التطبيع المغربي-الإسرائيلي ومستقبل القضية الفلسطينية
صدّر بيان الديوان الملكي المغربي إعلان تطبيع العلاقات بين المغرب والكيان الإسرائيلي برؤية المغرب لحل القضية الفلسطينية بحل الدولتين عبر التفاوض لإنجاز الاتفاق النهائي والشامل والدائم؛ وختمه بتأكيد الالتزام الأخلاقي أن هذا الإعلان لا يمس بأي حال من الأحوال الالتزام الدائم والموصول للمملكة المغربية في الدفاع عن القضية الفلسطينية العادلة، وانخراطه البنّاء من أجل إقرار سلام عادل ودائم بمنطقة الشرق الأوسط. وتضمن الإعلان:
- تسهيل الرحلات الجوية المباشرة لنقل اليهود، من أصل مغربي والسياح الإسرائيليين من وإلى المغرب.
- استئناف الاتصالات الرسمية الثنائية والعلاقات الدبلوماسية في أقرب الآجال.
- تطوير علاقات مبتكرة في المجال الاقتصادي والتكنولوجي. ولهذه الغاية، العمل على إعادة فتح مكاتب للاتصال في البلدين، كما كان عليه الشأن سابقاً ولسنوات عديدة، إلى غاية 2002.
وأعلن دونالد ترامب هذا الاتفاق محتفياً بإنجازه في الوقت الذي أظهرت فيه نتائج الانتخابات الأمريكية خسارته منصبه الرئاسي، وقال البيت الأبيض إن ترامب والعاهل المغربي محمد السادس اتفقا على أن: تستأنف المملكة علاقاتها الدبلوماسية مع «إسرائيل»، إضافة إلى تعزيز التعاون الاقتصادي والثقافي بين البلدين بما يدعم الاستقرار في المنطقة.
ولتأكيد التزام الولايات المتحدة بتنفيذ بنود الصفقة فقد أكدت عزمها فتح قنصلية بمدينة «الداخلة» الواقعة على ساحل الأطلسي. ويبدو أن الإغراء الأمريكي باستئناف حالة التطبيع مع الكيان الإسرائيلي يتجاوز المعلَن عنها في نصّ الاتفاق؛ إذ تتحدث بعض المصادر عن صفقة أسلحة أمريكية للمغرب تتجاوز قيمتها مليار دولار، تتضمن بيع أربع طائرات مسيرة من طراز «إم كيو-9 بي سكاي غارديان» من صنع شركة «جنرال أتوميكس»، وذخائر موجهة بدقة من نوع «أي جي إم-114 هيلفاير»، و«بيف واي»، وذخائر الهجوم المباشر المشترك «جيه دي أي إم»، من صنع شركات «لوكهيد مارتن»، و«رايثيون»، و«بوينغ»؛ إضافة إلى تعهد واشنطن بتنفيذ استثمارات في المغرب بنحو ثلاثة مليارات دولار على مدى ثلاث سنوات، ربما لتنفيذ عطاء إنشاء ميناء في مدينة الداخلة على الشاطئ الصحراوي، ولا سيّما بعد أن دعت وزارة التجهيز المغربية إلى تقديم عروض لإنشاء الميناء.
وبهذا الاتفاق يصبح المغرب رابع دولة عربية توقع اتفاق تطبيع في سنة 2020 برعاية أمريكية، بعد توقيع الإمارات والبحرين في 15 سبتمبر/أيلول 2020، وإعلان السودان في 23 أكتوبر/تشرين الأول 2020 الموافقة على التطبيع، بعد أشهر من لقاء جمع الفريق عبد الفتاح البرهان رئيس مجلس السيادة السوداني مع بنيامين نتنياهو رئيس الوزراء الإسرائيلي في أوغندا.
