كنت صغيرا وعنيدا مثلك يا فتى.. كنت أجري دون حذاء تحت ضوء القمر، وذات مرة جريت بجانب سيدة عجوزة، كنت أرقد وأتحامق، أوقفتني السيدة وقالت: هل ترقد لتجمع كل هذ الضوء، في ضوء القمر يظهر السود بلون أزرق.
«جين»

«Moonlight» هو فيلم عن قضايا أصحاب البشرة السمراء، عن تطلعهم لضوء القمر. ورغبتهم في الفخر بذاتهم وعن خجلهم من لون بشرتهم الذي يسبب لهم المعاناة. إنه ليس فيلم عن العبودية الكلاسيكية، لا يرغب في استجداء عواطفنا، لا يفتعل مواقف مأساوية حتى نبكي، ولا يريد صناعة اللقطات المصطنعة في المحافل الأمريكية، حيث يتم عرض لقطات من فيلم أو أغنية عما يتعرض له أصحاب البشرة السوداء من عنصرية. وتظهر الكاميرا بكاء الفنانين وتضامنهم ثم الوقوف للتصفيق. الفيلم لا يريد هذا. لا يصنع أي لحظة مفتعلة. إنه فيلم عن أصحاب البشرة السوداء حقا، وقبل كل شيء إنه عن كل إنسان مهمش يطوق لضوء القمر.


ثلاث مراحل لضوء القمر

الفيلم يعرض ثلاث مراحل في حياة طفل من أصحاب البشرة السمراء ولديه ميول مثلية يدعى شارون (مرحلة الطفولة- مرحلة المراهقة- مرحلة الشباب) «شارون» الذي يلقب بـ«الصغير» من قبل أقرانه في الدراسة، والذي يتم وصفه بـ«اللوطي». شارون لا يندمج مع مجتمعه، دائما صامت، لا يشارك أقرانه اللعب. ويتعرض لمضايقات منهم، فيطاردونه ويضربونه. وفي إحدى المرات يهرب منهم إلى حجرة مهجورة، فيراه جين «ماهرشالا علي» ويتبعه ويهدئ من روعه. ثم يأخذه للمنزل لزوجته تريزا «جانلي موانا» ويحاول معرفة معلومات عنه ليعيده لمنزل أسرته. بعد فترة يتكلم الفتي ويقول إنه لا يريد العودة للمنزل. وفي اليوم الثاني يعيده جين لنتعرف على الأم المدمنة «بولا»، تقوم بدورها «ناعومي هاريس»، وبعدها بدقائق نعلم أن «جين» هو موزع المخدرات في منطقة بولا (أي أنها تشتري المخدرات من مساعدي جين)، ولذلك «جين» مسئول عن إدمانها بطريقة ما، ولكنه يصبح مصدر الحنان الوحيد «لشارون»، أما «بولا»، الأم، فهي مسئولة عن تدمير نفسية «شارون» وعدم تقبله لنفسه ومجتمعه بسبب إدمانها ومعاملتها القاسية. دائرة مغلقة يضعنا بداخلها الفيلم. حيث يكون أصحاب البشرة السمراء مصدر تدمير لذاتهم ومصدر الاستمرار الوحيد. فجين يحاول دمج شارون ومساعدته في تجاوز أزماته. وهو في نفس الوقت المسبب بطريقة ما لتدمير أمه. ولكن الفيلم لا يضعك في ثنائية الخير والشر النسبي وصراع الأضداد في نفس الشخص. جين وبولا وشارون لم يمتلكوا حرية اختيار فعل الخير أو الشر. إنهم مجبرون على ما يفعلونه. وتلك هي حياة أصحاب البشرة السوداء.

الفيلم لا يقدم القضية بشكلها التقليدي، وﻻ يتناول العنصرية الواقعة من البيض بشكل مباشر. بل إن الفيلم تقريبا لم يظهر فيه شخص أبيض واحد. ولكنك تدرك أصداء ومآلات تاريخ العنصرية ضد أصحاب البشرة السمراء على حياة الطفل وعلى حياة السود القاسية والفقيرة.


