مسلمو مورو: الشاهد على تاريخ أمريكا الأسود في الفلبين
في مرتين متتابعتين ينصح ترامب قادة الجيوش وعامة الشعب بالتعلم من الجنرال الأمريكي جون بيرشنج وطريقته في التعامل مع المتمردين. الأولى، كانت في فبراير/ شباط 2016 إبان الانتخابات التمهيدية للحزب الجمهوري، عندما صرّح ترامب بأن الجنرال أوقف خمسين رجلًا من مسلمي مورو، أطلق الرصاص المُلطخ بدم الخنزير على 49 منهم، وترك الأخير يعود ليروي ما حدث، لذا لم يتسبب المسلمون بأي مشكلة لمدة 25 عامًا.
أما المرة الثانية، كانت في أعقاب حادث برشلونة الإرهابي في أغسطس/ آب 2017. كرر ترامب في تغريدته نفس جملته السابقة إلا أنه جعل المدة 35 عامًا بدلًا من 25. ويبقى التلميح بهذه القصة هو التصريح المُفضل لدى ترامب بعد كل حادث إرهابي، فالإرهاب في نظر ترامب «إسلامي الصنع» دائمًا.
لبيرشنج، الشهير بـ«بلاك جاك»،آثاره في تطوير الجيش الأمريكي من مجرد وحدات فروسية صغيرة إلى قوة واحدة كبيرة منفتحة على استخدام الدبابات والطائرات. واتضحت قدرته العسكرية في الانتصارات التي حققها جيشه المكون من مليون جندي في الحرب العالمية الأولى. حصل على رتبة قائد الجيوش الأمريكية، لم يحملها قبله سوى جورج واشنطن فقط. كما أنه هو من أدخل نظام «الركن» إلى الجيش الأمريكي، فقسّمه إلى ركن استخباراتي، ركن إمداد، ركن عمليات، وركن إدارة. وهو النظام المُتبع إلى الآن في الجيش الأمريكي وفي غالبية جيوش العالم.
لكن بتلميحات ترامب المتكررة إلى هذه الواقعة تحديدًا من حياته يفتح ترامب صفحةً من التاريخ الأمريكي يحاول المؤرخون والإعلاميون الأمريكيون قطعها للأبد، بدلًا من محاولات طيّها أو ترقيعها التي دائمًا ما تبوء بالفشل. المؤرخون الدارسون لبيرشنج رفضوا تلك الرواية قائلين، إنها لا تتماشى مع أخلاق بيرشنج، ولم ترد في مذكراته.
القصة التي رواها ترامب لم نقف لها على مصدر، لكن قصةً مشابهةً وُجدت في المذكرات الرسمية لبيرشنج يروي فيها قيامه بدفن مسلمي الفلبين مع الخنازير في مقبرة واحدة. بيرشنج يُعلل قيامه ذلك بأن المسلمين كانوا يظنون أن دفنهم مع الخنازير سيُدخلهم النار بدلًا من الجنة، مما يمنعهم من القيام بهجماتٍ على الجنود الأمريكيين خوفًا أن يُقبض عليهم أو يقعوا في الأسر فيدفنهم الأمريكيون مع الخنازير فيذهبون إلى النار بدلًا من الجنة، الجنة التي كانت الدافع الأساسي وراء تصديهم للجنود.
أفعال بيرشنج وغيره من الجنرالات الأمريكيين تمثل مجتمعةً سنواتٍ من القمع رضخت فيها الفلبين للاحتلال الأمريكي، امتدت من عام 1899 وحتى عام 1913. إذا كنا الآن نُطلق عليها الحرب الفلبينيّة الأمريكية، فإن مكتبات الكونجرس ظلت سنوات عدة تُسميها «العصيان الفلبيني».
الجانب الأمريكي يرى الأمر «عصيانًا» لأن الحرب بدأت برفض الفلبين نتائج معاهدة باريس، التي أنهت الحرب الإسبانية الأمريكية القصيرة، وهي ضم أرخبيل الفلبين لسيطرة الولايات المُتحدة. رفض الفلبينيون استبدال المحتل الإسباني بآخر أمريكي، لذا آثروا استكمال ثورتهم التي بدؤوها عام 1896.