لم يكن المغرب مقطوع الصلة مع الكيان الإسرائيلي فثمة علاقة قديمة بين الطرفين تميل أكثر إلى السرية، وليس هناك حرج دبلوماسي مغربي في الكشف عن بعض محطاتها مما يمكن وصفه بالعلاقات الدافئة. وقد ظهرت هذه العلاقة بشكل واضح عقب الإعلان عن اتفاقية أوسلو بين منظمة التحرير الفلسطينية والكيان الإسرائيلي سنة 1993، بينما كانت قائمة في ملفات أمنية، وعسكرية، وسياسية منذ ستينيات القرن العشرين، بل إن المغرب هو الدولة العربية الوحيدة التي ينص دستورها على أن الثقافة اليهودية مكون أساسي ورافد من روافد هويته الوطنية، ولذلك تنشط العلاقات الخاصة من خلال نحو مليون يهودي من أصول مغربية، يقيمون في الكيان الصهيوني، ويتحركون بحرية بين المغرب والكيان.
وهذا الملف ككل الملفات المتعلقة بالسياسة الخارجية يُعد من ملفات العرش الملكي، يقرر فيه الملك وحاشيته المقربة، ولا رأي عمليًّا للحكومة التي يعيّنها الملك أو البرلمان في هذا الملف السيادي الملكي.
أولاً: ظروف قرار التطبيع
لم يتحرك هذا الملف بسبب تطور في ملف المفاوضات الفلسطينية–الإسرائيلية، أو بطلب فلسطيني أو عربي، بل لا يوجد أي مشروع أو مبادرة سياسية عربية أو دولية في هذا المسار يستدعي الشروع في هذا التطبيع، مما يجعل الأمر خارجاً تماماً عن السياق الفلسطيني في هذا التطور، ولم يصدر عن الديوان الملكي المغربي أن هذا الأمر جاء بهدف مساندة القضية الفلسطينية وحماية القدس، كما حدث في الإعلان الإماراتي للتطبيع.
كما لا يندرج الأمر في سياق تطوير العلاقات المغربية الأمريكية فالرئيس الأمريكي دونالد ترامب خسر الانتخابات رسمياً، وإذا كان هناك ما يستلزم تطوير العلاقات فينبغي تقديم هذا التطوير للرئيس الجديد الباحث عن إنجازات يفتتح بها رئاسته الأولى؛ بل إن الإدارة الأمريكية الخاسرة تريد حرمان جو بايدن من هذه الهدية، مقابل تنازل سياسي غير مألوف فاجأ المنظومة الأمريكية وتقاليدها الراسخة في السياسة الخارجية الأمريكية.
ولا نعلم إن كان هذا التطبيع ضمن هذه الصفقة قد تمّ بمبادرة مغربية أو مبادرة أمريكية أو إسرائيلية، لكن من الواضح أن ثمة إرادة أمريكية تحركت بسرعة وقوة لإنجاز هذا الملف بتسارع غير طبيعي، وقوة دفع استثنائية اشتغل عليها المستوى الأعلى في الإدارة الأمريكية بقيادة صهر الرئيس الأمريكي جاريد كوشنر، لا سيّما أن هذا الملف يتضمّن مقاربات أمريكية استراتيجية، تتعلق بتغيير السياسة الأمريكية تجاه قضية الصحراء منذ أكثر من أربعين عاماً؛ حيث كانت الإدارة الأمريكية ملتزمة بقرار الأمم المتحدة بتنظيم استفتاء في الصحراء الغربية، وهو الأمر الذي تعارضه المملكة المغربية، وتعرض بدلاً منه الحكم الذاتي تحت السيادة الملكية المغربية. ومن الواضح أن الإدارة الأمريكية كانت حريصة على تسريع هذا الإعلان لاعتبارات تتعلق بمكانة ترامب «المهزوم»، وتصويره بطلاً أنجز الكثير لـ«إسرائيل»، حتى في أسوأ أحواله السياسية. ولعل ملف الصحراء الغربية كان هو «الهدية المسمومة» التي قدمها الأمريكان لتشجيع النظام المغربي للاندفاع نحو التطبيع؛ ولمحاولة إقناع الشعب المغربي بالموافقة أو بالسكوت عن التطبيع، وتخفيف حدة الاعتراض الشعبي عليه.
