أكثر من «عصابة»: لماذا تفعل «المافيا» الخير؟
في العام 2018م، كتب شخص مجهول الهوية سؤالاً على موقع Quora: «هل تُوجد مافيا جيدة؟».
بالتأكيد بدا سؤالاً تافهًا في عيون مستخدمي الموقع الشهير، لذا لم يحظَ إلا بِردِّين لاذعين انتقدا وصف المافيا بـ«الجيدة»، مُعتبرين إيَّاها محض عصابات إجرامية لا يُمكنها أن تقوم بالخير أبدًا.
بالتأكيد، لم يكن صاحب هذا السؤال يتخيّل أن مصريًّا ما (مجهول الهوية أيضًا) سيرد اعتباره، ويُعيد مفهوم «المافيا الجيدة» إلى الأذهان عبْر نشر معلومة مفادها أن «مافيا صقلية» لم تقف صامتة أمام وباء كورونا الذي راح يفتك بإيطاليا، فقرّر أعضاؤها التبرّع بـ760 مليون يورو لصالح أعمال الإغاثة.
وبالطبع، أعجبت مثل هذه الأنباء روّاد مواقع التواصل الاجتماعي فتبادلوها بغزارة، مُتندّرين على حال مصر التي لا يتوقّف لصوصها عن النهب مهما كانت الظروف.
بل وتناقلت الخبر عددٌ من المواقع التي تتلقف الشائعات المثيرة.
تعجّب البعض من كمّ الدراما التي تحملها سطور الخبر، فأشهر عصابات الإجرام وأكثرها سفكًا لدماء النّاس تُظهر حرصًا على رعايتهم الصحية، بل وتُشمّر عن ساعديها لمُساعدة الدولة في المهام التي فشلت في إنجازها!
ما دفعنا للتساؤل؟ هل ظهرت «المافيا الجيدة» في زمن الكورونا؟
ما هي المافيا؟
في العام 1992م، اغتالت المافيا القاضي جيوفاني فالكوني الذي كُلِّف من الدولة بـ«تنظيف إيطاليا» من المافيا، بواسطة ألف كيلوجرام من المتفجرات حولت سيارته إلى فحم.
ألقى الرجل قبل وفاته محاضرة في ألمانيا تحدَّث بها عن «بنية المافيا»، أكّد فيها أنه منذ عقود انتشرت هذه العصابات في جميع أنحاء صقلية، ومنها إلى نابولي وروما وميلانو وتوران، كما ظهرت في بلدانٍ أوروبية شهدت موجات هجرة مكثفة انطلاقًا من صقلية، أما الأفرع التي ظهرت في الولايات المتحدة وأمريكا فكانت في الأصل تابعة لـ«مافيا صقلية»، لكنها استقلت عنها بعدها.
وبمرور الوقت، نجحت المافيا (أو «كوزا نوسترا» كما تُعرف في إيطاليا وتعني «شيؤنا – Our thing») في فرض نفسها على الساحة الإجرامية الإيطالية كمنظمة موحدة تظهر كدولة داخل الدولة، وتحكمها قوانين صارمة تُفرض على الأعضاء عن طريق العنف.
ويعتبر فالكوني، أنه من أجل فهم الأسباب التي أوجدت الهيكلية الحالية للمافيا يجب تحليل الثقافات الفرعية التي تجذَّرت في بدن المنظمة وضمنت حيويتها طوال هذه السنوات.
تتضمّن هذه الثقافة الاصطفاء الصارم لكافة أعضائها، فالمجرمون المُجرّبون فقط هُم من تُقبل عضويتهم بعد مُراقبة دقيقة تهدف إلى التأكد من أنه يمتلك أهم ميزتين تجعلان الفرد يصلح للعمل داخل المافيا، وهما انعدام الشفقة والكتمان، والصفة الأخيرة مهمة لضمان عدم إفشاء أي عنصر يسقط في قبضة الشرطة أي معلومات.
كما ألزمت هذه العصابات أعضاءها بـ«قواعد الشرف»، التي تُحرِّم على عنصر المافيا الإساءة إلى نساء قريته، حتى أنهم عندما انخرطوا في أنشطة الدعارة امتنعوا عن الاعتماد على الإيطاليات!
ويضيف، أنه بسبب كثرة الأنشطة غير المشروعة التي تقوم بها هذه العصابات احتاجت إلى الاندماج مع مؤسسات السوق الشرعية لـ«تنظيف أموالها»، ما أفسد مجالاتٍ اقتصادية كاملة.
