مشكلات إدارة رواق المغاربة ومصائرها
سارت أمور رواق المغاربة سيراً حسناً في أغلب الأوقات منذ نشأته الأولى إلى أن تم إغلاقه ودخوله في مرحلة مختلفة عقب ثورة يوليو سنة 1371هــ/ 1952م. وقد أدى الرواق وظيفته بفضل ثراء أوقافه وكثرة خيراتها من جهة، وبفضل شيوخه الذين أداروا شؤونه بحزم وأمانة، في أغلب الأوقات، من جهة أخرى. ومع ذلك، فإن الوثائق والمستندات تكشف عن أن هذا الرواق قد مرَّ بظروف عصيبة، وأن تلك الظروف بلغت ذروتها المأساوية بمقتل شيخ الرواق الشيخ/ علي صالح الفزاني، في سنة 1331هــ/1913م، على ما أسلفنا في مقالة سابقة.
والظاهر أن شيوخ الرواق ومساعديهم في مجموعهم قد اتسمت إدارتهم لشئون الرواق وطلابه بقدر معقول من «المؤسسية»؛ حيث خضعت تلك الإدارة لشروط واضحة في اختيار «شيخ الرواق» وفي «عزله» أيضاً، وفي كيفية تولية «شيخٍ» جديد بدلاً من المعزول وفق إجراءات عرفية غالباً، أو قضائية كانت المحكمة الشرعية تقضي بها أحياناً. ويظهر أن منصب شيخ الرواق كان متداولاً بين أبناء بلدان المغرب (ليبيا، تونس، الجزائر، المغرب)، بمراعاة أن يكون «الشيخ» أكبر طلاب الرواق سناً، وأحسنهم أخلاقاً، وأكثرهم خبرة، وكان يتم اختياره مدى حياته من بين الطلاب أو من بين الخريجين أو من المغاربة المقيمين بمصر بصفة عامة. أما المناصب والوظائف الأخرى في الرواق مثل: نقيب الرواق، والجابي، والحارس، وأمين المكتبة، فقد كان يراعى فيها أيضاً تنوع انتماءات شاغليها بين البلدان المغاربية، مع توافر شروط الأمانة والنزاهة والكفاءة.
وكان لتلك الشروط مصدران: الأول عرفي غير مكتوب، وقد جرى العمل بموجبه، وتوارثه طلاب الرواق وشيوخه جيلاً بعد جيل. والثاني مكتوب، ولكن ليس في لائحة خاصة، وإنما في ثنايا نصوص حجج أوقاف الرواق؛ حيث نصَّ بعضُ الواقفين على وجوب عزل «شيخ الرواق» في حالات محددة منها: إذا قصر تقصيراً جسيماً في أداء وظيفته، أو إذا ثبتت خيانته؛ كأن يسرق أو يختلس شيئاً من ريع أوقاف الرواق، أو كأن يأخذ شيئاً من الريع ليس له أخذه، أو أن يحرم منه أحد المستحقين بغير وجه حق.
وتكشف وثائق أوقاف الرواق ومستنداته عن أن بعض ورثة الواقفين المغاربة الذين تصدقوا بوقفياتهم على الرواق كانت لهم مشكلات مع إدارته، وأنهم أقاموا دعاوى قضائية للمطالبة باستحقاقاتهم في الريع، أو للمطالبة بالريع كله لأنفسهم لأسباب واعتبارات مختلفة ساقوها في معرض الدفاع عن وجهة نظرهم. وكانت المحكمة الشرعية تفصل في هذه القضايا وتضع الأمر في نصابه بأحكامها النهائية الملزمة.