وكان لافتاً أن هذه الخطوة الأمريكية قد سبقها بنحو شهر افتتاح قنصلية إماراتية في الصحراء الغربية؛ مما يؤكد وجود تنسيق كامل في هذا الملف مع الإمارات العربية المتحدة، وأن الإمارات لعبت دوراً ما في تسهيل هذه الصفقة، وتقريب وجهات النظر ربما لتوسيع دائرة المطبّعين، ومحاصرة المواقف المعارضة، وإخماد أصواتها الرافضة أو تشكّل حلف استراتيجي أمريكي يضم أطرافاً عربية فاعلة ونشطة تشترك في رؤية أمريكية ناظمة.
وكان لافتاً أيضاً أنه لا توجد أدوارٌ أوروبية في هذا الحراك التطبيعي، بالرغم من أن ملف الصحراء الغربية من الملفات دائمة الحضور في السياسة الخارجية الأوروبية؛ مما يعني أن أوروبا كانت خارج التغطية أيضاً في هذا الملف، ولم تشاوَر في هذا الإعلان ومدى قدرته على الصمود ومدى تأثيره على أوروبا؛ حتى إن فرنسا المعروفة بدعمها للمغرب في هذا الملف قالت إنها ملتزمة بالحل السياسي، فيما نددت روسيا بالموقف الأمريكي.
كما لم تُشَاوَر الجزائر وموريتانيا في هذا الأمر، الذي يعدّ بالنسبة للجزائر قضية أمن قومي يتعلق بالعمق الاستراتيجي لأمنها الوطني، وليست قضية مبدأ مصيرية فحسب.
كما أن الجانب الفلسطيني كان بعيداً تماماً عن دائرة المشاورات نظراً للضعف السياسي الكبير الذي تعاني منه السلطة الفلسطينية، وانحسار التأييد السياسي العربي لها، وعدم الالتزام العربي بالمبادرة العربية؛ ومع ذلك فلم تتخذ القيادة الفلسطينية أي إجراء مضاد للخطوة المغربية خلافاً لما جرى مع الخطوة الإماراتية والبحرينية، ربما لتواصل الملك المغربي مع رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس والتأكيد له أن المغرب ملتزم بسياسة حلّ الدولتين. هذا الاتصال «طيّب خاطر» محمود عباس، وهو الأمر الذي لم تفعله القيادة الإماراتية والبحرينية، والذي يأتي أيضاً في سياق الدعم الإماراتي لخصم عرفات اللدود محمد دحلان.
ولم تكن الأمم المتحدة ضمن الدائرة الاستشارية لا سيّما أن الأمم المتحدة تتبنّى قراراً يعتبر الصحراء الغربية أرضاً متنازعاً عليها، وأن الاستفتاء هو الكفيل بإنهاء الأزمة إما بالالتحاق بالمغرب أو تقرير المصير، وهو الاستفتاء الذي جرى الاتفاق عليه بعد حرب عسكرية طويلة على مدار 16 سنة بين جبهة البوليساريو والمملكة المغربية، والتي أسفرت عن نزوح آلاف الصحراويين إلى مخيمات اللاجئين جنوب غرب الجزائر وإلى المغرب قبل 45 سنة عقب انسحاب إسبانيا من الإقليم الصحراوي.
كذلك، لم يكن الاتحاد الإفريقي حاضراً في هذا القرار الأمريكي خصوصاً أن الجمهورية العربية الصحراوية الديمقراطية التي أعلنت سنة 1976، تعترف بها 80 دولة، ولها عضوية كاملة في الاتحاد الأفريقي، علماً أن هناك 17 دولة عربية وأفريقية تعترف بالسيادة المغربية على الصحراء، وقد فتحت بعثات دبلوماسية لها فيها.
وكان المغرب قد قرر في 2016 طرد 84 موظفاً دولياً، بما في ذلك موظفو بعثة الاتحاد الإفريقي التابعة لبعثة الأمم المتحدة لتنظيم الاستفتاء في الصحراء الغربية (مينورسو)، ورفضه للزيارة التي كان سيقوم بها الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون إلى الرباط والعيون، عاصمة الصحراء الغربية، ومقر بعثة المينورسو.
