انقلابات المغرب الفاشلة ضد الحسن الثاني والمخزن (1-2)
يحاول هذا المقال في جزئيه الأول والثاني الولوج إلى عوالم أكثر ملوك المغرب إثارةً للجدل في العصر الحديث، محاولًا رصد أكثر المحاولات التي استهدفت تعويض عرشه ومؤسسة العرش المغربي المعروفة بـ «المخزن».
والمخزن هو وصف سياسي ونظام بيروقراطي يقال بأن الفيلسوف المسلم ابن رشد كان أول من اخترعه لتوصيف شكل السلطة السياسية التي عايشها في بلاد المغرب إبان عصره وظل ساريًا حتى وقتنا الحاضر، و يراد به وصف البلاط الملكي المغربي بأنه مستودع الحكم الوحيد وصاحب السلطة الأولى والأخيرة من خلال الملك وخلَّصه من كبار العسكر والإقطاعيين ومشايخ القبائل العربية والأمازيغية، القائمين بأسباب السلطان وجباة ضرائبه. لكن دولة المخزن هذه تعرضت للهِرَم المحتوم في أوائل القرن العشرين كما يرى الجابري مع فرض الحماية الفرنسية على المغرب (1912) في عهد السلطان محمد الخامس بن يوسف (والد الحسن الثاني)، أي بعد مئتين وثمانين عامًا من تأسيس «الحكم العلوي» للمغرب على يد السلطان مولاي الشريف من نسل النفس الزكية ابن الحسن بن علي رضي الله عنه بعد زوال دولة أبناء عمومتهم «السعديين» مع مقتل آخر سلاطينهم في مراكش.
العهد الحسني ونشأة الجيش الملكي
بعد خمس سنوات من نشأة الجيش الملكي المغربي توفي الملك محمد الخامس ليتسلم العرش العلوي من بعده نجله الأكبر الحسن الثاني. وفي عمر 32 عامًا، قُدِّر لذلك الشاب الذي عايش حياة الخلع والنفي مع والده الملك عام 1953 إلى مدغشقر على يد الفرنسيين أن يتقلد سُدَّة المناصب التنفيذية والعسكرية والدينية للمغرب كونه «أميرًا للمؤمنين». ورث الملك الجديد عهدًا مفكَّكًا تُحاول فيه كل جهة أن تمارس هيمنتها. فالأحزاب والقادة، يريد كل منهم نصيبه من قالب الحلوى، وكل من أنصار اليسار وأنصار اليمين والعسكريين والمدنيين يرغب في الاستئثار بالسلطة. وفي الفترة التي نُصِّب فيها الملك الشاب على العرش، لم يُعْطِه المراقبون أكثر من سنة يملك فيها، بل ما من حزب أو سياسي أو رئيس تحرير صحيفة إلا وتوقع انهيار العرش الملكي خلال بضعة أشهر[1].
كان ملك العراق فيصل الثاني قد سقط لتوّه بانقلاب دموي راح ضحيته برفقة عائلته، وقبله بسنوات كان قد سقط آخر حكام أسرة محمد علي في مصر الملك فاروق الأول إثر خلعه بانقلاب أبيض قام به بعض الضباط الصغار وغادر على إثره راكبًا يخته ليلقى حتفه مسمومًا في منفاه على أيديهم. وفي هذا الجو المشحون كانت عدوى الانقلابات تنطلق من المشرق إلى المغرب، وقد عزَّزها وقوع انقلاب معمر القذافي في ليبيا على الملك إدريس السنوسي 1969.
كان كل شيء يشي بأن عمر الملكيات العربية الافتراضي قد أشرف على الانتهاء، وفي 1965 أجرى المعارض المغربي البارز المهدي بن بركة (والذي اختفى لاحقًا في أشهر عملية اختطاف لم تفكّ شفرتها حتى اليوم) مقابلة مع جريدة الأهرام المصرية قال فيها نصًّا: «الجيش المغربي عقبة في طريق أي تطور ديمقراطي في بلادنا، وبالأحرى هو ضد كل محاولة ثورية. فالجيش المغربي مختلف عن كل الجيوش الأخرى في أنه جيش محترف، لم يؤسس للخدمة الوطنية، إضافة إلى أن بعض عناصره الموجِّهة على المستوى الأعلى في قياداته ذوي ماضٍ مشبوه، أُعِدُّوا ودُرِّبوا وخدموا وتميزوا وكُوفِئُوا في حروب الإمبراطورية الفرنسية الاستعمارية، التي خاضت آخر معاركها في ديان بيان فو والجزائر. وولادة دولة المغرب المستقلة لم تغير رأي هذه العناصر حول كفاح الشعوب». لكن كما قال الصحفي الفرنسي جيل بيرو أن ولاء الجيش كان إحدى المسلمات النادرة التي لم يتطرّق إليها الشك يومًا بالنسبة للحسن الثاني قبل وقوع انقلاب الصخيرات عام1971[2].