ومن تلك القضايا: الدعوى التي نظرتها محكمة القسمة العسكرية، في غاية ربيع الثاني 1191هــ/7 يونيو 1777م (مسجلة برقم 54/1 قديم – سجلات وزارة الأوقاف)، وكانت تلك الدعوى متعلقة بوقف الحاج عبد الوهاب التطواني (المغربي) الذي خصصه لرواق المغاربة. وقد فصل فيها الحاكم الشرعي قاضي القضاة في مصر آنذاك، بحضور ثلاثة عشر من أعيان الإفادة والتدريس بالأزهر، بعضهم مالكي، وبعضهم حنفي، وبحضور المدَّعى عليه، الذي عارض الطلبة المغاربة المستحقين في وقف عمه الحاج التطواني. وحكمت المحكمة بأنه «ممنوع من معارضته لهم، مع ضرورة جريان الموصَى به لهم لأنه خرج مخرج الوقف»، وكان هذا هو فصل الخطاب في القضية بحسب منطوق حكم المحكمة.
وتكشف وثائق رواق السادة المغاربة أيضاً عن أن شئونه أمست مرتبكة وغير منتظمة بسبب «خلافات» داخلية فيما بين «شيخ الرواق»، و«طلبة الرواق من السادة المغاربة»، وفي إحدى المرات بلغت تلك الخلافات إلى ساحة القضاء، ونظرتها محكمة مصر الشرعية في 25 جمادى الثاني 1365هــ/ 26 مايو 1946م، في الدعوى رقم 636/42/43 التي رفعها الشيخ محمد البشير الكبير، والشيخ محمد البشير الصغير، والشيخ عمر شبيب، والشيخ يوسف الملواني، ضد الشيخ أحمد عبد الله البرجيني شيخ الرواق، وطالبوا في تلك الدعوى بـ «عزله من مشيخة رواق السادة المغاربة». وقدم المدعون أسبابهم للمطالبة بعزله، وهي تتلخص في جملة من الاتهامات التي فصلوها بعريضة دعواهم، والتي منها:
وقد ثبت للمحكمة أن الشيخ البرجيني أهمل فعلاً في تعمير أعيانٍ لا حصر لها من أوقاف رواق السادة المغاربة، وقالت المحكمة:
لم تمر سوى سنوات قليلة بعد عزل الشيخ البرجيني من مشيخة رواق المغاربة ومن النظارة على أوقافه بحكم المحكمة؛ حتى وضعت وزارة الأوقاف يدها على الأوقاف الخيرية في مصر جميعها بموجب القوانين التي أصدرها مجلس قيادة الثورة في سنة 1952م، وفي سنة 1953م. ونتيجة لذلك، أضحت وثائق رواق المغاربة التي صدرت ابتداءً من سنة 1952م -في أغلبها- عبارة قرارات إبدال (بيع) لبعض أعيان أوقاف المغاربة، وعمليات بيع بالمزاد العلني لبعضها الآخر، ومن ذلك: المزاد الذي رسا بمبلغ 200 جنيه مصري لصالح (ع. م. ج) يدفعها مقابل الدكان رقم 6 بزقاق الناري بطولون قسم السيدة زينب، وقالت محكمة القاهرة الابتدائية في قرارها إن هذا الوقف «من أوقاف السادة المغاربة التي لم يُهتد إلى حُجج لها» (!) (وعلامة التعجب من عندي).
وفي 29 أكتوبر 1959م، وافقت محكمةُ القاهرة الابتدائية -دائرة الأحوال الشخصية- على استبدال مساحة قدرها 130.35 متراً مربعاً كائنة بحارة الروم رقم 25، قسم الدرب الأحمر من وقف المغاربة الخيري المشمول بنظارتها، «بثمن أساس 5 جنيهات للمتر المربع»، وطرحته للمزاد ورسا على (ف. ح. أ) بمبلغ 8 جنيهات و750 مليماً للمتر، بمبلغ إجمالي 1140 جنيهاً و600 مليم، دفع منها للوزارة 456 جنيهاً و240 مليماً، والباقي وقدره 684 جنيهاً، و360 مليماً تُدفع على عشرة أقساط سنوية، القسط الأول وقدره 68 جنيهاً و436 مليماً يدفع بعد سنة من تاريخ توقيع العقد، والثاني بعد سنيتين، إلى آخر الشروط التي تضمنها كتاب وزارة الأوقاف المؤرخ في 21 فبراير 1959م.
