ما الذي فعلناه؟ الضرر الأخلاقي لأطول حروبنا
يتناول المقال كتاب: «ما الذي فعلناه؟ الضرر الأخلاقي لأطول حروبنا». لمؤلفه الكاتب الصحفي والمراسل العسكري المخضرم «ديفيد وود» الحائز على جائزة بوليتزر الأمريكية. الناشر: ليتل براون وشركاه – ماساشوستس – الولايات المتحدة الأميركية. تاريخ النشر: 1 نوفمبر 2016. عدد الصفحات: 304 صفحات.
في الحروب ترتكب الفظائع وتنتهك الحرمات وتقع الجرائم ويتغير البشر، فلا يعرفهم حتى من هم أقرب الناس إليهم. بصمة الحرب تلطخ كل من شارك فيها. والولايات المتحدة الأمريكية منذ خرجت من الحرب العالمية الثانية كأعظم قوة عسكرية في التاريخ؛ انخرطت في حروب عدة وارتحلت قواتها برًا وبحرًا وجوًا حول العالم.
كل ذلك انعكس أثره على الجنود، وهم رجال ونساء الأمة والذين تعرضوا لظروف لم يحتسبوا أبدًا لها، أو تمر في مخيلتهم يومًا، تسببت لهم بصدمات نفسية وجروح معنوية عميقة ظهرت جلية بعد عودتهم لبلادهم ومحاولة استئناف الحياة الطبيعية ولكن هيهات. فما تعلمه الجنود من فنون قتل الآخر والبقاء على قيد الحياة على حساب بشر آخرين أدى إلى تداعيات جسيمة على المدى البعيد، وفشل الكثيرون في التعافي منها.
في مقدمة وخمسة عشر فصلًا يقدم الصحفي والمراسل العسكري المخضرم الحائز على جازة بوليتزر الأميركية «ديفيد وود» حصيلة تجربته في معايشة الحروب التي خاضتها الولايات المتحدة في أنحاء العالم، وكيف ارتدت آثار تلك الحروب على أعز وأغلى ما تملكه أمريكا وهم شبابها. أصابتهم في معنوياتهم وأحالت حياتهم جحيمًا أدى بكثير منهم للانتحار والتشرد ونبذ المجتمع بعد أن عادوا لبلادهم أشباه بشر ومعبئين بكل ما عايشوه في حروب اتسمت بالوحشية والدمار الهائل وأحدث آلات القتل.
لا تفكير في عواقب أخلاقية
بداية يقول المؤلف: هذا الكتاب يدور حول الأميركيين الذين أرسلناهم للحرب في العراق وأفغانستان، وما أصابهم من أضرار أخلاقية هناك. في تلك الصراعات حوصر المدنيون أيضًا في القتال الدائر وكانوا منخرطين سواء رغبوا بذلك أم أبوا، أو حتى مجرد عابري سبيل.
في حروبنا الجارية منذ 2002 كان معظم العراقيين والأفغان يعانون من مستويات عالية ودائمة من القلق والاكتئاب والخوف والحزن والمرارة واليأس جراء النزاعات السابقة والقمع. ثم أتت السنوات التالية على بدء الحرب الأميركية لتعمق الصدمة الجسدية والنفسية وترفع الألم إلى مستويات لا يمكن أن نتخيلها. ويؤكد المؤلف على أنه برغم أن الأضرار المعنوية للشعبين الأفغاني والعراقي هي خارج نطاق هذا الكتاب إلا أنها أيضًا لم تدخل نطاق تفكير الأميركيين.
عبارة لضابط وقسّ في الجيش الأميركي يسوقها المؤلف في الفصل الأول، قبل أن يروي قصة الجندي قوي البنية أشقر الشعر الذي قتل طفلًا أفغانيًا في الثانية عشرة من عمره في مقاطعة هلمند، وكيف اتخذ الجندي قراره في لحظة بعد أن لمح الطفل يحمل بندقية هجومية.