وفي الوقت ذاته، نلاحظ أن الوضع الساكن في الصحراء الغربية الذي استمر لسنوات طويلة دون وجود حراك عسكري أو سياسي لافت، تغير منذ بضعة أشهر باتجاه تغيير معادلة السكون؛ حيث تحرك الجيش المغربي في 13 نوفمبر/تشرين الثاني 2020 لوقف التظاهرات الصحراوية، وتفكيك الاعتصامات أمام معبر الكركرات، والذي تحوّل تدريجياً إلى معبر اتصال اقتصادي بين المغرب وموريتانيا، احتجاجاً على فتح المغرب لثغرة في المنطقة منزوعة السلاح على الحدود بين الصحراء وموريتانيا؛ ورأى المغرب حينها أن إغلاق البوليساريو لمعبر الكركرات، واستئناف النشاط الجماهيري للبوليساريو مرتبط بتحريض جزائريّ قد يتطور إلى عمل عسكريّ يمس السيادة المغربية على الصحراء، وحقها في التصرف الكامل بما تعتبره جزءاً من أراضيها؛ فيما ازدادت حدة التصريحات الجزائرية عقب الاستيلاء على الكركرات.
ثانياً: مسارات (سيناريوهات) التطبيع المحتملة بين الكيان الإسرائيلي والمغرب
المسار الأول: التطبيع النشط
ويرى هذا السيناريو إلى أن التطبيع سيكون نشطاً وفعالاً على غرار الحالتين الإماراتية والبحرينية، نظراً للقوة التي حظي بها التطبيع في الأشهر الماضية، وضعف الحالة العربية وتفككها، ومجموعة المغريات والحوافز الأمريكية التي قدمتها للرباط؛ إضافة إلى العدد الهائل من اليهود المغاربة المقيمين في الكيان الصهيوني والذين سيسعون إلى إعطاء زحم كبير لمسيرة التطبيع.
المسار الثاني: التطبيع الهادئ
على غرار التطبيعين المصري والأردني، بشكل يدرك حجم العداء والمعارضة القوية والعميقة لدى الشعب المغربي للتطبيع؛ مع عدم الرغبة في الاصطدام بالمشاعر الشعبية؛ وبالتالي تمرير التطبيع ضمن الأطر الرسمية للنظام، وتركيزه في الجوانب السياسية والسياحية وبعض الخطوط الاقتصادية؛ مع محاولة إظهار التطبيع معبراً لمكسب قومي هو الدعم الأمريكي لضم الصحراء الغربية للمغرب، مع عدد من خطوط الاستفادة السياسية والاقتصادية والعسكرية والتكنولوجية المغربية نتيجة لهذا التطبيع. والسعي لإبقاء صورة الملك باعتباره داعماً لقضية فلسطين ورئيساً للجنة القدس في منظمة التعاون الإسلامي.
المسار الثالث: التطبيع المتعثِّر
وهذا المسار يتوقع ارتباكاً واضطراباً غير بعيد لمسيرة التطبيع، ناشئة عن خروج حزب العدالة والتنمية من الحكومة وسقوطها والذهاب إلى انتخابات شعبية جديدة، وانضمامه إلى قوى المعارضة، وتصاعد الحراك الشعبي المعادي للتطبيع. وقد يدعم هذا المسار تصاعد عمليات المقاومة في فلسطين المحتلة، واستمرار الكيان الصهيوني في اعتداءاته على الأرض والشعب والمقدسات، أو دخوله في أي إجراءات مرتبطة بضم أجزاء من الضفة الغربية. وهو ما يعني أن تجميد العلاقة أو قطعها واردٌ مع تغير الظروف على الأرض، كما حدث بعد اندلاع انتفاضة الأقصى، عندما جمَّد المغرب علاقاته مع الكيان سنة 2002.
وفي إطار الترجيح بين المسارات (السيناريوهات)، فمن المستبعد أن يأخذ التطبيع المغربي مع الكيان الإسرائيلي شكلاً نشطاً، نظراً لقوة المعارضة الشعبية ووجود درجة من النشاط الحزبي السياسي، ولرغبة الملك في بقاء صورته النمطية كراعٍ للقدس. ولذلك يميل هذا التقدير إلى حدوث تطبيع هادئ يحقق مصالح الطرف الإسرائيلي والنظام المغربي، مع بقاء احتمال ارتباك أو تعثر هذا التطبيع، مع أي انتفاضة في الضفة أو حرب مع قطاع غزة، وتزايد الضغط الشعبي الداخلي.
