في بلدٍ تأكله الانقسامات، ويعيش حالة تشبه الحرب الأهلية، قرر المجلس الرئاسي الليبي تشكيل جهاز لحماية الآداب العامة. سيكون دور الجهاز، وفق الإعلان الرسمي، حماية الآداب العامة والمحافظة على هوية الشعب الليبي وثقافته، ومراقبة تفشي ظواهر انحراف السلوك وضبط المخالفات والتجاوزات، إلى جانب متابعة الأنشطة الثقافية والمخيمات والرحلات الصيفية التي تنظمها الجهات الرسمية وغير الرسمية بالبلاد.

لكن المصطلحات الفضفاضة يمكن أن تصبح أكثر تحديدًا إذا أضفنا لها تصريح وزير الداخلية بحكومة الوحدة الوطنية عماد الطرابلسي. قال الطرابلسي أن هذا الجهاز سيفرض على المرأة لباس الحجاب وسيمنع صيحات الشعر وملابس الشباب المستوردة التي لا تتناسب مع ثقافة وهوية الليبيين، كما سيحظر الاختلاط في الأماكن العامة ويفرض قيودًا على سفر النساء.

بهذه التصريحات يكون الاستنتاج مشروعًا بأن الجهاز لن يقوم بدور شرطة الآداب المعروف تاريخيًا يمكافحة أمور محددة مثل شبكات الدعارة، بل أن الجهاز ستمتد يده إلى كل ربوع البلاد ليتدخل في كل التفاصيل الحياتية، ليكون بذلك أقرب لـ«شرطة الأخلاق».

شرطة الأخلاق تقتل أحيانًا

يعيد الجدل الذي أثارته تلك التصريحات إلى الواجهة مفهوم شرطة الأخلاق وبوليس الآداب. فما تقوم به الحكومة الليبية ليس جديدًا على العالم، فالعديد من دول العالم تحاول بصورة ما أن تضبط قواعد السلوك العام، لكن الاختلاف هو في الدرجة التي تريد تلك الدولة أن تضبط السلوك عندها، ومدى طول يد القانون في التدخل في الشئون الخاصة للأفراد إذا التزموا بمراعاة الكود السلوكي الذي تحدده الدولة في الأماكن العامة.

عامةً تعمل شرطة الأخلاق على فرض قواعد معينة تحددها الدولة، غالبًا ما تكون منطلقةً من قواعد الشريعة الإسلامية أو العرف المجتمعي. هذا التعريف يكشف لنا أن دولًا مثل إيران والمملكة العربية السعودية عاشت فترة في ظل هذا النوع من الشرطة. ورغم أن شرطة الأخلاق تم إلغاؤها رسميًا في القرن التاسع عشر إلا أن الثورة الإسلامية الإيرانية قامت بإحياءها مرة أخرى عام 1979، ثم لاحقًا أصبحت باسم «دورية الإرشاد»، وصارت قوة مستقلة بذاتها عام 2005.

واستمر عملها قرابة عقدين حتى ثارت ضدها الاحتجاجات بسبب وفاة الشابة مهسا أميني بعد توقيفها من قبل هذه الشرطة في سبتمبر/ أيلول عام  2022لعدم تغطيتها شعرها. وتحدثت تقارير عن تعرضها للضرب بعصا مما أدى لإصابتها بنوبة قلبية ووفاتها. ما دفع المدعي العام الإيراني، محمد جعفر منتظري، حين سُئل عن دورية الإرشاد أن يُجيب أنه تم تعليق عمل شرطة الأخلاق.

وتكرر نفس السيناريو في المملكة العربية السعودية، فقد تأسست هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عام 1940، وتقلص دورها بشدة منذ عام 2016، ولم يعد لها تأثير كبير حاليًا.