وفقًا للمبادئ العسكرية للجيش كان هذا القتل مبررًا دفاعًا عن نفس ورفاق الجندي الأميركي، نعم إن الأمر خاطئ ولكن ليس أمامك خيار آخر. عندما عاد الجندي لحياته المدنية كان عليه التعايش مع مشهد الطفل المقتول الذي يملأ وعيه وضميره. تتنازع نفس الجندي مشاعر الفخر لخدمته بلاده في الحرب وتلقي الثناء من مواطنيه وبين الظلال الكئيبة لفظاعة فعل قتل طفل أيًّا كان.
في فصل بعنوان «القواعد وُضِعَت كي تُختَرق» يقول المؤلف، إن قيم الولاء والنزاهة والفضيلة قد تبدو مُثلًا عليا يتمنى معظمنا أن يعيش بها، لكن قواعد الجيش لايمكن أن تكون بهذه البساطة – حتى لو تغنى بها الجنود وحفظوها عن ظهر قلب– بل يجب أن تكون أكثر تحديدًا وتشددًا، وهي تصدر للجنود جنبًا إلى جنب مع وسائل القتال والتدريب إضافة بالطبع للترخيص بالقتل.
اصرخ بالخراب وأطلق كلاب الحرب
فالنجاح على أرض المعركة وإنجاز المهمات، يؤكد الكاتب، قد يستدعي تعليق المفاهيم الأساسية للأخلاق المدنية مثل فكرة أن قتل الطفل عمل خاطئ. وهذا يفسر لِمَ يدعم الجيش، ويؤكد أن تندمج القيم مع متطلبات الانضباط الصارم والطاعة غير المشروطة للأوامر.
في تلميح معبر عن معنى الحرب، يستهل الكاتب الفصل الرابع بمقولة من مسرحية «شكسبير» الرائعة «يوليوس قيصر»: «اصرخ بالخراب وأطلق كلاب الحرب»، الخراب في المقولة يعني إطلاق يد الجند في ارتكاب الأفعال المخالفة للقيم الإنسانية من اغتصاب وسلب ونهب وقتل وسلوكيات تنافي التحضر. وشبَّه شكسبير الجنود المنفلتين بكلاب الحرب التي لا تعي سوى غريزة الهجوم والإيذاء.
يقول ديفيد إن الساسة وصناع السياسة والجنرالات الذين هرعوا بالولايات المتحدة إلى الحرب في عام 2001 لم يفكروا أو يأخذوا في حسبانهم التحضير لطول وكثافة هذه الحرب وصراعاتها، والجروح النفسية التي سيعود بها الجنود لأوطانهم.
آلاف المتخصصين العسكريين ومحللي الاستخبارات العسكرية الذين يعملون بنشاط جنبًا إلى جنب في مبنى البنتاجون الذي يصل طول دهاليزه المضاءة بالفلورسنت إلى سبعة عشر ميلًا؛ لم يستطع سوى عدد قليل جدًا منهم أن يتنبأ بأن تنظيف أفغانستان من عصابات طالبان سوف يستغرق أكثر من ربيع 2002، والذي قدروه عندما اتخذوا قرار الذهاب إلى الحرب في أفغانستان.
الخيانة من كل الاتجاهات
في فصل مهم بعنوان «خيانة»، يستهله بعبارة من كتاب «جوناثان شاي» «أخيل في فيتنام»: أي جيش؛ قديم كان أم حديث هو هيكل من المعنويات تحدده القيم والتوقعات المشتركة. يقول المؤلف إن الثقة في الجيش هي العمود الفقري له ولتماسكه وتلاحمه، فالجنود يثقون في قادتهم، بدءًا من عريف فصيلتهم وانتهاء بالقيادات العليا. يثقون أن تحضيرات الجيش للمعركة هي أفضل ما يمكن، وأن سلاحهم أفضل مما في أيدي عدوهم، وأن زملاءهم ورفاقهم يحمون ظهورهم، وأن قيم الشرف والولاء والاحترام والمهنية هي التي يتجسد فيها مشاة البحرية الأميركية.
لكن – والحديث للمؤلف- في حربي العراق وأفغانستان جاءت الخيانة من كل الاتجاهات، فبعض الأميركيين انخرطوا في الجيش لتحقيق حلم العمل على بناء ديمقراطيات سلمية مزدهرة في البلاد التي ذهب الجيش إليها كما وعد بذلك البيت الأبيض، وسيشاركون في بناء المدارس والجسور وسيعملون مع المزارعين لتحسين محاصيلهم وغير ذلك من الأحلام العريضة التي انهارت على أرض الواقع.
