موسيماني والأهلي: هذا لا يحدث كل يوم
بيتسو موسيماني مدربًا للأهلي، ماذا يملك هذا الرجل الجنوب أفريقي من تاريخ ليصبح على رأس فريق بعراقة الأهلي؟ لعبة كرة القدم ليست اللعبة الشعبية الأولى حتى في جنوب أفريقيا، ربما يكون مدربًا جيدًا لكن من المؤكد أنه لا يملك شيئًا استثنائيًا ليستعين به الأهلي. ثم إنه رجل وبصراحة أسود البشرة، فهل يستطيع استيعاب تلك الثقافة المختلفة في بلاد لا يتسيدها اللون الأسود؟
دارت تلك الأحاديث بشكل رسمي وغير رسمي في مصر عقب تولي بيستو موسيماني تدريب الأهلي رسميًا، بينما على الجانب الآخر كان هناك احتفاء ضخم بالرجل في بلاده. لكن تبقى عدة أسئلة حقيقية في تلك الأحاديث: ماذا تمتلك جنوب أفريقيا من تاريخ متعلق بالكرة؟ ولماذا كل هذا الاحتفاء بالرجل؟ وماذا يملك الرجل في المقابل؟ وهل يهتم بلون بشرته من الأساس؟ ولماذا تبدو قصته غاية في الرومانسية والمثالية على حد سواء؟
كرة القدم في جنوب أفريقيا وتاريخ إنساني
على بعد سبعة كيلومترات فقط من ساحل كيب تاون تقبع جزيرة معزولة تمامًا تدعى جزيرة روبن. شهدت تلك الجزيرة عددًا من المشاهد الموحشة عبر تاريخها، أيام من الصراخ ملطخة بالكثير من الدم، وليالٍ لا تنتهي من العزلة والقهر.
كانت تلك الجزيرة تستخدم كمحطة لصيد الحيتان ثم تحولت إلى مستعمرة للجذام وخلال الحرب العالمية الثانية تحولت إلى موقع عسكري متكامل، إلا أن أكثر المشاهد قسوة في تاريخ تلك الجزيرة حدث بحلول عام 1961.
قررت حكومة الفصل العنصري في جنوب أفريقيا تحويل الجزيرة إلى سجن شديد الحراسة للسجناء السياسيين المناهضين للفصل العنصري بطبيعة الحال. اكتسب سجن روبن سمعة سيئة نظرًا لظروفه شديدة القسوة. وعليه، لم تعرف تلك الجزيرة ما يدعو للبهجة إلا عبر نشاط وحيد وهو كرة القدم.
في البداية كان الرجال يلعبون سرًا في زنازينهم باستخدام كرات مصنوعة من الورق والكرتون والخرق. ثم في عام 1965 وبعد الضغط المستمر سمحت السلطات للسجناء باللعب خارج الزنازين أيام السبت. فقامت الفرق ببناء عوارض المرمى وتخلصوا من زي السجن الخاص بهم لتمييز ألوان الفريق.
تم تسريب كتاب لقواعد الفيفا لكرة القدم إلى السجن، وإنشاء دوري من ثلاث فرق وسجلات للجوائز وغرامات لانتهاك القواعد، حتى أنه تم إنشاء اتحاد كرة قدم حمل اسم واحد من أقدم المسجونين السياسيين وهو اتحاد الماكانا. كانت كرة القدم هي ما أبقت هؤلاء الشرفاء على قيد الحياة.
لم ترتبط الأهمية الاجتماعية والتاريخية للعبة في جنوب أفريقيا بسجن روبن وحسب، فأولى المباريات الموثقة في جنوب أفريقيا تعود لعام 1862 بين الموظفين المدنيين البيض والجنود في كيب تاون وبورت إليزابيث. لكن في نهاية المطاف أدت الأفكار البريطانية حول العرق والطبقة والجنس إلى الاستيلاء على الرجبي والكريكيت من قبل أصحاب البشرة البيضاء، وكرة القدم والملاكمة من قبل أصحاب البشرة السمراء.
عبر كرة القدم استطاع السود في جنوب أفريقيا السعي وراء رؤية اجتماعية ومكانة أكبر مما كانت تمنَح في مجتمع جنوب أفريقيا المنفصل. كما ساهمت في إضفاء الطابع الإنساني على حياة مواطني جنوب أفريقيا وجلبت البهجة إلى الناس الذين لا يملكون أي شيء آخر يبعث على السعادة، كما فعل مسجونو روبن. وكان أحد هؤلاء المساجين الذين تعلقت قلوبهم بكرة القدم، الأسطورة نيلسون مانديلا.
