الاقتصاد المغربي: بين تحرير العملة وإملاءات صندوق النقد
قرارٌ مالي واقتصادي أثار الكثير من الجدل حول مآلاته وانعكاساته على مستوى معيشة المواطن المغربي، ومغامرةٌ لا تزال محفوفة بالمخاطر وسط أجواء مترقبة تشهدها العاصة المغربية الرباط. ففي منتصف يناير/كانون الثاني الماضي، خرج البنك المركزي في المغرب ليعلن عن بدء مرحلة جديدة من مراحل تحديث الاقتصاد المغربي.
تنطلق من بدء التحرير التدريجي لسعر صرف الدرهم المغربي، بعد أن كان المغرب متمسكًا لعقود بنظام سعر الصرف الثابت، وربط عملته بالدولار والعملة الأوروبية الموحدة منذ أوائل السبعينات. جاء هذا القرار نتيجة رغبة قوية في الداخل المغربي بتسريع وتيرة التحول الهيكلي لبنية الاقتصاد الوطني، والاندماج داخل المنظومة العالمية القائمة بالأساس على العرض والطلب وقواعد السوق الحرة.
لكنه في الوقت ذاته، أثار نقاشًا حادًا داخل الشارع المغربي. إذ لا يزال القلق يعتري المواطن المغربي من أن يقترن ذلك القرار بانخفاض القوة الشرائية، نتيجة ارتفاع أسعار المواد الغذائية الأولية التي تأتي من الخارج. كما أن قرار التحرير يرتبط في ذهن المواطن المغربي بالتجربة السيئة التي مرت بها مصر عندما بدأت في تنفيذ قرار التعويم في 3 نوفمبر/تشرين الثاني 2016، إذ تسبب هذا القرار في ارتفاع نسبة التضخم ومن ثَمَّ غلاء مستوى المعيشة وارتفاع قيمة الديون الخارجية.
عنصر «المفاجأة» و«التدرج» في قرار التحرير
جاء القرار في ذلك التوقيت مفاجئًا، رغم التوقعات المسبقة بأن تبدأ المغرب بتحرير سعر الصرف في إطار عملية نقدية تسمى «سعر الصرف المرن» في يوليو/تموز الماضي، وذلك عملاً بتوصيات صندوق النقد الدولي. لكن الحكومة المغربية آثرت التريث، خصوصًا وأنها قد بدأت منذ أكثر من عام في إجراءات تحرير سعر الصرف بشكل تدريجي استعدادًا لهذا القرار.
لعل ما جعل الحكومة تلعب على عنصر المفاجأة في إعلانها عن البدء في تحرير الدرهم هو رغبتها في تفادي المضاربة بالعملة الوطنية، وذلك باقتناء المضاربيين للعملات الأجنبية. ويبدو أنها ستسير بنفس الطريقة عند الإعلان عن بدء المرحلة الثانية من تحرير سعر الصرف، حيث أكد «عبد اللطيف الجواهري»، محافظ البنك المركزي، في مؤتمر صحفي يوم الثلاثاء الموافق 20 مارس/آذار الماضي، على أن تحرير سعر الصرف سيسير وفق البرنامج المخطط له، مشيرًا إلى أنه لن يعلن مسبقًا عن توقيت «توسيع نطاق تحرك تعويم الدرهم» ولا عن تاريخ إطلاق المرحلة الثانية.
لم يكن عنصر المفاجأة هو أبرز ما ميز القرار، لكن التدرج في تنفيذه في حد ذاته جعله مختلفًا عن القرار المصري،فقد كان الشروع في الإجراء النقدي الجديد ينطوي على توسيع نطاق تداول الدرهم المغربي مقابل العملات الأجنبية الرئيسية المتداولة في الأسواق ليصل إلى 5%؛ أي بواقع 2.5% للدرهم و2.5%للعملة الأجنبية المتداولة مقابله. وربما للتحرير التدريجي، الذي اعتبره متخصصون اقتصاديون «تليينًا» وليس تعويمًا، أكثر من تفسير:
1. تأمين الاقتصاد المغربي من الصدمات
ربما ترغب الحكومة المغربية في وقاية الاقتصاد المغربي، لما في التدرج من قدرة على تفادي الصدمات التي قد تأتي من الخارج نتيجة التقلبات في سعر الصرف للعملات الرئيسية. فالسلطات المالية والنقدية في المغرب لا ترغب في تسريع وتيرة تحرير سعر الصرف إلا بعد التأكد من مدى استعدادية الاقتصاد المغربي لتحمل ذلك، الأمر الذي يتطلب ضرورة توفر رصيد كافٍ من النقد الأجنبي. لذا فسرعة تحرير سعر صرف الدرهم رهين مستوى رصيد النقد الأجنبي، والذي إن حدث به نقص كبير ستلجأ الدولة إلى التعويم مباشرة لا التحرير التدريجي.