احتاج الأمر 200 ألف قتيل فلبيني حتى أصدرت الولايات المتحدة قرارها عام 1902 بإنشاء «الجمعية الفلبينية» لقيادة الفلبين، التي يجب أن تتكون من الذكور وينتخبها الذكور فقط. وبعد 14 عامًا من الوصاية الأمريكية صدر عام 1916 أول قرار مُلزم رسمي من الولايات المتحدة بمنح الفلبين استقلالها. ثم بعد 18 عامًا أخرى، عام 1934، صدر بيان استقلال الفلبين رسميًا كخطوة على طريق الاستقلال المُرتقب عام 1944، لكن الحرب العالمية الثانية جاءت لتُعطل الاستقلال عامين ولتُضيف اليابان كمحتلٍ آخر للفلبين، وحصل الفلبينيون أخيرًا على استقلالهم عام 1946.
«الاحتلال» لنشر الحضارة
الولايات المتحدة دولة غنية لا تحتاج إلى مستعمرات ولا تطمع في ثروات الدول الأخرى، بتلك الكلمات الوردية يخدع الجنرال الأمريكي جورج ديوي، الفلبيني إميليو أغينالدو. تزداد الحبكة بقول القنصل سبنسر برات، إنه لا حاجة لاتفاق مكتوب بخصوص استقلال الفلبين وموعد وكيفية خروج الولايات المتحدة منها، علّل سبنسر ذلك بأن الولايات المتحدة دائمًا ما تلتزم بكلمتها.
لم يُفق أغينالدو من شعوره بالنشوة لهذه الكلمات الخادعة إلا حين ألقت الولايات المتحدة في وجهه خبر تفاوضها مع إسبانيا سرًا للحصول على الفلبين كاملةً هدية من إسبانيا. حينها أنكر الجنرال والقنصل الأمريكيان كلماتهما. هذا الإنكار يبدو متسقًا مع السياسة الأمريكية تجاه الفلبين آنذاك. كانت السياسة المُعلنة هى «الاستيعاب الخيري»، إذ أعلن الأمريكيون أن سبب غزوهم الفلبين هو جلب الحضارة للشعب الجاهل غير المُتحضر. فالفلبين في الرواية الأمريكية شعب غير قادر على حكم نفسه لذا فهو بحاجة إلى من يُعلمه قواعد الحكم.
لكن التقصي التاريخي يُظهر ضغط رجال الأعمال الأمريكيين للتدخل في الفلبين، إذ إنها بلد غني بالموارد الطبيعية. إضافةً إلى وقوعها بجوار البلد التجاري الأول، الصين. لذا كان من الضروري للأمريكيين أن تخضع لهم الفلبين مهما يكون السبب. التدخل في الفلبين بدأ بمذبحة وانتهى بمذبحة، وبينهما مذابح صغرى.
اقرأ أيضًا:تفاصيل مثيرة: هكذا حاولت داعش إنشاء «ولاية» في جنوب الفلبين
بالانجيجا
مذبجة بلانجيجا أو قضية بالانجيجا،يختلف الأمر حسب تبعية الموقع الذي تتصفحه وجنسية المؤرخ الذي تقرأ له. إذا كان فلبينيًا، فالأمر مذبحة. وإذا كان أمريكيًا، فالأمر رد فعل طبيعي على حادث قُتل فيه 50 جنديًا أمريكيًا. أدت الأزمة بالعميد الأمريكي روبرت هيوز عندما أمر باتباع سياسة عدوانية تجاه جزيرة «سَامار» بحرمان سكانها من الطعام وتدمير كل ما على الجزيرة، إغلاق الموانئ الرئيسية الثلاثة لهذه الجزيرة كان سبيل العميد لتحقيق هدفه، بالانجيجا، باسي، جيوانا.
كانت الجزيرة مصدرًا رئيسيًا لنبات «الحشيش»، فاعتبرتها الولايات المتحدة منطقةً حيويةً يجب الحرص على وصول مخزونها كاملًا إلى الولايات المتحدة لا العاصمة الفلبينية مانيلا.