نابليون الريف يريد رأس الزنجي
كانت والدة الملك الحسن الثاني امرأة سمراء (شديدة السمرة) لا يُعلم عنها الكثير غير أن ابنها قد حمل كثيرًا من ملامحها وملامح أبيه. كان يشتد سماره كل ما تقدم سنّه وله شفتان وملامح فيها بعض الغلظة التي لم تستطع أن تخفي وسامته. وفي الريف، كان هناك شاب قصير القامة أشقر ضامر الجسم عصبي المزاج يرى نفسه صنوًا لمجموعات الضباط الأحرار التي هزَّت عروش الشرق الأوسط وليبيا، إنه أمحمد أعبابو ( هذه «أ» لتميز بينه وبين أخيه الأكبر محمد أعبابو)، وكان يدير مدرسة أهرمومو العسكرية التي خرج منها انقلابيو 10 تموز لسنة 1971، قادة أول محاولة انقلابية في المغرب منذ استقلاله. لقد كان هذا الضابط كما يصفه محمد الرايس -أحد المشاركين في انقلاب الصخيرات الفاشل – كان موضع خوف وحب معًا من طرف الجميع غير أن رؤساءه كانوا يكرهونه[3].
في مدينة فاس، وفي قرية أهرمومو تحديدًا بين سكان وديعين وجند مطيع، كان أمحمد أعبابو يشكّل جيشه الخاص الذي سيصعد من خلاله إلى سدّة جمهوريته بعد أن يهدم العرش الشريفي. فمنذ تولى إدارة مدرسة أهرمومو العسكرية سنة 1968، لم يدخر وقتًا في تغيير البنية التحتية للمدرسة على كافة المستويات، وكان يسرق مواد البناء وما تحتاجه البنية التحتية للمدرسة، وقد شكّل لذلك فرقة خاصة من نخبة طلبة مدرسته، وأخضع الطلبة للتدريبات مكثّفة من الصباح إلى المساء. لم يكن الهدف من ذلك أن يكتسبوا المهارات العسكرية، بل أن يحولهم إلى رجال آليون مستعدون لتنفيذ أي أمر يوجه إليهم على حدّ وصف الصحفي جيل بيرو[4]. كان أعبابو يكثر من نعت الملك في مجالسه الخاصة و خصوصًا أثناء تدبير الانقلاب بـ «الزنجي» الذي يريد رأسه.
محمد أعبابو قائد محاولة الانقلاب في المغرب عام 1971.
جمع أمحمد أعبابو ضباط مدرسته العسكرية بحضور شقيقه الأكبر الضابط محمد أعبابو وأخبرهم بوجود مناورة سوف يجرونها في غضون 48 ساعة لكنه امتنع عن إعطائهم موضوع هذه المناورة العسكرية المفاجئة وأخبرهم أن هناك قيادة أعلى منه رتبة سوف تنضم إليهم في الطريق وتشرح لهم موضوع المناورة وأهدافها، وكانت ساعة الصفر هي 10 تموز يوم احتفال الملك بعيد ميلاده 42 و بالاتفاق مع الجنرال محمد المذبوح قائد حرسه الملكي الذي سهل حركة طلاب مدرسة أهرمومو نحو مدينة الصخيرات حيث يقيم الملك ما يراد له أن يكون العشاء الأخير (حفلة عيد ميلاده).
حيث تتواجد العائلة المالكة والحكومة ومعظم قادة الجيش في مكان واحد، وكان أعبابو في هذه اللحظة يلمح المجد بألف وأربعمئة طالب يتوزعون على خمس عشرة شاحنة وعربة. تحرك الانقلابيون نحو قصر الصخيرات وبدأ إطلاق النار بكثافة للتخويف لكنه سرعان ما تحول إلى إطلاق نار لتقتل مجموعة من الطلاب تقلّ أعمارهم عن العشرين سنة كانوا مدربين لكنهم لأول مرة يقومون بمهمة حقيقية وبذخيرة حية «كانت الصخيرات عمادة الدم» بالنسبة لهم كما يقول جيل بيرو في الشهادات التي جمعها في كتابه.
«كان الموت يضرب كيفما اتفق وغالبًا بشكل ظالم، أطباء قتلوا لأنهم هرعوا لتقديم المساعدة لجرحى قضى معظمهم من نزف جراحه، قنابل يدوية قذفت من فتحات التهوية فقتلت الطهاة وخدم المطابخ، صبيان الغولف التعساء صرعوا خلال الدقائق الأولى من الهجوم، ضيوف الملك جمعوا بفظاظة وسرعة وأمروا بأن يستلقوا وبطونهم على الأرض وأيديهم فوق رؤوسهم وأشعة الشمس تلسع ظهورهم»[5]. استطاع الملك الفرار إلى صالة العرش ومنها إلى المراحيض برفقة وزيره الأول أحمد العراقي ووزير داخليته وذراعه الأمني الأقوى أوفقير إلى جانبه ينظرون من ثقب الحمام إلى ما يجري في الخارج.