فيما يوضح البروفيسور رايموند كتنزارو في أطروحته «المافيا»، أنه بالرغم من الجهود التي بذلتها الدولة الإيطالية من أجل مكافحة المافيا إلا أنها فشلت في ذلك تمامًا، إلى حدِّ اعتبار البعض للمافيا «مؤسسة قومية ودولية»، موضحًا أن المافيا نجحت في مقاومة كل هذا عن طريق التوفيق الفريد بين عناصر الماضي والحاضر، والجمع بين مختلف أشكال العنف والانتشار الفعّال في النواحي الاقتصادية، لهذا فهي أثبتت قٌدرة كبيرة على التكيّف مع أي تحوّلات اجتماعية.
ويرى أن النجاح الكبير للمافيا في المناطق المهمشة كأطراف البلاد، أتى كردِّ فِعلٍ على الإهمال السياسي والاجتماعي الذي مارسته الدولة بحقِّ هذه الأماكن.
وظهرت المافيا بدءًا من القرن التاسع عشر في جزيرة صقلية الإيطالية، بدأت بتحالف بين بعض العصابات الإجرامية للقيام ببعض عمليات الابتزاز والبلطجة وتطوّرت أعمالها حتى صارت قوة كبيرة تتخذ لنفسها تنظيمًا هرميًا مُحكمًا تُسيطر على الشارع وتقيم العلاقات مع الأجهزة المحلية والحزب الحاكم للدولة.
ويعتبر الباحث بجامعة كاليفورنيا ديفيد أنتوني في أطروحته «تاريخ المافيا الإيطالية»، أن البذرة الأولى لنشأة المافيا هو طريقة الحُكم الإقطاعية التي سادت صقلية، ولم تقم على مفهوم «العدالة المشتركة» ما ولّد السخط في نفوس الناس، وبالذت الفقراء منهم.
وكان المُبرر الأوّلي لنشأة المافيا هو «مساعدة الفلاحين» مقابل بعض الإتاوات، لكن هذه النوايا الطيبة لم تدم طويلاً، إذ سرعان ما بدأت هذه العصابات في السعي لاحتكار الثورة ونيل الامتيازات، وبمرور الوقت راحت تتطوّر وتتعقّد هيكلتها وتتولّى مهام الدولة كجمع الضرائب وفرض الأمان وتصفية النزاعات بين النّاس.
وكمكوِّن داخلي للتنظيم قامت المافيا على نظام اجتماعي صارم يستند إلى «مبادئ أخلاقية عالية» يجب أن يتحلّى بها عضو التنظيم، فعضو «كوزا نوسترا» يجب أن يتحلّى بمفهومٍ خاص جدًا من الشرف، وهو لا يرتبط بالمعنى العام لهذه الفضيلة.
ولكنه ينحدر مباشرة من معاني «الولاء المطلق» للتنظيم وللقائد، فالعلاقة بين أفراد العصابة وبعضهم أقوى من علاقات الدم، ومُجرد قبول المرء الانضمام إليها فهذا يعني أنه يضع مصلحتها فوق مصلحة عائلته، وأحيانًا كان يُشترط قبل إتمامها بعض اختبارات الولاء كقتل أحد الأفراد أو تسريب معلومات مهمة.
وفي العصر الفاشي تعرَّضت لموجة هجمات ضارية بهدف القضاء عليها، لكنه لم يستطع بسبب تجذرها في النسيج الاجتماعي والاقتصادي للدولة، ونتيجة لهذه الملاحقات هرب عدد من عناصرها إلى أمريكا حيث أقاموا علاقات وطيدة من رؤوس الجريمة المنظمة بها كانت حجر الأساس لشبكة التجارة الدولة بالمخدرات.
وبعد الحرب العالمية الثانية وسقوط موسوليني، ازدهرت المافيا من جديد بسبب تبنّي الدولة «النموذج الأمريكي» في إعادة البناء على نحوٍ رأسمالي ركّز كافة الاستثمارات في العاصمة وأهمل جنوب الدولة أكثر فأكثر، وهو الفراغ الذي ملأته المافيا سريعًا عبْر إقامة علاقات وثيقة مع مسؤولي الدولة والأجهزة المحلية ورجال الأعمال الذين اعتمدوا عليها لحمايتهم، ومن حينها فرضت المافيا نفسها رقمًا صعبًا داخل المجتمع الإيطالي.
كل هؤلاء يُطاردون أسطورة روبن هود
بالرغم من أن معلومات هذا الخبر غير صحيحة، ولم يظهر إلا كشائعة على صفحات مواقع التواصل الاجتماعي، إلا أن هذا لا ينفي أبدًا أن للمافيا جوانب «جيدة» لم تظهر فقط في زمن الكورونا ولكن في أزمنة أكثر قدمًا، قادت فيها عصابات الإجرام جهود التعليم والإطعام بل والرعاية الصحية في عددٍ من دول العالم.
