ إن قصر الحير الشرقي متواجد في منطقة خالية من مصادر المياه، كان يُغذى بالمياه من منطقة الكوم التي تبعد عنه بحوالي 30 كيلومترًا عنه، عبر قناة أرضية مصنوعة من الحجر الخالص بها نقاط تنظيف وتفتيش.
يعود الأسعد بذاكرته إلى العام 1964 عندما كان طفلاً صغيرًا ورافق والده عالم الآثار السوري الراحل خالد الأسعد مع بعثة جامعة ميتشيغان الأمريكية بقيادة البروفسور أوليغ غرابار يقول: جاءت البعثة إلى مدينة تدمر، وكنت شاهدًا على عمليات البحث والتنقيب والترميم، التي قامت بها البعثة الأمريكية بالتعاون مع المديرية العامة للآثار والمتاحف في سوريا، واستطاعت تحت قيادة والدي خالد الأسعد، ترميم السور الخارجي للقصر، واكتشاف قناة الري الصخرية، وإعادة تنصيب بعض الأعمدة.
ماذا عن قصر الحير الغربي؟ يشرح الأسعد: عند افتتاح المتحف الوطني في دمشق في العام 1936 تم نقل واجهة قصر الحير الغربي إليه، عندما تدخل إلى المتحف تستقبلك واجهة قصر الحير الغربي الأموي الذي يعود إلى الخليفة هشام بن عبد الملك عام 727م، والتي تنقل للزائر جمالية العمارة العربية الإسلامية، ومنها الباب الضخم ومجسمات ونوافذ أعيد ترميمها ودمجها مع بدايات الفن العربي الإسلامي المسمى الأرابيسك.
وعن حالة القصرين حاليًا يقول الأسعد: استمرت زيارة السيّاح لهذه القصور في قلب البادية السورية حتى بداية الحرب في سوريا في العام 2011، حيث توقفت السياحة بشكل كامل، وعندما احتل تنظيم «داعش» مدينة تدمر الأثرية في العام 2013 تعرّض قصر الحير الشرقي لبعض التخريب بحثًا عن الذهب والآثار.