عن رجل أغفله التاريخ فقرر صناعته
بعد مرور خمسة وثلاثين عامًا بالتمام والكمال، تحديدًا في عام 1996، وقف مانديلا في قلب جوهانسبرج مرتديًا قميص منتخب جنوب أفريقيا يذرف الدموع فرحًا واحتفالًا بفوز منتخب البافانا بكأس الأمم الأفريقية لأول مرة في تاريخه.
استطاع لاعبون مثل دكتور كمالو وماسينجا ومارك فيش أن يكتبوا التاريخ لمنتخب جنوب أفريقيا الذي لم يتشكل إلا عام 1991 بسبب الحظر الدولي الناجم عن الفصل العنصري. وقد منع هذا الحظر العالم من مشاهدة العديد من لاعبي كرة القدم المتميزين في جنوب أفريقيا والذين فاتهم للأسف كتابة التاريخ.
أحد هؤلاء اللاعبين كان قد قرر لتوه أن يلعق حذاءه ويترك كرة القدم. هذا اللاعب كان يدعي بيتسو موسيماني.
لم يكن موسيماني لاعب كرة قدم عاديًا أبدًا، حيث بدأ صاحب القدم اليسرى ممارسة كرة القدم في شوارع روكفيل المتربة في سويتو، وسرعان ما انتقل إلى فريق يدعى الأسود الجائعة.
جذب موسيماني أنظار فريق جومو كوزموس، لينتقل إليه ويساعده على الفوز بلقب الدوري بتسجيله 11 هدفًا في 14 مباراة. لم يغب ذلك عن أنظار فريق صندوانز بأي حال فقرر شراء بيتسو وجعله أغلى صفقة انتقال في جنوب أفريقيا. لم يكتفِ موسيماني بذلك بل استطاع الاحتراف في اليونان وبلجيكا لسبع سنوات ثم قرر مسيرته رفقة فريق السد، بعد موسم واحد فقط مع النادي القطري.
لم يستطع موسيماني أن يصنع التاريخ رغم كل ما فعل. فلا هو واحد من أبطال كرة القدم في زمن الفصل العنصري ولا هو لاعب وقف بفخر أمام مانديلا حاملاً كأس الأمم الأفريقية. ربما يبدو هذا عاديًا للكثيرين لكن بيتسو مختلف، هو رجل شغوف بكرة القدم وتحقيق التاريخ. وكان التاريخ في جنوب أفريقيا يفتقد لمدرب صاحب بشرة سمراء.
لم يتحمل بيتسو أن يغفله التاريخ فقرر أن يصنعه مدربًا. وقد بدأ تلك الرحلة رفقة فريق سوبر سبورت ذي الميزانية المتواضعة، محققًا نتائج جيدة. ثم عمل كمدرب مساعد للبرازيلي بيريرا مدرب منتخب جنوب أفريقيا خلال كأس العالم ثم تولى تدريب منتخبه الوطني لفترة قصيرة ثم انتهى به الأمر رفقة صنداونز.
هنا، قرر موسمياني إثبات أن المدرب صاحب البشرة السمراء قادر على مجاراة الجميع بل والتفوق عليهم، ليصبح أول مدرب أسود البشرة يحقق لقب الدوري الجنوب أفريقي رفقة صنداونز.
من الغريب أنه في بلد غالبية سكانه من السود، لم يكن هناك سوى مدرب أسود واحد قادر على قيادة فريق للفوز بلقب الدوري المحلي. لقد استغرق الأمر 18 عامًا منذ بداية المسابقة حتى ظهر موسيماني وكتب التاريخ، وعندما فعلها بيتسو، آمن به الجميع.
أثبت موسيماني للجميع أنه قادر على قيادة الدفة لكن وراء لقبه الأول كان هناك العديد من الكواليس. يهب موسيماني كل وقته لكرة القدم، يحركه الشغف للوصول للكمال في اللعبة. يهتم بالتفاصيل الشخصية للاعبيه، والأهم أنه لا يقبل أبدًا أن يخل أحد بنظامه.
كل هذا دفع الرجل دفعًا لصناعة التاريخ، فتمكن من الفوز بلقب دوري أبطال أفريقيا على حساب عملاق أفريقي مثل الزمالك، ثم ألحق بالعملاق الآخر الأهلي هزيمة هي الأكبر في تاريخه بخمسة أهداف. واسم الأخير تحديدًا يعني لموسيماني الكثير.