فالجنود اكتشفوا أن من حضر للحرب لم يعط نفسه الوقت الكافي ولم يستعن بالموارد المتاحة عنده ليسبر غور الأمر بروية ودقة، ولم يكلف القادة أنفسهم ليعلموا كم سيعاني الجند في حرب عصابات مكشوفين لعدو يعلم الأرض أفضل منهم، وإلى متى ستستمر الحرب فعليًا، كان التعجل وعدم الكفاءة في الدراسة والتحضير هو أكبر خيانة تلقاها الجنود من قادتهم وساسة بلادهم.
في أفغانستان والعراق اكتشف الجنود أن السيارات التي كانوا يستقلونها في دورياتهم وعملياتهم لا توفر لهم أي حماية من هجمات العدو عليهم وارتفعت الإصابات وأعداد الضحايا لأرقام فلكية، واضطر الجنود إلى صنع دروع محلية بأيديهم وعلى نفقتهم لحماية أنفسهم وزملائهم. وتدخل الأهالي والصحفيون والساسة بمن فيهم السيناتور إدوارد كينيدي لطلب النجدة من واشنطن كي ترحم جنودها من القتل. وتحركت الإدارة الأميركية أخيرًا وأرسلت للمعركة سيارات مصفحة أكثر وشاحنات ضد القنابل بعد أن اضطرت لذلك. كانت خيانة كبيرة للثقة التي وضعها الجنود وذووهم في الإدارة والجيش.
الاختيار في الحرب دائمًا بين شرين
هكذا ينقل المؤلف عن «ريبيكا جونسون» العميدة الأكاديمية للكلية الحربية لمشاة البحرية الأميركية. في فصل بعنوان «جريمة حرب»، يذكر فيه بداية واقعة من الحرب العالمية الثانية عن إعدام الجنود الأميركيين لمجموعة من الجنود الألمان بدم بارد بعد أن استسلموا لهم، ورغم كون جنود النازي من عناصر قوات الاستخبارات الألمانية النازية السيئة السمعة وقتها، فإن المؤلف يؤكد أنها جريمة حرب كون هؤلاء الرجال استسلموا وأصبحوا أسرى عزلًا من السلاح.
تضغط الحرب وفقدان الأصدقاء والرفاق ومعايشة الموت في كل لحظة على نفوس وأعصاب ومعنويات المشاركين فيها، فمنهم من ينهار وينكفئ على نفسه يبحث لنفسه عن مخرج منها، ومنهم من ينقلب على المبادئ والقيم فيرتكب أعمالًا انتقامية متسترًا بوقائع الحرب ويسفك دمًا لا يحق له سفكه إنسانيًا. وكلا الفريقين يخرج من الحرب مثخنًا بجراح النفس، ويعود لوطنه ليقاسي في مجتمع ينظر إليه كبطل؛ بينما هو لا يرى في نفسه سوى ضحية لخيانة تعرض لها من الذين وضع ثقته بهم.
ينقل ديفيد عن جندي أميركي أخفى هويته حتى لا يتعرض للمحاكمة عما ارتكبه هو وزملاؤه في العمليات العسكرية، إن الجندي يجد نفسه بين شرين: إما أن يقتل لحماية نفسه وزملائه ويكمل المهمة التي ينتظر منه قادته أن يتمها، ويخاطر بالتعرض لعقوبة الإعدام على ما ارتكبه بحق الأبرياء، وإما أن يلتزم القيم والمُثل ويعرض حياة زملائه الذين يعتمدون عليه للخطر.
وفي زمن الحرب تقع الفظائع الرهيبة، فظائع يرتكبها أناس سيئون، ولكن هناك أيضًا رجالًا صالحين يتخذون قرارات ويرتكبون أفعالًا قد تجعل جلودنا تقشعر إذا اطلعنا عليها. وكلا الفريقين نتيجة فعلهم واحدة؛ جرائم حرب.