إن كنتَ من مُحبِّي السينما، فبالتأكيد مرَّ عليك عملٌ واحد، على الأقل، يتناول الجريمة المُنظمة وعصابات المافيا، فالأفلام التي ناقشت حياة أبناء صقلية تجاوز عددها المئة في السينما الأمريكية وحدها.
تعرّضت هذه الأفلام للقسوة والقتل بدمٍ بارد والتنافس الضاري على بيع المخدرات والتجارة بالنساء والبشر، وعروض مارلون براندو التي لا يُمكن رفضها في فيلم «العرّاب».
ناقشت الأفلام كُل ما يُمكنك أن تتخيَّل وجوده في عوالم «المافيا» إلا أمرًا واحدًا؛ الجانب الأبيض منها وأفاعيل أفرادها الخيرية، ولتوضيح ذلك علينا أن نعود للكورونا مُجددًا، وهذه المرة بحادثة حقيقية.
انتشر الوباء في مدينة ريو البرازيلية، فتصاعد عدد الوفيات إلى 46 حالةً، وأوشكت الأزمة على الاحتدام، وعندما طالب الجميع الحكومة البرازيلية بإعلان حظرٍ للتجوّل في المدينة، لم تفعل وتقاعست عن اتّخاذ القرار، لكن غيرها لم تفعل.
قرّرت عصابات المدينة ألا تنتظر كثيرًا قرارًا حكوميًا يبدو أنه لن يجيء إلا بعد فوات الأوان ففرضت بنفسها الحظر، وانتشر أفرادها في الشوارع يمنعون الناس من الخروج من منازلهم؛ خوفًا على حياتهم من الإصابة بالمرض!
وتم تداول فيديو لأحد أفراد العصابة وهو يتجوّل في أحد أحياء المدينة، يقول في ميكروفون: «نحن نفعل ذلك لأن لا أحد يأخذ الأزمة على محمل الجد».
ولا يُمكن اعتبار «النموذج البرازيلي» فريدًا، فهي ليس أول مرة تُظهر فيها عصابات الجريمة المنظمة أياديها البيضاء لمُساعدة النّاس على قضاء حوائجها.
في اليابان، تعرّضت مدينة «كوبي» لزلزالٍ عنيف أدَّى لتشرِّد الآلاف بالشوارع، فوزّع أعضاء عصابات «الياكوزا» عليهم 8 آلاف وجبة يوميًّا، وهي الفِعلة التي كرّروها مُجددًا عام 2011م عندما تعرضت مدينة توهوكو لتسونامي نتج عنه 27 ألف قتيل وفقدان عشرات الآلاف لبيوتهم، أغاثتهم «الياكوزا» بـ25 شاحنة مملوءة بـ50 طنًّا من مواد الإغاثة.
وخلال فترة الكساد الكبير التي مرَّت بها أمريكا بدايةً من عام 1929م واستمرتٍ لسنوات عِجاف، دشَّنت عصابة آل كابوني «مطبخ حساء»، اعتمد عليه عدد كبير من أهل ولاية شيكاغو في الحصول على طعامهم، بلغوا 5 آلاف فردٍ في عيد الشُكر.
فيما يأتي التبرُّع التاريخي لتاجر المخدرات الكولومبي الشهير بابلو إسكوبار كواحدٍ من ألغاز الدنيا، فالرجل صاحب السجل الإجرامي الأسود والذي تورّط في قتل آلاف النّاس، تحمّل نفقات بناء حيٍّ بالكامل في مسقط رأسه بمدينة ميدلين، أقام له شبكة صرف صحي، وعدد من المدارس والمستشفيات وملاعب كرة القدم، ولا يزال يحمل اسمه حتى اليوم.
رؤوس الأحصنة المبتورة
في واحدٍ من أشهر مشاهد فيلم «العرّاب»، يستيقظ المُنتج جاك ولتز ذات صباح، ليُفاجأ برأس حصانه المُفضَّل مبتورٍ إلى جانبه في الفراش، لا يتوقَّف الرجل عن الصراخ حتى ينقطع المشهد، ونعلم بعدها أنه انصاع لرغبات مارلون براندو زعيم المافيا، بعدما أيقن أنه أمام رجلٍ لا يمزح إذا رُفِضَ له طلبًا.
عندما سألنا دكتور فيديركو فاريو، أستاذ علم الاجتماع في جامعة أكسفورد، عن سبب إقدام مجرمين على القيام بأعمال خيرية، قال لـ «إضاءات»، إن الأعمال الخيرية للعصابات ليست صدقة، فعصابات المافيا تحكم الأقاليم وتحرص على حمايتها لأنه إذا مات الناس، لن يكون هناك المزيد من الأشخاص لابتزازهم.
