أكثر من مهسا أميني: هل تتلاشى شرعية النظام الإيراني؟
أشعل مقتل الشابة الإيرانية مهسا أميني منذ وفاتها في 16 سبتمبر/أيلول الماضي، غضب الشارع الإيراني، بعدما اتهم المحتجون شرطة الآداب التي ألقت القبض عليها، بتهمة الإخلال بقواعد اللباس الشرعي الذي تفرضه السلطة الحاكمة على النساء في إيران منذ نجاح الثورة الإيرانية عام 1979.
توفيت أميني بعدما دخلت في غيبوبة منذ إلقاء الشرطة القبض عليها، وخلال ثلاثة أيام فارقت الحياة، إلّا أنّ الجهات الرسمية ذكرت سبب الوفاة بالسكتة القلبية المفاجئة لفتاة لم تتجاوز الثانية والعشرين ربيعًا. ربما يكون هذا ما أدى إلى احتدام الغضب ونزول الناس إلى الشوارع في مشهد معتاد في إيران، لكنه أسقط أكثر من 30 قتيلًا، وإصابة عشرات آخرين في الاشتباكات، فضلًا عن مئات المعتقلين بحسب ما ذكرت وكالة رويترز.
أكثر من مقتل أميني
تنتمي الشابة التي كانت في طريقها إلى زيارة أقاربها، إلى منطقة كردستان الإيرانية، التي تركزت فيها الاحتجاجات بشكل كبير، التي تواجه مشكلات تتجاوز مشكلات القمع والتضخم إلى التهميش الاقتصادي المتعمّد من قبل الدولة فضلًا عن مشكلات ندرة المياه.
خلال الصيف الماضي خرجت تظاهرات ضخمة، قادها مزارعون من الأحواز وكرمنشاه وسيستان وبلوشتان وأصفهان وأردبيل، وهي مناطق كردية يعمل أغلب سكانها في الزراعة، احتجاجًا على الجفاف الذي أصاب مزارعهم إثر ندرة المياه في المنطقة، وهناك 5000 قرية دون موارد مائية، و7000 قرية يتم إمدادها بالمياه بواسطة الصهاريج، وفي محافظة كرمانشاه، يتعرض أكثر من 400 ألف شخص من سكان الحضر والريف بالمقاطعة، لضغوط المياه منذ العام الماضي، بعد قرار الدولة بمنع زراعة المحاصيل التي تستهلك كميّة كبيرة من المياه مثل الأرز.
خرج الاحتقان الكردي من الحيز الإيراني، ليشتعل في إربيل التي تتمتع بحكم شبه ذاتي في العراق، وسكانها أكراد عراقيون، وأكراد إيرانيون هاربون من جحيم النظام الإيراني، حيث اجتمع مئات المتظاهرون أمام مقر الأمم المتحدة في إربيل، يرفعون صور المرشد الأعلى آية الله علي خامنئي مصحوبة بعبارة «الموت للديكتاتور».
مقتل أميني هو اللغم الذي انفجر في وجه النظام الإيراني، لا ينفك عام يمر دون احتجاجات كبرى تشتعل من قبل العمال والمزراعين الأكراد، لا سيمّا في منطقة الأحواز، التي شهدت ثلاث انتفاضات كبرى عام 2018، بداية من انتفاضة الأرض، ثم انتفاضة الكرامة، وليس انتهاءً بانتفاضة العطش، غير أنّ ملف المياه أحد أخطر الملفات التي تواجه الرئيس الجديد إبراهيم رئيسي، المستمر في تعنته أمام الغضب العارم للمتظاهرين، واختار الضرب بيدٍ من حديد على الغضب الشعبي، حيث وجّه أوامر مباشرة لجهات إنفاذ القانون بالتعامل الحاسم مع التظاهرات، مخلفًا بأوامره عشرات القتلى، ما يزيج من الاحتقان الشعبي ضد نظامه وما يمثله، ويتجلى تعصب رئيسي وعدم اتخاذه أي إجراء لتهدئة الوضع، حين اشترط على مذيعة شبكة «سي إن إن» الإخبارية أن ترتدي غطاء الرأس أثناء حوارها معه على خلفيّة التظاهرات التي تشهدها بلاده، ما دفع المذيعة إلى إلغاء المقابلة.