وفي 10 أبريل 1963م صدر حكم بإنهاء «حق الحكر» (نوع من الإيجار طويل المدة) على عقار من أوقاف المغاربة، وقُدرت أرضُ الحكر بمبلغ 90 جنيهاً، وصدر القرارُ بإنهاء هذا الحكر تطبيقاً للقانون رقم 92 لسنة 1960م. وفي 21 مايو 1964م قررت لجنة شئون الأوقاف المشكلة طبقاً للقانون 272 لسنة 1959م وصاحبة الولاية على البدل والاستبدال للأوقاف الخيرية، وكان يمثلها في ذلك التاريخ أحمد عبد الله طعيمة بصفته وزير الأوقاف حينها، أبدلت اللجنة 28.20 متراً مربعاً بشارع القوصية قسم باب الشعرية من أوقاف المغاربة، بمبلغ 1128 جنيهاً.
وفي 13 فبراير 1989م أبدل مجلس إدارة هيئة الأوقاف المصرية لـلسيد (م. م. م.) الدكان رقم 11/2 بحارة الصالحية، وهو من أوقاف المغاربة، نظير مبلغ 9362 جنيهاً. وعلى هذا النحو سارت أمور أوقاف الرواق منذ سنة 1952م، حتى اندثرت أوقافه، أو كادت، ولم يعد بالإمكان الاستدلال على ما قد يكون قد تبقى منها، ولا معرفة المصير الذي آلت إليه.
لقد تبين لنا أن أوقاف رواق المغاربة والوقائع التي صنعت تاريخ هذا الرواق لأكثر من ثمانية قرون متواصلة، كلها تؤكد على أن «الجامع الأزهر» له قوة تأثير لا تضارع على امتداد بلدان الأمة الإسلامية، ليس في المحافظة على أصول الإسلام ونشر علوم العربية وعلوم الشريعة شرقاً وغرباً وحسب، وإنما أيضاً في عمق تأثيره «الحضاري» الذي تجلت جوانب منه في اندماج المغاربة -وغيرهم من أجناس الأمة الإسلامية- في الحياة المصرية، وإسهامهم في عمران الأحياء التراثية بمدينة القاهرة وإثرائها بالعمائر والمنشآت والأعمال التجارية والصناعية والحرفية، وبخاصة في حي الأزبكية، وحي الأزهر والأحياء المجاورة له. هذا إلى جانب أن كثيرين من طلاب الرواق وشيوخه قد تزوجوا من مصريات، ومنهم مثلاً: الشيخ عبد القادر عودة الجزائري الذي كان عضواً باللجنة الإدارية للرواق، وقد تزوج مصرية هي الحرمة/ عزيزة محمد الحسين، وعاش معها ومات عنها في سنة 1360هــ/1941م. والشيخ إبراهيم طاهر، وكان طالباً بالرواق، وقد تزوج مصرية هي الحرمة/ نظلة بنت مصطفى، وتزوج الشيخ أبو القاسم بن محمد بادي من الحرمة/ فاطمة بنت إبراهيم وأنجب منها وتوفي في سنة 1362هــ/1943م.
كما تكشف الأوقاف التي تصدق بها المغاربة على رواقهم وطلاب العلم المجاورين بالأزهر عن قوة روح التعاون والتكافل بين أبناء البلدان المغربية الذين وفدوا إلى مصر وعاشوا فيها واستقروا بها، وأدركوا -كغيرهم من أبناء الأمة الإسلامية- أن: مساندة طلبة العلم، وتوفير كل ما يحقق استقلاليتهم، ويحفظ عليهم كرامتهم، ويضمن حريتهم طول حياتهم؛ كلها أمور تنزل منزلة الضروريات، لكي يتأهل العلماء منهم لأداء دورهم في التعليم والإرشاد والنصح، وفي تنوير عموم أبناء الأمة بتعاليم الإسلام وأحكامه السمحة.