2. الرغبة في طمأنة المواطنين
يبدو كذلك أن المسئولين بالحكومة على علم بحالة القلق التي تجتاح الشارع المغربي، وربما كان قرار التدرج في التحرير وسيلة لطمأنة المواطنين، بأن الأمر يسير وفق خطط مدروسة وتقييم جاد. وعلى سبيل تلك الطمأنة، أكد وزير المالية «محمد بوسعيد» على أن «بنك المغرب سيستمر في التدخل في سعر الصرف لضمان توافر السيولة في الأسواق»، ومن ثَمَّ تجنب المشاكل التي يخشاها الواطن المغربي.
3. الرغبة في إتاحة الفرصة للفاعلين
بحسب وجهة نظر الباحث الاقتصادي «المهدي البركاني»، فإن التدرج ناجم عن رغبة في إتاحة الفرصة للفاعلين الاقتصاديين وبخاصة المصدرين كي يتهيأوا للتنافسية؛ لأن التعويم الكامل إن حدث دفعة واحدة سيؤدي إلى توسيع عجز الميزان التجاري نتيجة الاستيراد المكثف، وهو ما سيؤثر سلبًا على الأسعار نتيجة التضخم وعلى رصيد المغرب من النقد الأجنبي.ووفقًا لتقرير البنك الدولي بشأن الاقتصاد المغربي الصادر في إبريل/نيسان العام الماضي 2017، فإن «التحرك التدريجي إلى سعر صرف أكثر مرونة سيدعم التنافسية لدى السوق المغربية».
4. محاولة لـ «دس السم في الدسم»
هكذا يرى «عمر كتاني» الخبير الاقتصادي، فقرار تحرير الدرهم في رأيه «قرار سلبي»لن يؤدي إلا لخفض قيمة الدرهم المغربي. وأن الدولة -في رأيه- حينما قررت بأن يتم التعويم على مراحل، كل مرحلة 5%، كان ذلك دليلاً على استيعاب الدولة للتأثير السلبي للتعويم على الاقتصاد المغربي.
على الجانب الآخر، يوصي صندوق النقد الدولي السلطات الاقتصادية والمالية في المغرب بضرورة الانتقال إلى المرحلة الثانية في أسرع وقت ممكن، حيث أشار في تقريره السنوي إلى أن تأجيل المملكة انتقالها للمرحلة التالية قد يتسبب في تذبذب الأوضاع، ويشكك في مدى قدرة السلطات المغربية على الالتزام بالإصلاح والخطوات المتفق عليها.
الحصاد الأولي للتحرير منذ صدور القرار
وفق تصريحات محافظ البنك المركزي في 20 مارس/آذار 2018، حول مخرجات ما بعد تحرير سعر صرف الدرهم المغربي، فإن البنك المركزي وفر للبنوك المغربية منذ انطلاق عملية التحرير في منتصف يناير/كانون الثاني وحتى 12 مارس/آذار الماضي، سيولة تُقدر بنحو 240 مليون دولار. في حين تراجع مستوى الاحتياط النقدي من العملات والذهب في المغرب نتيجة الاستعانة بجزء منه في تمويل عجز الميزان التجاري، ودعم صرف قيمة الدرهم في ظل تقلبات أسعار العملات الدولية.
كما تراجعت الاحتياطات النقدية الأجنبية المودعة لدى البنك المركزي المغربي، بحسب بيان المركزي الصادر في 29 مارس/آذار الماضي، لـ 231.7 مليار درهم. وفي المقابل، تحسن سعر صرف الدرهم أمام اليورو بنحو 0.3%، بينما تراجع أمام الدولار بنسبة 0.5%. ومن الأمور التي اعتبرها المصرف المركزي مطمئنة، هو تغطية الاحتياط النقدي نحو 6 أشهر من واردات السلع، لكن على الجانب الآخر فإن نمو الاحتياط في ذاته يبقى ضعيفًا مقارنةً بوتيرة نموه المسجلة عام 2016.
كذلك فقد صعدت إيرادات السياحة بنسبة 32%،وتحويلات المغتربين بنسبة 21%، والتدفقات الاستثمارية المباشرة بنحو 25%، الأمر الذي جعل إيرادات المغرب من العملات الصعبة في يناير/كانون الثاني تقدر بنحو 11.41 مليار درهم. فيما يتوقع مركزي المغرب، أن يبلغ رصيد المغرب من النقد الأجنبي في العام الحالي 27.93 مليار دولار، الأمر الذي سيساعد على تغطية مشتريات السلع والخدمات لمدة أكبر من 5 أشهر ونصف.