كيف ظهر بوليس الآداب

أما في مصر فقد كان هذا النوع من الشرطة قائمًا لكن بمنظومة عمل مختلفة. فقد ارتبط ظهور هذه الشرطة بالتعامل مع قضايا البغاء تحديدًا. كان البغاء يتم خفيةً كعادة تلك الممارسات، لكن مع قدوم الحملة الفرنسية عام 1798 ظهر الأمر علانيةً، وصار رسميًا.

 وصارت هناك أماكن محددة لممارسة هذا النشاط، وجرى تسجيل كل المشتغلات فيه في سجلات رسمية، وأمام اسم كل سيدة كان يكتب سنها وسكنها ورقم رخصتها وتاريخ الكشف الطبي عليها وغيرها من المعلومات التي هدفت إلى حماية الضباط الإنجليز من الأمراض الجنسية بشكل أساسي، أو من استدراجهم عبر النساء وقتلهم.

حين وصل محمد علي إلى مقاليد الحكم أبقى ضريبة البغاء فترةً من الوقت ثم ألغاها عام 1837. ثم بعد ذلك ظهرت لائحة تفرض على البغايا أن يُسجلن أسماءهن لدى الشرطة، وإلا تعرض للعقوبة. لكن بعد قرابة 100 عام بدأت المحاولات لإلغاء ذلك النشاط، فأُنشئ مكتب حماية الآداب بمحافظة القاهرة.

ثم انتقل المكتب ليصبح داخل وزارة الداخلية، بالتالي صار نشاطه ممتدًا إلى كل محافظات مصر. وبدءً من عام 1949 بدأ التفتيش وإغلاق كل دور البغاء. ازداد دور الإدارة المكلفة بحماية الآداب حتى صارت عام 1994 إدارة عامة يرأسها مدير عام بدرجة مساعد وزير، وتوسع عملها من البغاء إلى أمور أخرى مثل الميول الجنسية المثلية، والملابس غير اللائقة في مكان عام، والممارسات غير اللائقة كالتقبيل مثلا في مكان عام.

المواطنون دائمًا ضد الشرطة

تحاول الحكومات أن تضبط المناخ بما يتماشى مع العرف السائد في البلاد، لكن أحيانًا يكون العرف الذي تراه الدول سائدًا، أو يجب أن يلتزم به الناس، يكون مفروضًا فيحاول الناس الالتفاف عليه، والتكتل ضد شرطة الأخلاق. مثلما نرى في النموذج الإيراني تحديدًا.

ففي عام 2016 نشرت شرطة الأخلاق الإيرانية قرابة 7000 عميل سري في مختلف أنحاء البلاد لتصوّر المخالفين، وترسل الصور والفيديوهات إلى الشرطة لتقرر إذا كانت ستعاقبهم أم لا. لكن بمجرد بدء العملاء السريين في أعمالهم اندلعت مواجهات مستمرة بينهم وبين النساء في الأماكن العامة، حتى لو كنّ نساء ملتزمات بالزي الذي حددته الدولة.

ففي حادثة شهيرة نقلتها الصحفية الإيرانية مسيح علي نجاد عبر مقطع فيديو مصور نرى فيه أن عميلة سرية صورت امرأة إيرانية، بهدف إرسال الفيديو للحرس الثوري من أجل اعتقالها، لأنها لم تكن ترتدي الحجاب.  لكن النساء داخل الحافلة حيث وقعت الحادثة اتحدن، وطردن العميلة السرية.

كما انتقل الاتحاد إلى مرحلة أكثر تقدمًا، ففي نفس عام ظهور العملاء السريين طور فريق تطبيقاً للهواتف المحمولة يتيح لمستخدميه التبليغ عن أماكن تواجد عملاء الشرطة السرية، وتحذير النساء بشكل مسبق لتفادي مصادفة الشرطة أو عملائها.