غلاء وقمع وبطالة
يغامر الشعب الإيراني بكل شىء، بعد تردي الأوضاع الاقتصادية، فضلًا عن القمع المعهود للجمهورية الإسلامية، التي لا تجد حرجًا في أستخدام أقصى درجات القوّة للحفاظ على سلطتها، لذلك تحشد أنصارها لمواجهة التظاهرات، حيث خرجت تظاهرات يوم الجمعة الماضي، تأييدًا للنظام الحاكم، مطالبة بالضرب بيدٍ من حديد على أيدي المحتجين الذين اتهموا من قبل التيار المحافظ بالخيانة والعمالة وإشعال الفتن وتخريب البلاد.
طالب المؤيدون للنظام باعتقال من سموهم المخربين ومحاكمتهم، فيما تتباهى وسائل الإعلام المؤيدة للنظام بتلك التظاهرات معتبرين إياها الرّد الأمثل على المجتمع الدولي الذي يطالب النظام الإيراني بوقف أعمال العنف من قبل قوات الباسيج والحرس الثوري الإيراني، فيما سارعت واشنطن بفرض عقوبات على شرطة الأخلاق المتهمة بمقتل أميني.
رغم الحجب شبه التام للإنترنت في إيران وتعطل الخدمات، يجاهد الإيرانيون في إيصال صوتهم المحتج للعالم الخارجي، رافعين شعارات «حرية .. حياة .. كرامة»، وتخاطر النساء بأنفسهنّ في النزول إلى الشوارع وخلع غطاء رؤسهنّ احتجاجًا على ما حدث لأميني، فيما تتعالى أصواتهن مطالبين بالإلغاء الفوري لغطاء الرأس المفروض عليهن من قبل نظام الملالي.
خلف تلك المخاطرة يكمن العامل الاقتصادي كمحرك أساسي للشارع الإيراني، بعد تدهور الأوضاع المعيشية الذي تشهده البلاد في السنوات الأخيرّة والمتفاقم منذ أزمة فيروس كورونا 2020، بخاصّة أنّ إيران كانت أحد أكثر البلدان تضررًا بالأزمة بفعل الحظر المفروض عليها من قِبل واشنطن. ورغم التعافي التدريحي للاقتصاد بعد الأزمة، والمدفوع بقطاع النفط بشكل أساسي، فإنّ ملّف المياه وما ترتّب عليه من انكماش القطاع الزراعي، وأثر على قطاع الصناعة، يضع النظام الاقتصادي أمام تحديّات كبرى، وحتّى الآن لم تعوّض سوى ثلث الخسائر في الوظائف المفقودة خلال فترة الوباء، بحسب تقارير البنك الدولي.
تتضاعف الضغوط التضخميّة على الحكومة، بسبب عجز الميزانية الذي خلّفته تراجع عائدات النفط في شهور الوباء، مما يدفع الدولة إلى تمويل ذلك العجز، لينعكس على التضخم السلعي، ويزيد من شعور المواطن بالضغط الاقتصادي، ما يتُرجم على أرض الواقع الاحتجاجات الواسعة التي يشهدها الشارع، حيث لا يمكن فضلها عن الوضع الاقتصادي الراهن للغالبية العظمى في البلاد.