الواقعية السوداء

شارون وجين يمثلان مرحلتين يمر بهما الشباب الأسود، الطفولة وهي مرحلة الاغتراب عن المجتمع وعدم تقبل الذات واللون. ومرحلة النضج والكبر، هذه المرحلة ليست جيدة أيضا. فالأسود يتقبل ذاته على ما هي عليه ويتقبل ما عاناه طوال حياته وعمله غير الشرعي غالبا. أو عمله الشرعي الذي لا يكفي قوت يومه.«كيفن» وهو أهم أصدقاء شارون. يلخص حياة أصحاب البشرة السمراء في إحدى الجمل الحوارية. في مرحلة الطفول يعانون من النبذ ولا يتقبلون أنفسهم، وفي مرحلة الشباب يقومون بفعل متهور أو إجرامي لرغبة في المال أو من أجل إثبات الذات فُيلقى القبض عليهم. السجن يحولهم لمجرمين حقيقيين فما يتم في أغلب سجون العالم هو عكس هدفها «التهذيب والإصلاح». هكذا يخرج الأسود من السجن ويتقبل وضعه الجديد ويستقر ماديا أو يرغب في الابتعاد عن الإجرام فيتحول لفقير. هذا هو خط سير حياة السود، ومنهم شارون وجين، وكيفن، وبولا، وتريزا . لنا أن نتوقع أن الفيلم لا يتكلم عن القلة من أصحاب البشرة السمراء المتاح لهم دخول الجامعات والتحول لرؤساء جمهورية ووزراء خارجية وقادة سياسيين. بل يتحدث عن سكان الأحياء الفقيرة الذين كانوا أقل حظا من الآخرين. الفيلم لا يحاول تجميل أصحاب البشرة السمراء. فقد اعتادت هوليود نبذ كلمة «الزنوج» في أفلامها. وسبق أن اتهم المخرج «سبايك لي» «كوانتين تارنتينو» بعدم الاحترام بسبب استعماله لكلمة الزنوج في فيلمه «جانجو». ولكن «moonlight» استخدم كلمة الزنوج بكثرة. بل جعل السود يطلقونها على أنفسهم كنوع من التندر. فالفيلم يتخذ خطوة جدية وواقعية في مناقشة قضايا أصحاب البشرة السوداء بعيدا عن إرضاء هوليود وادعائها.وككل مواضيع الفيلم كان جزء المثلية الجنسية. فلم يتعمق الفيلم كثيرا في هذه القضية «حقوق المثلين والاضطهاد ونظرة المجتمع لهم والجدالات الطبية والنظرة العاطفية لهم ..إلخ»، بل جعلها مشكلة من مشكلات شارون التي تزيد من شعوره بالاغتراب عن مجتمعه في مرحلة الطفولة، ثم يكتشفها بشكل أكبر في مراهقته، وأخيرا يتقبل كينونته المثلية في شبابه.


مواطن القوة والجوائز

شخصية جين ظهرت في مشاهد قليلة من الفيلم، ولكن أثر الشخصية استمر طوال أحداثه. استحق «ماهرشالا علي» الترشح للأوسكار في فئة الممثل المساعد لتجسيده المتقن وغير المفتعل لهذه الشخصية. وكذلك من الشخصيات المكتوبة بدقة شخصية الأم المدمنة التي تسبب المشاكل لابنها وتحبه في نفس الآن. تطرده في لحظاتها الماجنة ولكنها تغضب من «تريزا» التي ترعاه وتوفر له أجواء جيدة. «ناعومي هاريس» توفر لها العديد من اللحظات الدرامية الجيدة وأجادت في تمثيلها ونالت هي الأخرى ترشيحا مستحقا للأوسكار.

على عكس السائد في مثل هذه النوعية من الأفلام، اعتمدت السينماتغرافيا على الألوان بقدر كبير في إيصال رسائل الفيلم، اعتمادها على درجات اللون الأزرق كدلالة على مراحل مختلفة لضوء القمر، وهو اللون الذي يشير للعبارة التي تحتوي على رمزية الفيلم، واللون الأحمر في لحظات تدمير بولا لنفسية شارون. القطعات المونتاجية لعبت دورا كبيرا في تسلسل الأحداث أو في إرباك المشاهد وصنع لحظات إثارة قدر الإمكان، في قصة لا تعتمد بقدر كبير على الإثارة. بصفة عامة «moonlight» من أهم المنافسين على جائزة المونتاج ويستحقها في ظل عدم وجود منافس بارز أو استثنائي كما كان بين فيلمي «mad max» و«the big short» العام الماضي.فيلم «moonlight» نقلة حقيقية في الأفلام التي تتحدث عن قضايا أصحاب البشرة السمراء ومعاناتهم. الفيلم إنساني مليء بالمشاعر ومليء بالواقعية ومتخلٍ عن التناول الهوليودي الدعائي، فيلم بهذا الجمال هو إضافة لجائزة أفضل فيلم إذا حصل عليها وليس العكس.