لقد تحولت قضية التطبيع إلى جدل سياسي شعبي كبير داخل المغرب، وامتد الجدل إلى الخارج، وتبدو الأصوات المندِّدة والمعارضة للتطبيع أقوى وأعلى لا سيّما عبر منصات التواصل الاجتماعي، والواجهات السياسية، والدينية، والفكرية المتعددة، إضافة إلى قطاعات من النخبة السياسية، والحزبية، والنقابية، وتبدو هذه الجهات حريصة على رفض ربط القضية الوطنية بملف التطبيع.
في الجانب السياسي تبدو المغرب قد حازت على إنجاز كبير لواحدة من قضاياها المركزية في مقابل التطبيع الذي لم يكن غريباً عن سلوكها السياسي الرسمي السابق، فليس وارداً أن تحدث انتكاسة قريبة في هذا الملف على صعيد القرار السياسي.
ولكن الإشكال الأكبر أن هذا الملف مليء بالتحديات المستجدة التي ستشكّل عبئاً كبيراً على السياسة المغربية بالنظر إلى طبيعة السلوك «الإسرائيلي» على الأرض الفلسطينية، وسينحصر التطبيع بين مستويات متوسطة وصغيرة، وتتصاغر أكثر مع مرور الوقت على المستوى الشعبي وتفاعلاته على الأرض؛ وهي التفاعلات التي ستدخل في قلب المنافسات السياسية. لكن المستوى الأمني والاستراتيجي المرتبط بالعرش سيبقى ثابتاً لكونه بعيداً عن الأضواء.
ثالثاً: مصير اتفاق التطبيع المغربي الإسرائيلي
إن ارتباط هذا الاعتراف الأمريكي بسيادة المغرب على الصحراء الغربية بالتطبيع مع الكيان الإسرائيلي، يجعل الأمرين في مواجهة مشاعر متضاربة لدى الشعب المغربي، فهو بقدر فرحه بهذا الاعتراف الأمريكي فهو يشعر أنه أتى نتيجة ابتزاز سياسي على حساب القضية الفلسطينية، وأن الإدارة الأمريكية لو كانت حريصة على مصلحة المغرب لساعدته في استرداد سبتة ومليلة المحتلتين أولاً؛ وتبدو الفرحة مشوهة، ومنقوصة، ومشوشة في وجوه المؤيدين للتطبيع والمعارضين له على السواء؛ وربما لن يجد بعض مؤيدي هذا التطبيع سوى الانتقاص من القضية الفلسطينية والقائمين عليها، وربما معاداتها والحديث عن أولوية المغرب ومصالحه أولاً، لتغطية سلوكهم وضمان استمرار التأييد الشعبيّ لهذا الاتفاق بحشر النغمة الوطنية في نوتته.
ولا يرى التحليل القريب وجود أفق للاستقرار في منقطة الصحراء الغربية نتيجة هذا الاعتراف الأمريكي بل سيعقد المشهد أكثر مما هو عليه، وقد يؤدي هذا الإعلان إلى تجدد الاشتباكات في الصحراء الغربية وسينهي عقوداً من الهدوء، وعملياً فقد انهار اتفاق وقف إطلاق النار الذي ظلّ سارياً منذ 1991 بين جبهة البوليساريو والمملكة المغربية برعاية الأمم المتحدة، واستأنفت جبهة البوليساريو عملياتها العسكرية ضدّ التحصينات المغربية في الصحراء على طول الجدار الأمني العازل بعد الهجوم العسكري المغربي على منطقة الكركرات.
وسيؤدي هذا الاعتراف إلى فقدان الثقة بأي موقف أمريكي قادم وسيضعف مبادراتها لأنها أصبحت طرفاً منحازاً، وهذا بدوره سيفقد الثقة بالتسوية السلمية التي ترعاها الأمم المتحدة؛ كما سيوجد هذا الأمر حالة نزاع متصلة بين الأمم المتحدة والإدارة الأمريكية حول هذا الملف.
ويمكن أن يتطور هذا الأمر إلى زيادة نشاط جماعات تهريب البشر عبر الصحراء إلى المغرب، إذا قررت الجزائر والبوليساريو غضّ الطرف عن نشاطات العصابات العاملة في هذا المجال.