يذكر تقرير البنك الدولي الصادر في أبريل 2022، نمو الإيرادات الضريبية في إيران بنسبة 60% في النصف الأول من العام، وهو ما يبرر معدلات التضخم المرتفعة، في نفس الوقت نمت النفقات بنسبة 58%، ما أدى لارتفاع عجز الميزانيّة إلى 6.8% من الناتج المحلي الإجمالي، في النصف الأول من العام المالي 2021/2022، حيث تمّ تمويل هذه الفجوة من خلال إصدار السندات بنسبة تجاوزت 82%، حيث لم تستطع الحكومة تحقيق بيعها المخطط للأصول العامة، فيما واصل التضخم في اتجاهه التصاعدي، مدفوعًا بانخفاض في قيمة العملة والتوسع النقدي الذي يزيد بدوره من نسب التضخم.
هل النظام في خطر؟
خلال عام 2018، اندلعت احتجاجات عنيفة مناطق إيرانية مختلفة، منددة بالقرارات المالية والاقتصادية بعد الانهيار الكبير الذي شهدته العملة المحلية وغلاء المعيشة، شملت الاحتجاجات أكثر من 80 مدينة كبرى، رافعين شعارات الموت للديكتاتور، وهي شعارات ما زالت مستمرّة، عكست التظاهرات بشكل واضح الأزمة الاقتصادية والاجتماعية التي يواجهها النظام الإيراني في ظل العقوبات المفروضة والمستمرّة من واشنطن، إلّا أنّ أزمة كورونا عمّقت من الأزمة، وضاعفت الاحتجاج الشعبي المنفجر لمقتل شابة، غير أنّه مدفوعًا بأسباب اقتصادية واجتماعية بحتة، تعكسها شعارات المتظاهرين.
خلال السنوات الماضية، استطاع النظام الإيراني بقبضته الحديدية احتواء الغضب الشعبي، عبر آلة القمع واستخدام القوّة المفرطة، لم تفلح طرق القوّة المعتادة في تخويف الناس ومنعهم من الخروج مرّة أخرى لأسباب مختلفة، المشترك الوحيد فيها هو احتجاج الأغلبية على النظام الحاكم وسياساته الغاشمة، والفشل المستمر من الإدارة السياسية لاحتواء الغضب الشعبي.
ليس الفشل السياسي وحده ما يمكن استنباطه من الاحتجاجات المستمرة منذ سنوات في إيران، ولو على أوقات متفرقة، بل الشرعية السياسية للنظام الحاكم باسم ثورة اندلعت منذ أكثر من 40 عامًا يحكم بإسم الإسلام هي الموضوعة الآن على المحك، بتعاقب الأجيال تفقد الثورة الإيرانية شرعيتها بين أجيال أكثر حداثة، لم يعد يجدي معها ذات الخطاب الديني والسياسي المستخدم مع أجيال أكبر سنًا، ما يعكسه مشهد حرق الجموع من النساء لحجابهنّ، خلال التظاهرات الأخيرة، في مشهد جديد علي الجمهورية الإسلاميّة منذ فرض الحجاب عام 1979.
رغم تمكن النظام الحاكم من إخماد شعلة التظاهرات الواقعة في السنوات الماضية، فإنّ حجم الانتفاضة الحالية يمكن وضعه إلى جانب الانتفاضة الخضراء عام 2009، كثاني أكبر الاحتجاجات التي شهدتها البلاد في العقدين الماضيين، إلّا أنّ الحضور النسائي هذه المرّة يضفي بعدًا أكثر عمقًا للاحتجاجات، يُشعر النظام الحاكم بتهديد هذه المرة، تواجهه بالمزيد من القمع المعلن عبر القرارات المعلنة من قبل السلطات. في نفس الوقت توفّر آلة القمع الحديدية الضاربة بجذورها في عموم إيران عبر قوات الحرس الثوري الإيراني، إلى جانب قوات الباسيج، نوعًا من الحفاظ على استقرار النظام الثيوقراطي الحاكم، رغم الغضب الشعبي وحالة عدم الرضا العام في الشارع.