لماذا كل هذا الاحتفاء؟
هل وقف مانديلا وذرف الدموع من أجل جنوب أفريقيا التي يراها العالم الآن دون رفقة موتسيماني؟ حسنًا استطاع موسيماني أن يجعل جنوب أفريقيا كافة بداية من رئيس البلاد لأصغر رجل هناك أن يفخر به بعد أن قرر النادي الأهلي في مصر أن يستعين بخدمات الرجل.
أول مدرب أسود البشرة ينتمي لدولة أفريقية يتولى تدريب النادي الأهلي. الفريق الأعرق في القارة وواحد من أكثر فرق العالم تحقيقًا للألقاب قرر أن يستعين بخدمات الرجل الذي كان الجميع يشكك به داخل بلاده قبل سنوات.
كان لابد للرجل أن يحقق التاريخ بعد كل هذا المجهود والشغف. بعد أن أثبت أنه يستطيع تولي مهمة تدريب فريق محلي على حساب الأوروبيين، أثبت الرجل قدرته على قيادة فرق شمال القارة.
فلتذهب كل الأحاديث الخاصة بقصر العقل على شمال أفريقيا، والعضلات بجنوبها إلى الجحيم. لابد أن يتوج أحدهم بعد كل هذا المجهود بأن يكون هو الشخص الذي يكسر تلك القواعد البالية.
هذا الرجل الذي يحمل فوق أكتافه تاريخًا من كرة القدم المحورية في بلاده أصر على حمل هذا التاريخ والذهاب به نحو مستقبل يصنعه بنفسه. يقول أحد أصدقائه إن بيتسو حلم باللعب رفقة الأهلي أو تدريبه وهو صغير، ربما لا تصدق ذلك لكن تلك القصة الرومانسية التي يستطيع فيها البطل أن يقهر الجميع تليق بتحقيق حلم الطفولة في النهاية.
تفاجأت الجماهير المصرية برد الفعل في جنوب أفريقيا عقب تولي بيتسو تدريب الأهلي رسميًا. لأن لا أحد منهم يدرك أن موسيماني حمل فوق عاتقه تاريخًا وأتى به إلى مصر. بالطبع، لا يختلف أحد على قيمة النادي الأهلي المصري لكن الجميع في جنوب أفريقيا يشعر الآن بأن واحدًا من أصحاب البشرة السمراء استطاع أن يثبت أنه الأفضل أمام الجميع.
ربما قرر أصحاب البشرة البيضاء أن يتركوا كرة القدم والملاكمة للسود لأنها لا تحتاج إلى عقل، لكن موسيماني امتلك العقل الذي هزم به أصحاب البشرة البيضاء أنفسهم. لا يوجد قوة كروية في أفريقيا مثل مصر وها هي مصر تعترف أن مواطنًا أسود من جنوب أفريقيا يستطيع أن يقود تلك القوة لأنه آمن بنفسه وباللعبة.
يؤمن الجميع هناك في جنوب أفريقيا أنهم قطعوا خطوات واسعة نحو عدم التمييز العنصري. لقد أعطوا الفرصة للجميع دون النظر للون وأثبت المنطق نجاحه بتفوق الفرد الموهوب دون تمييز. اليوم تعرف جنوب أفريقيا بالإثبات العملي أنها تسير في الطريق الصحيح. وفي المقابل، يبدو الأهلي اتخذ قرارًا تاريخيًا وذكيًا على كافة المستويات.
وبعد هذا التاريخ الطويل، لابد أن نصل بالنهاية إلى الجزء الأصعب، هل يستطيع أن يفوز بيتسو رفقة الأهلي بالألقاب ويبقى الرجل الذي غادر بلاده وسط دعوات الجميع ليحقق لهم الشرف والتاريخ وفعلها بالفعل؟ أم أنه سيعود دون إنجاز مؤكدًا لأهله أن الأمور صعبة خارج الديار راجيًا منهم أن يواسوه فقط؟
في الحقيقة، لا يهم إن فعل هذا أو ذاك، لأن في كل الأحوال ستبقى قصة بيتسو موسيماني رفقة الأهلي قصة رومانسية جدًا، قصة رجل حمل التاريخ فوق كتفيه و أراد أن يبلغ به عنان السماء.