لا تعدو إيران في تلك النقطة عن كونها مثالًا لما يحدث دائمًا في حال فُرض أي شيء رسميًا على أي مجموعة بشرية، فإن تلك المجموعة تسعى للاحتيال على الأمر، والالتفاف ضد. ومع وقوع أذى مباشر وقاس على بعض أفراد تلك المجموعة، فإن باقي الأفراد، حتى لو كانوا متفقين مع الدولة وضد المخالفين، إلا أنهم يساعدون القريبين منهم على التحايل خوفًا من أن يطالهم العقاب القاسي.

إعادة اختراع العجلة

كذلك فإن الحقيقة التي تتواجد باستمرار في نهاية كل مسار تحاول فيه السلطات فرض رقابة أخلاقية على المجتمع، فإنها تشجع أفرادًا آخرين على ممارسة تلك السلطة لكن بشكل عرفي دون الالتزام بالإطار المهني التي يخضع له ضباط وموظفي هذه الاجهزة الرسميين.

هؤلاء الأفراد قد يكونوا رجال دين أو أفراد عاديين. لأن ما تقوم بالسلطات ينتقل تلقائيًا إلى بعض مواطنيها. فمثلًا العديد من شرطة الأخلاق في إيران كانوا من المتطوعين، لا يحصلون على أجور مقابل أوقاتهم ومجهودهم، سوى بعض الامتيازات البسيطة، لكن الامتياز الأكبر كان شعورهم الذاتي بالسمو الأخلاقي، وإحساسهم أنهم يمارسون دورًا مركزيًا تقدّره الدولة ككل.

لذا ففي العديد من الدول يمكن أن تجد فردًا يقوم بدور شرطة الأخلاق دون أن يكون عضوًا فيها، وأحيانًا بصورة أكثر تشددًا مما تقوم به السلطات نفسه. كحالة حارسي العقارات في المناطق المختلفة، إذ غالبًا ما يكون حارس العقار من طبقة اجتماعية وتعليمية مختلفة، لا يعجبه القواعد الأخلاقية التي يتعامل بها سكان العمارة التي يحرسها، ويمنح لنفسه تلقائيًا أنه يجب أن يحرس العمارة مما يصفه بالانحلال الأخلاقي.

فيتدخل بموجب هذا التفويض الذاتي في حياة السكان، وربما يفرض رقابة على الزائرين ويدخل في مشاحنات معهم. رغم أن الدولة، بصفتها المُحتكرة الحديثة للقوة ولضبط المجتمع، لا تبالي بما يقوم به الأفراد في نطاقهم الخاص، ومشكلتها الأساسية تكون في الإعلان أو ممارسة الأفعال في المناطق العامة، لكن دون ذلك يظل لكل الفرد الحق في فعل ما يشاء داخل منطقته الخاصة.

المفاجأة، المتوقعة دائمًا، أنه بعد السنوات الطويلة من محاولة إجبار المواطنين على شيئ ما، فإنه غالبًا ما يفشل هذا الإجبار. مثلما  توصلت الحكومة الإيرانية في نهاية المطاف إلى حقيقة واضحة أعلنها مركز الأبحاث في البرلمان الإيراني عام 2015 وهى أن خطة دوريات الإرشاد قد فشلت بسبب تجاهل رغبات الناس ومطالبهم ووصف المركز نتائجها بأنها سلبية. وبعد عامين أعلن العميد حسين رحيمي، رئيس شرطة طهران الكبرى، أن قوة إنفاذ القانون لن تقوم بنقل المخالفين إلى مراكز الاعتقال، ولن ترفع أيّ قضية قانونية ضدهم، كما أنها لن تُرسلهم للمحكمة، وبدلاً من ذلك ستقدم فصولًا تعليمية للمخالفين لإصلاح سلوكهم.

لذا ربما يجب على بعض الدول ألا تعيد اختراع العجلة، أو تقوم بشرب مياه البحر بأكملها للتأكد من ملوحة مياهه، ويكفيها التعلم من تجارب الدول الأخرى، كي تبدأ من حيث انتهت، وتركز أكثر على التعليم والإصلاح التوعوي، بدلًا من القسوة العقابية.