يصدر الجنرال الفلبيني «فسينت لوكبان» المسئول عن حكم البلدة تعليماته إلى سكان ووجهاء الجزيرة بخداع الأمريكيين القادمين بودٍ زائد، والترحيب بهم بحفاوة بالغة، حتى إذا ما أمنوا جانب السكان ثاروا عليهم. بالفعل مضت الشهور الأولى بسلاسة لم يتخللها سوى خلافات طفيفة ناتجة عن اختلافات في الثقافة وطريقة العيش. بدأت المشاحنات في اتخاذ صورة جدية حين أمر الكابتن الأمريكي توماس دبليو كونيل بتجريف الأراضي المحيطة بالبلدة لاحتمالية استخدامها طرقًا لتهريب المنتجات الغذائية خارج الجزيرة. ماطل السكان في تنفيذ هذا القرار مما أغضب كونيل، فقاد حلمةً لعقاب سكان الجزيرة.
يقرر لوكبان وقائد الشرطة الرد على هذا العقاب الأمريكي بإقامة فخ كبير للجنود الأمريكيين، حفلةٌ ضخمة مليئة بالخمر. أُقيمت قبل أيام من زيارة مفتش أمريكي مهم، مما جعل كونيل لا يُعارض إقامتها إذ يمكن استغلالها باعتبارها ترحيبًا من السكان بالوفد الأمريكي. وفي اليوم التالي للحفلة، 28 سبتمبر/ أيلول عام 1901، بينما الجنود يعانون من آثار خمر الأمس أرسل سكان القرية نساءهم وأطفالهم إلى قرية مجاورة، وتسلل الرجال متنكرين في ملابس نسائية إلى مقر الجنود الأمريكيين وانقضوا عليهم.
لقي الكابتن الأمريكي توماس كونيل مصرعه ومعه 54 جنديًا آخرين، وجُرح 20 بجروحٍ أفضت إلى موتهم في النهاية، ولم ينجُ من القوة الأمريكية سوى أربعة جنود فقط، احتموا بمركب البريد في البحر.
اقتلوهم
الحادثة لاقت صدًى واسعًا في الصحف الأمريكية المحلية تحت عدة عناوين اتفقت جميعها على أنها الهزيمة الأسوأ للجيش الأمريكي، وحينما وصل قائد الفوج التاسع للجيش الأمريكي إلى الجزيرة وجد أهلها قد هجروها تمامًا. حينها نشر الجنرال الأمريكي جاكوب إتش سميث تعميمه إلى المسئولين:
ثم أُتبع هذا التعميم بقرار معاملة كل المدنيين كعسكريين متعاونين مع الثوار، لا خطوط حمراء في التعامل معهم. هذا القرار جاء مستندًا إلى قرار تاريخي لإبراهام لينكون برقم 100 لعام 1863 بمعاملة المدنيين بشكل وحشي طالما يتصرفون كالعسكريين.
الرد الأمريكي جاء بقطع جميع إمدادات الغذاء والمؤنة حتى الاستسلام أو الموت. ثم أُرسلت فرقة إلى داخل المناطق المأهولة لتقوم بتنفيذ قرار قتل بحق كل من هو فوق سن العشر سنوات، إضافةً إلى قتل المواشي والأغنام وحرق البيوت والحقول. وراح ضحية هذه الحملة ما يُقارب 50 ألف مدني وفق تقديرات محايدة، أما الجهات الأمريكية، فتقول ثلاثة آلاف فقط. وبعد نهاية الحرب قُدم الضباط المسئولون عن بلانجيجا إلى المحاكمة، انتهت المحاكمات إلى توبيخ جاكوب سميث وإحالته للتقاعد.
حفرة مورو
تمرد مسملو مورو في جنوبي الفلبين عام 1906 ضد الضرائب الأمريكية التي رأوها أشبه بالجزية. على مدار 30 عامًا من احتلال الولايات المتحدة للفلبين كانت أنفة مسلمي مورو قد هدأت حتى صار الأمر أشبه بسلام ضمني. لذا اختلف القادة الأمريكيون أنفسهم في وصف ما حدث معهم بأنه «معركة».