الانقلاب ينجح بأكل أبنائه سريعًا
في ظروف غامضة حين لم يجد أمحمد أعبابو الحسن الثاني قام بتصفية شريكه في الانقلاب قائد الحرس الملكي محمد المذبوح بعد أن دبّ خلاف بينهما في الساعات الأولى للانقلاب بسبب غموض مكان اختفاء الملك وادعاء المذبوح مقابلته والحصول منه على تنازل عن العرش، وطلب من أعبابو مرافقته للقاء الملك وإيقاف حمام الدم الذي بدأه طلبته في الخارج، ليتنازل الملك وفقًا للتقاليد الملكية على غرار فاروق ملك مصر والسودان، فتساءل أعبابو موجهًا كلامه لقائد الحرس الملكي وشريكه في الانقلاب: «أين هو؟، لقد وعدتني بأنني سأجده موثوقًا في أغلاله. لقد خنتني سيدي الجنرال».
فأجابه المذبوح: «لقد خنتني أنت أيضًا، لقد كنت أريد انقلابًا أبيض وليس حمام دم»[6].
فأمر أعبابو في الحال بتصفية شريكه في الانقلاب وابن منطقته محمد المذبوح ليتفرّد هو بقيادة الانقلاب وينطلق إلى العاصمة الرباط من دون أن يعثر على الملك الذي لم يغادر القصر.
قام الانقلابيون بالسيطرة على مبنى الإذاعة وكانوا يبثّون البيان رقم واحد برفقة موسيقى عسكرية:
هكذا تحرك انقلابيو الصخيرات للسيطرة على الأماكن الحيوية مع التزام المفارز الأمنية للحياد وعدم التدخل خصوصًا مع بث شائعات بمقتل الحسن الثاني رفقة لـ 60 شخصًا الذين قتلوا في قصر الصخيرات الملكي.
الحسن الثاني يستعيد السيطرة على الأوضاع
قصة نجاة الحسن الثاني من هذه المحاولة الانقلابية غريبة؛ لكنها ليست بغرابة باقي قصص نجاته من المحاولات الانقلابية اللاحقة التي سنتناولها في الجزء القادم من المقال.
لكن قصة نجاته هذه بالتحديد نوردها كما رواها الحسن نفسه ونقلها الصحفي الفرنسي جيل بيرو:
«دخل الطلاب الملاحق وأخرجوا الملك وكبار رجال الدولة، وصل بعض الطلاب الضباط حتى مجموعة الملك وأمسك به أحدهم من كتف قميصه وأجبره على النهوض (بوحشية لا تصدق وفقًا لقول الحسن الثاني): أنت تعال معنا. أحاط به ستة طلاب، ذهب الملك ويداه مرفوعتان عاليًا، خيم الصمت على الحضور، جمدهم الرعب وأثار انتباههم همهمة شبيهة بتلك التي تصدر عن قفير النحل، صادرة من الجهة التي اقتيد إليها الملك، بدت وكأنّ عدة أشخاص يتمتمون، وظهر الحسن الثاني مجددًا ليس حيًّا فقط بل باسمًا أيضًا».
لكن الحسن الثاني قصّ لريمون تورنوا ما حصل بينه وبين الطلاب؛ أنهم كانوا متوترين ولما ابتعدوا عن الناس وجهوا له تحية عسكرية فقدر الحسن الثاني أن أمرًا خارقًا قد حدث يجب متابعته وبدأ حسب ما قال بتوبيخ الطلبة قائلًا لهم: «لماذا لا تقبلون يدي هل غدوتم كلكم مجانين؟، أنتم جنود الجيش الملكي أولادي»؛ لكنهم ترجوه أن يخفض صوته، الآن كثيرون يبحثون عنه ويريدون له السوء، فقبّلوا عنقه وكتفه[6] (قد تبدو هذه الرواية غريبة لكن تزول غرابتها حين تعرف أن المغاربة ينظرون لحاكمهم كابن للنبي صلى الله عليه وسلم وما يحمله ذلك من مشاعر دينية)، وقال إنه حينئذ بدأ بتلاوة الفاتحة وبعض الآيات القرآنية التي رددها معه الطلبة والحضور، ليخرج بعدها الحسن الثاني ليقول في مؤتمر صحفي «إنني اليوم ملك أكثر من البارحة»، قالها الملك الذي سمعت بأنه بسبعة أرواح قاصدًا بها بأن عرشه بعد الانقلاب أكثر رسوخًا من ذي قبل.
- مذكرات فاطمة أوفقير، بعنوان حدائق الملك ، ترجمة ميشيل خوري ، ص 70 و71.
- جيل بيرو ،صديقنا الملك ، ترجمة ميشيل خوري ، ص157 و158.
- محمد الرايس، تذكرة ذهاب وإياب إلى جهنم، ترجمة: عبد الحميد جماهري، ص9 حتى 18.
- جيل بيرو ، نفس المصدر ص144 و145.
- محمد الرايس ، نفس المصدر ص32.
- جيل بيرو ، نفس المصدر ص151 و152.