كما يمكن أن تتحول المنطقة إلى نقطة جذب لبعض التيارات القريبة من توجهات القاعدة وطريقة تفكيرها لا سيّما أنها قريبة من مراكز انتشارهم جنوبي الصحراء الكبرى.
ولا يبدو أن بمقدور الرئيس الأمريكي القادم التراجع عن إعلان ترامب لئلا يغضب الحليف المغربي والإسرائيلي، بل لعل هذا الأمر هو في ذيل اهتماماته الكبيرة القادمة، وأكثر ما يمكن توقعه هو أن يعلن حرص واشنطن على مراجعة هذا القرار وأن يسعى لإقناع الجزائر بأنه لن يؤثر على الأوضاع في الأرض عملياً، وأن يدعم تعيين مبعوث أممي جديد للسلام، يتيح الفرصة لتمرير التصور المغربي المطروح سابقاً لإنهاء النزاع، استناداً إلى حالة الجمود الطويل في هذه القضية دون إحداث تغيير فيها.
ولا تبدو أن هناك فرصة سانحة للتراجع عن هذا التطبيع في ظلّ هذه الحيرة الناشئة عن وجود مكسب سياسي مباشر لهذا التطبيع، على الرغم من عدم أخلاقية هذا الابتزاز ونتائجه العكسية على الشعب الفلسطيني وقضيته؛ ولعل السبب الأكبر في ضعف إمكانية التراجع عنه قريباً، أن العرش المغربي يقف وراء هذه الاعتراف بقوة ويدعمه، وأنه اتخذ قراره هذا بالرغم من علمه بالآثار السلبية الكثيرة عليه، ونظراً لالتزام معظم القوى السياسية المغربية بسقف العرش الملكي في خياراته السياسية، فإن فرص معارضة هذا الاتفاق داخل المنظمة السياسية تبدو ضئيلة جداً، وسيكون الحراك مقتصراً على الفعاليات الشعبية والنقابية في حدود ضيقة للتعبير، وهو الأمر الذي سيولّد احتقاناً في الشارع المغربي المتعاطف مع القضية الفلسطينية في عمومه، وهذا الاحتقان قد يتولد عنه اضطرابات محدودة أو عقوبات شعبية سياسية لكل الأطراف السياسية التي أسهمت في صناعة هذا التطبيع بهذه الصورة، أو رضيت به أو بررته أو صمتت عن إعلان موقف منه.
ولعل أولى ضحايا هذا التطبيع ستكون حكومة «سعد الدين العثماني» ذات التوجه الإسلامي التي وقعت بين فكي كماشة: قناعتها بسقف مؤسسة العرش والتزامها الكامل به، وقناعتها بدعم القضية الفلسطينية ورفض التطبيع، وهي الموازنة الصعبة التي جلبت نقداً هجومياً مركزاً لم تستطع الحكومة والحزب الرئيسي فيها «العدالة والتنمية» تقديم خطاب مقنع لجمهورها إضافة إلى الجمهور العام غير المؤطر لها.
ولكن هذه المعارضة الشعبية والنقابية والأهلية للتطبيع ستجد فريقاً معارضاً لها يحظى بدعم السلطة ونفوذها؛ ولا سيّما في طبقة رجال الأعمال والنافذين المقربين من دوائر السلطة، إضافة إلى الإثنية اليهودية في المغرب، والتي تمتلك شبكة علاقات فاعلة داخل منظومة السلطة المغربية وبعض المجتمعات المتصلة بها. وستعمل الجالية اليهودية المغربية بجهد على تصميم أعمال لافتة تُظهِر التطبيع وكأنه منتشر، ويحظى بقبول شعبي عبر منصات ثقافية، واقتصادية، وسياحية، وسياسية، وهذا بدوره سيعطي انطباعاً بقوة تيار التطبيع وانتشاره، ويوجِد حالة متداخلة لدى معارضي التطبيع تجمع بين الانقباض والاستفزاز.
وستستثمر الجالية اليهودية المغربية علاقاتها مع بعض الأطراف الأمازيغية الفرانكفونية، التي استطاعت اختراق بعض نخبتها، لدعم تسويق التطبيع وتمكين حضوره في المجتمع المغربي.