تقول الأدبيّات الأمريكية، إن ما حدث لا يمكن أبدًا وصفه بالمعركة، فقد كانت هناك قوة أمريكية، بأسلحة متطورة وعدد كبير ومدافع ثقيلة مدعومةً بالبحرية، تقتل مجموعةً من الرجال العُزل المختبئين في حفرة معهم نساؤهم وأطفالهم. وكان فرار المورو إلى الحفرة التي احتموا بها من قبل أثناء الهجمات الإسبانية، إعلانًا عن نيتهم المسالمة ورفضهم القتال.
اقرأ أيضًا: السلاح هو الحل: مسلمو مورو في الفلبين ينتصرون
اعتبر القادة الأمريكيون ما حدث انتصارًا لشرف العلم الأمريكي، بينما كان الأمر كارثةً على مستوى العلاقات العامة والمجتمع الدولي. حاول المجتمع الأمريكي تصدير الأمر على أنه كان دفاعًا عن النفس أمام هجمات متوحشة من مسلمي مورو. في الرواية الأمريكية لمحةٌ من الصدق، لأن مسلمي مورو كانوا أشداء في القتال بطريقةٍ لم يعهدها الأمريكيون في الفلبين من قبل، حتى في المذبحة المذكورة حين وجدوا أنفسهم مقتولين في كل الأحوال فرّ بعضهم إلى أماكن أسلحتهم فاستطاعوا جرح عدد من الجنود الأمريكيين باستخدام سيوفهم المعوجة وقنابلهم المصنوعة من قليلٍ من البارود مخلوط بكثير من الأصداف البحرية.
في نهاية مجزرة المورو بلغ ارتفاع أكوام الجثث مترا ونصف المتر. الأطباء الذين وصلوا إلى المكان لإسعاف الجنود الأمريكيين نقلوا ملاحظةً أن العديد من الجثث كان مصابًا بأكثر من طلقة قاتلة في توقيتات مختلفة، مما يعني أن الجنود انتقموا من مسلمي مورو حتى بعد موتهم.
خروج من الأرض لا الهُوية
جانبٌ كبير من السجالات الثقافية التي تدور في الفلبين هي حول ضرورة التحرر من الثقافة الأمريكية التي تسيطر على الشعب الفلبيني حتى بعد الخروج العسكري من الدولة. قد يبدو ذلك ترفًا فكريًا بجانب مذبحتين أُخريين قامت بهما الولايات المتحدة بحق الفلبين، وخفت ذكرهما مقارنةً بالمجزرتين السابقتين. الأولى، كانت في الحرب العالمية الثانية حين آثرت الولايات المتحدة الانسحاب التدريجي لمساعدة بريطانيا على هزيمة ألمانيا النازية تاركةً آلافًا من الفلبينيين محاصرين في مدينة باتان تحت النيران اليابانية المباشرة.
أما ا لمجزرة الثانية، فكانت اعتبار الحكومة الأمريكية لمحاربي الفلبين الذين قاتلوا بجوارهم أنهم مواطنون من الدرجة الثانية لذا أخرجهم قانون الإلغاء سيئ السمعة الذي أقره الرئيس الأسبق هاري ترومان عام 1946 من مُسمى قدامى المحاربين. وجرى حرمانهم من كافة المميزات التي حصل عليها نظراؤهم الأمريكيون. ناضل الفلبينيون كثيرًا من أجل هذا الحق حتى حصلوا أخيرًا على قرار الرئيس السابق باراك أوباما بمنح 15 ألف دولار لكل طبيب بيطري فلبيني من أصل أمريكي، و9 آلاف لكل طبيب بيطري ليس أمريكيًا.
بعد انتهاء كل هذه المعارك ما زال الأمريكيون ينظرون إلى الشعب الفلبيني كشعبٍ همج غير مُتحضر، حتى أن القوانين الأمريكية حرصت على سن تشريعات تُقر بفصل رجال الفلبين عن نساء المجتمع الأبيض. ومع استمرار ترامب في تلميحاته بخصوص تلك الحقبة المظلمة في تاريخ الفلبين لا يُستبعد أن تُبعث تلك القوانين إلى الحياة مرةً أخرى.