العدالة والتنمية المغربي: التطبيع بنكهة إسلامية
هذه الكلمات كتبها سعد الدين العثماني، رئيس الحكومة المغربية والأمين العام لحزب العدالة والتنمية ذي المرجعية الإسلامية، قبل 24 عامًا في معرض انتقاده لفتح الدول العربية مكاتب اتصال مع إسرائيل بالتوازي مع توقيع اتفاقية غزة-أريحا؛ لكن المفارقة جعلت نفس الشخص يوقع اتفاقية تطبيع العلاقات بين المغرب وإسرائيل، ما يمهد لإعادة فتح مكتب الاتصال نفسه بين الطرفين، ويفتح المجال لحقبة من التطبيع والتعاون السياسي والثقافي والاقتصادي بينهما.
وقع العثماني في حرج أشد مما وقعت فيه الحكومات التي انتقدها باعتباره أول رئيس حكومة إسلامي يقدم على هذه الخطوة التي تتناقض مع أهداف حزبه ومبادئه التاريخية، وطرح موقفه تساؤلات حول صدق الإسلاميين تجاه الشعارات التي يرفعونها وهم في المعارضة ومدى التزامهم بها حال وصولهم إلى السلطة.
تعرض الرأي العام العربي لصدمة مزدوجة خلال الأيام الماضية بعد اتفاق التطبيع الذي أبرمه المغرب مع إسرائيل ليصبح رابع بلد عربي في هذا المسار بعد الإمارات والبحرين والسودان، والبلد المغاربي الأول بعد قطع موريتانيا علاقاتها مع إسرائيل عام 2010.
التطبيع المغربي جاء ضمن صفقة حصلت خلالها الرباط على اعتراف أمريكي غير مسبوق بسيادتها على الصحراء الغربية التي تسعى جبهة البوليساريو المدعومة من الجزائر لفصلها بهدف تأسيس دولة صحراوية مستقلة.
تصدُّر سعد الدين العثماني تحديدًا مشهد التطبيع ضاعف من آثار هذه الصدمة لا سيما بين صفوف الحزب ومحبيه داخل المغرب، وصولًا إلى جمهور التيار الإسلامي في الوطن العربي بأكمله. كيف يمكن قراءة هذا التحول في موقف الحزب؟
«نحن مع سيدنا»
قادة العدالة والتنمية اختاروا مجددًا الاصطفاف مع المؤسسة الملكية على حساب شعبية الحزب ومبادئه، وعملت ماكينة التبرير هذه المرة على التركيز على قضية الصحراء الغربية التي اعتُبرت مكسبًا تاريخيًّا وقرارًا لا يُتخيل مدى حجمه بتعبير عبد الإله بنكيران، إلى جانب التهوين من أثر التطبيع على القضية الفلسطينية، وهو ما يناقض المنطق والواقع، فضلًا عن أيديولوجية الحزب ومواقفه السابقة حتى قبل عدة شهور، رغم ذلك يتسق الحزب مع موقفه التأسيسي فيما يتعلق بولائه للدولة الوطنية التي يحظى فيها الملك بالشرعية الدينية والسياسية الأولى باعتباره الضامن لوحدة البلاد وأمنها، وهو ما يستدعي فهمًا خاصًّا للحالة الإسلامية في المغرب.
الحركة الإسلامية في المغرب شهدت بزوغ نجمها في ستينيات القرن الماضي مع تشكل عدد من الجماعات الدعوية والطلابية، غير أن بعضها سرعان ما دخل في صدام عنيف مع الدولة. الناجون من هذا الصدام سعوا للمِّ الشمل وتنظيم الصفوف مجددًا، وهو ما تحقق عام 1996 بظهور حركة «التوحيد والإصلاح» والتحاق عدد من قادتها بحزب الحركة الشعبية الدستورية بعد رفض السلطات السماح لهم بتأسيس أحزاب جديدة، هذا الحزب سيتحول بعد عامين إلى حزب «العدالة والتنمية» المغربي، قبل سنوات من تأسيس حزب تركي يحمل الاسم نفسه.
الحركة والحزب أصرَّا منذ البداية على وضع مسافة تنظيمية بينهما وبين جماعة الإخوان المسلمين وفكرها الإسلامي الذي يسود في المشرق العربي. تمثل هذا في عدة أمور، أبرزها: إقرار مبدأ الفصل بين الدعوي والسياسي، والتخلي عن حلم إقامة الدولة الإسلامية أو دولة الخلافة، والاعتراف بدلًا من ذلك بشرعية الملك الدينية بصفته أميرًا للمؤمنين، ما يوفر عليهم جهد تغيير النظام الملكي ويمنحهم الفرصة لأن يكونوا جزءًا منه.