شرعية الثورة في خطر
خلال سنوات حكمها، استطاعت الثورة الإيرانية الحاكمة منذ أربعة عقود، فرض تغيير جذري على الناس، وأرست بحكمها نظامًا شموليًا إسلاميًا، مثّل انتصارًا وإلهامًا لجماعات الإسلام السياسي الطامحة في السلطة، بأن الحُلم يمكن أن يتحقق، واستطاعت توسيع قاعدتها الجماهيرية عبر سكان الريف والمناطق الفقيرة، وفي غضون سنوات قليلة تمكنّت من النهوض بالفقراء، وتحقيق إنجازات اقتصادية على مستوى البنية التحتيّة والتعليم والرعاية الصحيّة، أدى التوسع في الصحة والتعليم إلى انخفاض واضح في الفقر حيث انخفض معدل الفقر في السبعينيات بنسبة 25 % إلى أقل من 10% في عام 2014، وهو ما يمكن أن يفسّر قدرة النظام على الاستمرار رغم القمع الشديد الذي لم يختلف عمّا شهدوه في ظل نظام الشاه.
في حين تشير الإحصاءات إلى أن الفقر المطلق قد انخفض بشكل حاد، فإن غالبية الإيرانيين لا يزالون يعانون من هشاشة اجتماعية واقتصادية. تشير مصادر رسمية إلى أنّ 12 مليونًا يعيشون تحت خط الفقر المطلق ومن 25 إلى 30 مليونًا تحت خط الفقر، إضافة إلى أن ما بين 50 و70% من العمال، معرضون لخطر الوقوع في براثن الفقر. يعيش 14% من الإيرانيين في الخيام، وفقًا لمركز الإحصاء الإيراني، ويعيش ثلث سكان الحضر في أحياء فقيرة. إن الظروف المعيشية لما يسميه عالم الأنثروبولوجيا شهرام خسروي «النصف الآخر» في إيران ، أو الطبقة العاملة الفقيرة ، مدهشة: زيادة قدرها 17 ضعفًا في عدد الإيرانيين الذين يعيشون في الأحياء الفقيرة ؛ 50% من القوة العاملة لديها عمالة غير منتظمة فقط ؛ ما يقرب ما بين 10 و13 مليون إيراني «مستبعدون تمامًا من التأمين الصحي أو العمل أو البطالة».
تثير النتائج المتعلقة بعدم المساواة أسئلة مهمة حول طبيعة الثورة الإسلامية ومآلاتها اليوم.
هل يمكن القول إنّ هناك تأثيرًا على هيكل السلطة كما كان ينبغي لثورة اجتماعية بهذا الحجم أن تفعل، تعكس مظاهر عدم المساواة في إيران كما تظهره الأرقام، أنّ مزاعم الفساد والتراتبية واستبدال النخب الحاكمة لنظام الشاه بنخب تحكم باسم الدين صحيحة، حيث انحرفت الثورة التي جاءت لإنقاذ الفقراء والمهمشين كما ادعت في البداية، عن مسارها المفترض، ولم تحقق أي سوى المزيد من فرض قيود على الحريات الشخصيّة والفنية والمجال العام برمته.
رغم ما حققته الثورة من إنجازات بعينها في البداية، فشلت وما زالت تفشل في خلق فرص عمل لمئات آلاف من خريحي الجامعات، ما أنتج بدوره مفارقات اجتماعية انعكست بشكل واضح على المشهد الاقتصادي والاجتماعي، وأصبحت الطبقة الوسطى فقيرة، بحسب وصف عالم الاجتماع الإيراني آصف بيات لها. تلك المفارقات إلى جانب الهشاشة الاجتماعية استطاعت فرز قواعد اجتماعية حاضنة لاحتجاجات على نطاق واسع، وهي محرك رئيسي للشارع الإيراني متعدد المطالب، الذي خرج بمئات الآلاف احتجاجًا على مقتل أميني لكنه في نفس الوقت مدفوعًا بمطالبات وأسئلة تتقاطع مع مقتل أميني ضحيّة القمع والفساد.