رابعاً: أثر التطبيع المغربي المباشر على القضية الفلسطينية
المجال الأخطر في هذا التطبيع أنه أدخل معادلة المصالح الإسرائيلية في قلب الاهتمامات المغربية ضمن سياستها الخارجية، وأن المغرب ألغى حالة العداء مع الكيان الإسرائيلي، وتحول إلى جوانب التعاون والصداقة، وبالتالي وبغض النظر عن الطرح الرسمي المتعاطف والمراعي للبيئة الشعبية، فإن النظام السياسي قد أخرج نفسه من معادلة النصرة المباشرة للنضال الفلسطيني، إلى معادلة الوساطة وإدارة المصالح، وهذه خسارة كبيرة للقضية الفلسطينية.
واستناداً إلى هذا المنطلق فإن التيارات السياسية الفلسطينية العاملة في مربع المقاومة ستجد صدوداً دبلوماسياً وسياسياً رسمياً مغربياً.
وربما سيتاح للفلسطينيين وأنصارهم هامش صغير، يتمكنون فيه من عرض قضيتهم بوجهها الإنساني داخل المغرب، دون أن يتجاوز الأمر حدود معارضة قرار العرش.
ويبدو الموقف المغربي صعباً مع أول اختبار له عندما تعيد السياسة الإسرائيلية سلوكها الطبيعي في ممارسة أعلى درجات العنف والوحشية في مواجهة الفلسطينيين، كما سيبدو الموقف المغربي أصعب أكثر، مع إجراءات تهويد القدس والسيطرة على المسجد الأقصى لا سيّما أن الملك المغربي ما زال متمسكاً بتلك الصفة الفخرية «رئيس لجنة القدس» المنبثقة عن منظمة التعاون الإسلامي، وهو المسئول عن ذراعها التنفيذية «وكالة بيت مال القدس الشريف» والتي تتخذ من الرباط مقراً لها، وفي صدر مهماتها بموجب اللائحة الأساسية: إنقاذ القدس الشريف، والحفاظ على المسجد الأقصى والأماكن المقدسة، وتراثها الديني، والحضاري، والثقافي، والعمراني.
على أن الفلسطينيين قد يحظون بمعاملة نسبية أفضل في الجانب الجزائري، ليس فقط في إطار النظرة لقضية فلسطين، وإنما أيضاً في إطار إدارة الاختلاف بين الجزائر والمغرب، بما في ذلك مسألة الصحراء الغربية. وهذا السلوك الجزائري قد يؤدي إلى انخراط مغربي نسبيّ أكبر قليلاً في بعض المربعات المؤيدة للقضية الفلسطينية سياسياً، وإنسانياً، لإثبات التزام المغرب تجاه هذه القضية وفق التأكيدات الملكية المتكررة.
توصيات
- التواصل مع مختلف الجهات في المغرب، ومواجهة تيار التطبيع رسمياً وشعبياً، والضغط لمراجعة قرار التطبيع وعدم إتاحة المجال لتيار التطبيع بتقوية نفسه أكثر داخل مؤسسات السلطة وعدم إعطاء السلطة أي مبررات للتراجع عن دعم القضية الفلسطينية.
- مطالبة الحكومة التي يقودها حزب العدالة والتنمية باتخاذ موقف حاسم تجاه التطبيع، ينسجم مع مبادئها وسلوكها السياسي الرافض للتطبيع والداعم بقوة لقضية فلسطين.
- تشجيع الأنشطة والفعاليات السياسية، والإعلامية، والثقافية، والعلمية، التي تبرز مخاطر التطبيع وآثاره السالبة على المجتمع المغربي وعلاقاته مع شعوب المنطقة.
- إظهار حقيقة أن التطبيع لا يتَّسق مع دعم فلسطين، وأنه خصم مباشر وعدو للقضية الفلسطينية مهما كانت أشكاله، وأنه يؤثر سلباً على استرداد الحقوق الفلسطينية وعلى برنامج مقاومة الاحتلال وجرائمه، ويطيل عمر هذا الاحتلال، ويؤخر إنجاز تحرير الأرض المحتلة، وتحرير المقدسات.