ويضيف: لا أُبجِّل عمل الخير الذي تقوم به العصابات، لكنّي لا أستغربه، وأعتبره أمرًا منطقيًا.
فيما أكَّدت ساندرا روبينسون باحثة الجريمة المنظمة في جامعة British Columbia، في تبريرها لمثل هذه التصرفات أننا جميعًا «لسنا صالحين دائمًا أو سيئين على الدوام»، وكما أن بعض الأشخاص الجيدين يُمكنهم الانخراط في سلوكٍ غير أخلاقي، فبالمثل، يُمكن للأشخاص السيئين جدًا أن يفعلوا الخير.
وأضافت لـ «إضاءات»، أن هناك أسبابًا أخرى يُمكنها أن تُساعدنا على فهم مثل هذه الأفعال، أولها ما أثبتته العديد من الأبحاث، بأن الأشخاص الذين يقومون بسلوكيات سيئة يُحاولون تعويض ذلك بتصرفات طيبة تُساعد في إقناعهم أنهم أشخاص جيدون، مهما فعلوا من أفعالٍ مروّعة.
وتتابع: أنه يُمكن أن يكون للعصابات غرضًا آخر من القيام بأعمالٍ خيرية مثل هذه، وهو محاولة كسْب العامة لصفوفها، والنظر إليها بصورة إيجابية وليس كمجرمين كما يتم تصويرهم في وسائل الإعلام، وهو ما يُمكننا أن نعتبره أحد أنواع «العلاقات العامة».
أما فيسنا ماركوفيسك، أستاذة الجريمة والأمن القومي في جامعة New Haven الأمريكية، فأكدت أنها تُدرك أن الكثير من الجماعات الإجرامية تستغل عدم قيام الحكومات بتقديم الدعم المطلوب للناس، فتُساعد الأفراد المحيطين بها، وهي بهذا تكسب ولاء «حاضنة شعبية» قوية تعتبر نفسها جزءًا منها.
وبالتالي إذا حاولت الشرطة -على سبيل المثال- أن تبحث عن معلومات حولها، فإنها في الأغلب لن تعثر على أي شيء، لأن الجميع موالون للعصابات وليس للدولة.
وأضافت لـ «إضاءات»، أن تلك العصابات الإجرامية تحب أن يُنظر إليها على أنها «روبن هود»، تسرق من الأغنياء وتعطي الفقراء، وذلك يبني إحساس «الأنا» لدى أعضائها ويجعل منهم «أساطير»، وليسوا مُجرد لصوص عاديين.
بينما قال الدكتور الإيطالي لورينوز بيتشي، الباحث في «تاريخ المافيا» والذي حاضَر بشأنها في عددٍ من جامعات العالم كأكسفورد البريطانية وNew Haven الأمريكية، إن المافيا دائمة بارعة في استغلال الأزمات الاقتصادية لتخرج منها بأكبر الفوائد الممكنة، وهو ما فعلوه من قبل خلال الأزمة المالية التي ضربت إيطاليا عام 2008م.
ويكشف بيتشي لـ «إضاءات»، أن هذه العصابات استثمرت مبالغ كبيرة على قطاعات الاقتصاد الأساسية، كالرعاية الصحية، والغذاء، ومنظومة التخلص من النفايات وغيرها.
ويضيف: في أوقاتٍ مثل هذه، من المُتوقّع أن تُنفق المافيا الكثير من الأموال؛ لدعم رجال الأعمال المُتعثرين بقروضٍ مُنخفضة التكلفة، وتوزيع الأموال والأطعمة على الفقراء، في مقابل دعمهم لمُرشِّح المافيا في الانتخابات أو السيطرة على المُؤسَّسات التجارية والخدمية التي يعجز أصحابها عن الوفاء بما عليهم من قروض، ما يُحقّق المزيد من السيطرة للمافيا على المدينة وفرصًا أكبر للاستثمار ولغسل الأموال.
من هذا المنطلق، يُمكننا اعتبار أن كافة هذه الأفعال «رؤوسٍ مبتورة» تُجبر بها عصابات المافيا النّاس على الانصياع لرغبتها يومًا ما، بخلاف أن هذه الرؤوس لا تجعل الناس يصرخون، وإنما تداوي أمراضهم وتُشبع بطونهم، لكن النتيجة واحدة في النهاية.
وإمعانًا مِنِّي في الخيال، فربما لو أن مارلين براندو عاش أيامنا هذه، لنصحته بألاَّ يذبح حصان «جاك»، وإنما يهديه حصانًا إضافيًّا، فالخير يُحقّق للمُجرمين، أحيانًا، ما لا يُحققه الشر وأكثر.