تكشف أوقاف رواق المغاربة أيضاً عن القوة الكامنة في فكرة «الوقف» من حيث أنها تشكل نسقاً مفتوحاً أمام الجميع من مختلف الفئات والانتماءات، ومن حيث أنها فكرة متعددة الجوانب الإيمانية والاقتصادية والاجتماعية والحضارية والإنسانية. وإذا كان «رواق المغاربة» قد صار «حلقة وصل بين المشرق والمغرب»، كما يقول –بحق- علامة المغرب الراحل عبد الهادي التازي، فإن هذا الرواق لم يكن إلا نموذجاً كاشفاً عن مكامن القوة التي تختزنها روح الأخوة التي تجمع أبناء الأمة الإسلامية، والتي تسمو على مختلف الانتماءات الوطنية والمذهبية دون أن تغض منها، وبخاصة في الأوقات العصيبة والملمات الكبيرة.
وقد سجل الجبرتي في تاريخه وقائع تدل على ذلك ومنها: أن طلاب رواق المغاربة وقفوا إلى جانب طلاب الأروقة الأخرى، وهبوا هبة رجل واحد لمقاومة الغزو الفرنسي وتصدوا لعسكر نابليون ببسالة، إلى الحد الذي دفع نابليون إلى إصدار أمر في الثاني من ربيع الثاني 1213هــ/ 13 سبتمبر 1798م يقضي بأن على المغاربة أن يرحلوا إلى بلادهم، وهددهم بالقول: «إن كل من وجد منهم بعد ثلاثة أيام يستأهل الذي يجري عليه». لكن المغاربة لم يرضخوا لهذا الأمر، ولم يرهبهم ذلك التهديد، واعتصموا بالوحدة مع إخوانهم من طلاب أروقة الأزهر من مختلف البلدان، ومع إخوانهم المصريين من أجل التصدي للمحتل الأجنبي. وأثبت المغاربة أن نابليون أخطأ التقدير عندما أصدر أمره برحيلهم عن مصر إيثاراً لسلامتهم، إذ لم يدرك قوة الرابطة الإيمانية وصلابتها في مواجهة المحن والابتلاءات.
ويحكي الجبرتي في سياق وقائع شهر ذي القعدة سنة 1215هــ/1803م ــ يقول:
وما عبر عنه الفرنسيس بـ «الفتنة» من وجهة نظرهم، لم يكن إلا ممارسة حق الدفاع الشرعي عن النفس من وجهة نظر شيخ الرواق المغربي الأصيل، الذي كان يعلم أن: «الجهاد يصبح فرض عين على كل مسلم ومسلمة إذا دهم العدو أرض الإسلام». وهذا ما كان يفعله شيخ الرواق، حيث تشير المصادر التاريخية المصرية والعثمانية والمغربية إلى أن مجالس الرواق العلمية في عهده وإبان الغزو الفرنسي قد تحولت إلى مجالس للحض على الثورة ومقاومة نابليون. وفي رواق آخر من أروقة الأزهر، وهو «رواق الشوام» نهض المجاهد «سليمان الحلبي» وأدى دوره وقتل كليبر قائد الحملة الفرنسية، وكان قتله فداءً لشرف الإسلام، وبداية نهاية الحملة ورحيلها عن مصر وعن الشرق كله في 10 جمادى الثانية 1216هــ/ 18أكتوبر1801م.
لقد طوى التاريخ صفحة رواق المغاربة وأوقافه بالأزهر، ولكن تراثه ظل باقياً، وآثاره بقيت قائمة في موضعها بالجامع الأزهر، كما أن الحنين ما برح يشد إليه شيوخ المغرب بين الحين والآخر، ومن أحدث النشاطات العلمية للعلماء المغاربة في هذا الرواق العريق، تلك المحاضرة التي ألقاها فيه علامة المغرب الشيخ مصطفى بن حمزة عضو المجلس العلمي الأعلى في المملكة المغربية، وكان ذلك في يوم 19 جمادى الثانية 1440هــ/ 25 فبراير 2019م. وكانت المحاضرة بعنوان: «مدخل إلى النص الشرعي». وهذا آخر قولي في تاريخ رواق المغاربة بالأزهر المعمور والحمد لله رب العالمين.