يجدر الإشارة إلى أن جماعة «العدل والإحسان» التي تأسست نهاية الثمانينيات على يد الشيخ عبد السلام ياسين، وهي حركة صوفية غير قانونية، اتخذت مسارًا مختلفًا، إذ تعارض شرعية إمارة المؤمنين وتهدف لإقامة دولة الخلافة، وكانت قد أصدرت بيانًا تندد فيه بالتطبيع المغربي مؤخرًا.
إسلاميو المغرب اختاروا الاندماج في النظام السياسي على عِلاته وآمنوا بقدرتهم على إصلاحه من الداخل، ومنذ اللحظة الأولى لميلاد هذا الحزب بنى نضاله على تجنب الخيارات الصفرية والانسحاب من أي مواجهة محتملة مع المؤسسة الملكية، برز ذلك في مناسبات عدة، أهمها رفضه دعوات الثورة في 20 فبراير/شباط 2011 إبان موجة الربيع العربي، ومشاركته بدلًا من ذلك في الانتخابات البرلمانية التي منحته الفرصة الأولى لقيادة الحكومة، ثم القبول بإزاحة زعيمه عبد الإله بنكيران عام 2017 إبان موجة الثورات المضادة واستبدال خليفته في الحزب سعد الدين العثماني به، وهو الأمر الذي يبدو أنه تكرر مجددًا في القبول بتطبيع العلاقات مع إسرائيل.
سيناريوهات مُرة
قرار الملك تطبيع العلاقات المغربية الإسرائيلية وضع حزب العدالة والتنمية أمام سيناريوهين: الأول هو القبول بالتطبيع ما يعني خسارته رصيدًا لا بأس به من رأس ماله الأخلاقي، فضلًا عن احتمال دفعه ثمنًا سياسيًّا باهظًا في انتخابات 2021، لكنه في المقابل يضمن بقاءه في السلطة، ويوصل رسالة للمؤسسة الملكية أن الحزب مستعد لفعل أي شيء يراه الملك في مصلحة البلاد، ما يعزز الثقة بين الطرفين، وهو ما يهم قادة الحزب.
السيناريو الثاني كان يتمثل في الانسحاب من الحكومة، والنأي عن المشاركة في التطبيع حفاظًا على مبادئ الحزب، لكنه باتخاذه هذا الخيار كان سيضع نفسه في مواجهة الملك، ولا يخلو هذا السيناريو من المخاطرة بمستقبل الحزب في وقت تتكالب فيه الأنظمة العربية للقضاء على تيارات الإسلام السياسي، وفي أفضل الأحوال كان سيجد الحزب نفسه مضطرًّا للقبول بالأمر الواقع مجددًا حال فوزه بانتخابات 2021 وعودته للحكم، لكنه وقتها سيكون قد خسر كثيرًا من ثقة الملك، في النهاية رفض الحزب كعادته المخاطرة وفضل التنازل عن مبادئه ولو بشكل مؤقت للخروج من هذه المرحلة بأقل الخسائر، تمامًا كما نجا من موجة الثورات المضادة.
تبريرات الحزب لم ترق رغم ذلك لغالبية جمهوره وأثارت جدلًا متجددًا حول مقاربة “طاعة الملك”، إذ تساءل أنصاره حول الغاية من الحكم إذا كنت مكرهًا على تنفيذ سياسة مخالفة بالكلية لمبادئك، وهو ما ظهر في رفض كل من شبيبة الحزب (منظمة لشباب الحزب) وحركة التوحيد والإصلاح (الذراع الدعوية للحزب) لخطوة التطبيع واعتراف العثماني نفسه بأن الأمر لم يكن سهلًا.
التطبيع بالإكراه الذي أقدم عليه العثماني فتح المجال أمام الخلافات الداخلية ومنح عبد الإله بنكيران فرصة للعودة إلى المشهد مجددًا، حيث يراه البعض داخل الحزب أقوى من العثماني، ولديه القدرة على التعامل بندية أكبر مع المؤسسة الملكية، وعلى الرغم من بيانه الذي دافع فيه عن موقف العثماني داعيًا أنصار الحزب لتفهمه، فإنه طالبهم باستيضاح الأمر خلال الدورة الاستثنائية للمجلس الوطني للحزب التي تعقد في 27 ديسمبر 2020 والتي ربما تكون بداية لعودة تيار بنكيران قبل انتخابات العام القادم، لكن في المقابل يقف أنصار الحزب حائرين بين خيارات تبدو كلها مرة.