ووفق تقرير صدر في 21 مارس/آذار الماضي للشركة الأمريكية «جونز لانغ لاسال»، المتخصصة في الخدمات المهنية وإدارة الاستثمارات في القطاع العقاري، فإن تحرير سعر الدرهم الذي تتبناه المغرب سيعمل على إنعاش سوق العقار، إذ قال «كريغ بلامب»، رئيس قسم الأبحاث في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في الشركة، «إن المغرب يسير في الطريق الصحيح، وإن الإصلاحات التي أدخلتها الحكومة المغربية سيكون لها تأثير مضاعف على القطاع العقاري، حيث إن المستثمرين في جميع القطاعات لديهم الآن الفرصة ليكونوا أكثر مرونة في اتخاذ قراراتهم». كما تعمل المغرب في الوقت الحالي، وفق ما صرح به محافظ البنك المركزي، على إستراتيجية «المغرب الأخضر» والتي من شأنها استهداف «التوسع في إنتاج المحاصيل الزراعية والتصنيع الزراعي الصديق للبيئة».
إملاءات صندوق النقد الدولي
بات الحديث عن ارتباطية سياسات صندوق النقد الدولي بواقع الاقتصاد المغربي، مثار جدل في الآونة الأخيرة، الأمر الذي جعل الحكومة المغربية تُبرئ نفسها في أكثر من سياق، من أن تكون قراراتها ما هي إلا استجابة لإملاءات الصندوق.
لكن الواقع يشير إلى غير ذلك، فقد اعتادت المغرب، كلما عجزت ميزانيتها عن إدارة شئون الدولة، بأن تلجأ إلى سياسة الاقتراض من الصندوق. ففي عام 2012، سبق أن استفادت المغرب من صندوق النقد الدولي بقرضٍ وصلت قيمته إلى 6,21 مليار دولار، بينما حصلت على قرضٍ مماثل بقيمة خمسة مليارات دولار في عام 2014.
أما آخر مرة لجأت فيها المغرب للاقتراض من صندوق النقد الدولي، كانت عندما فتح الصندوق خط سيولة جديد للمغرب،الأمر الذي أثار حينها جدلاً واسعًا في الأوساط الاقتصادية والسياسية المغربية. وسط أجواء من التشكيك في نية الصندوق بأن تصبح المغرب رهينة له. حيث وافق المجلس التنفيذي للصندوق في يوليو/تموز 2016، على اتفاق مع المغرب للاستفادة من خط الوقاية والسيولة بقيمة تقدر بحوالي 3.47 مليار دولار أمريكي لمدة عامين، كتسهيل تمويلي يهدف إلى وقاية المغرب من الصدمات الاقتصادية الخارجية. والذي من المقرر انتهاء المدة التي تغطيه في 21 يوليو/تموز 2018.
ربما يعبر حرص الصندوق على إقراض المغرب بشكل مستمر عن حصول المغرب على ثقة المؤسسات الدولية. وعلى الجانب الآخر عن حرص الحكومة المغربية على تطبيق سياسات الصندوق الاقتصادية في المملكة.
وبالفعل دأبت الحكومة المغربية على تنفيذ توصيات الصندوق والتي كان من ضمنها إصلاح قطاع الطاقة، عن طريق تحرير أسعار المحروقات، ورفع الدولة يدها عن دعم مواد الطاقة المستوردة. وتوصيات أخرى جاء بها في قرضه الأخير بضرورة دعم القطاع الخاص، وتنمية رأس المال البشري، وزيادة مرونة أسعار الصرف.
ورغم ما قد تظهره النتائج في الأوراق الرسمية من تحسنات تساعد نظريًا في انتعاش الأسواق وفتح أسواق جديدة، وافتتاح المزيد من المشاريع الخاصة، لكن الفساد وغياب العدالة هو ما تسبب في احتكار القطاع الخاص للمشروعات الخاصة من قبل نخب سياسية ومالية، الأمر الذي ينعكس سلبًا على المواطنين في شكل ارتفاع أسعار المواد الغذائية وتمديد سن التقاعد والتمادي في خصخصة القطاعات العامة.
وبالعودة إلى قرار التحرير التدريجي لسعر صرف الدرهم المغربي، فإن المغرب عمل لسنوات طوال مع بعثة فنية من صندوق النقد الدولي كي يحرر عملته. اتفق كلا الجانبين على أن تتم هذه الخطوة بالتدريج إلى أن تصل المغرب إلى مرحلة التعويم الكامل خلال سنوات.
فصندوق النقد الدولي ظل يدعم الفكرة ويؤازرها ويحث عليها وعلى عدم التباطؤ فيها. وفي إطار إظهار رضائه عنها، أشاد الصندوق بقرار المغرب بالانتقال إلى نظام سعر صرف مرن واعتبره «إصلاحًا تاريخيًا مرنًا»سيُمكن المغرب من النمو على نحو متسارع، وسيعين اقتصادها على امتصاص الصدمات الخارجية. كما يتوقع نيكولا بلانشيه، المستشار ورئيس بعثة المغرب بقسم الشرق الأوسط وآسيا الوسطى بصندوق النقد الدولي، أن ينمو الاقتصاد المغربي بمقدار 4.5% في مطلع عام 2021.