مسلسل «Moon Knight»: من الذي لا يحب فارس القمر؟
بهذه الكلمات من أغنية a man without love للمغني البريطاني إنجيلبيرت هامبردينك، الأغنية التي صدرت في أواخر الستينيات لتعود لتحصد ملايين المشاهدات ومرات الاستماع الآن، تبدأ أحداث مسلسل Moon Knight، أحدث الإنتاجات التليفزيونية لعالم مارفل المستوحى من قصص مارفل المصورة.
المسلسل الذي قام بإخراج معظم حلقاته المصري محمد دياب، كما شارك كمنتج منفذ في المشروع بأكمله، قدم لنا وجبة دسمة، مناسبة لأسلوب ديزني في عرض حلقات أعمالها بشكل أسبوعي، وجبة جمعت بين عالم المصريات السحري والمثير للاهتمام والخيال، وبين دراما نفسية أمينة في نقل المعاناة، كل هذا رفقة بطل خارق يطير في ضوء القمر ليحمي مسافري الليل. وجبة تبدو مكتملة العناصر، لكن هل نجح دياب في مغامرته لصبغ مارفل بألوانه المصرية، خصوصًا لدي الجمهور العالمي؟ والأهم هل قدم لنا مسلسلًا يستحق التذكر والتأمل وإعادة المشاهدة؟
بحلم معاك
تبدأ أحداث المسلسل مع شخصية ستيفن، الشاب البريطاني الذي يعمل كبائع للهدايا داخل أحد المتاحف، والمولع بعلم المصريات، ستيفن طيب القلب وخفيف الظل، إلا أنه يعاني من كوابيس متكررة وحوادث غير مفهومة تحدث أثناء نومه، يحلم ستيفن بأن يجد الشط والأمان تمامًا كما في كلمات أغنية نجاة وعبد الرحيم منصور وهاني شنودة التي نسمعها أثناء أحداث المسلسل، لكن الأمر يتطور فجأة لنتعرف على الهوية الأخرى التي يمتلكها.
مارك سبيكتر، عميل المخابرات الأمريكية والقاتل المحترف، والذي تجمعه صلة خاصة بالإله المصري القديم خونشو، إله القمر الذي يحقق العدالة والانتقام من الأشرار، كما يحمي الضعفاء في سكون الليل.
لعبة الأحلام والحقيقة تستمر في الحدوث طوال أحداث المسلسل تقريبًا، حتى إنها تبدو في بعض الأحيان كعوالم موازية، وهي النظرية الأكثر جماهيرية في عالم مارفل السينمائي هذه الأيام، لكن عوالم Moon Knight الموازية لا تأتي بشخصيات أخرى لنفس البطل، ولكن بهويات متعددة لبطل واحد (في عالم واحد)، والفارق بين الأمرين كبير.
دراما نفسية وسط قصص مارفل المصورة
كلمات أوسكار إيزاك تمثل لحظة كشف حقيقية عن «فارس القمر» فالعمل لم يكتفِ بخلطة مارفل الناجحة، لكنه حاول أيضًا وبشجاعة يحسد عليها أن يضيف لها دراما نفسية محبوكة بشكل جيد، مشاهدة التيمات النفسية في أعمال فنية دائمًا ما يستثير ردود فعل متضاربة، لدى الجمهور ولدى النقاد، خصوصًا حينما يكون الناقد طبيبًا نفسيًّا، لكن المعالجة هنا قد عبرت هذا الاختبار، لأنها جعلتنا نهتم بهذا الإنسان الذي يعاني، جعلتنا نرتبط به شعوريًّا، كما قدمت لأوسكار إيزاك واحد من أفضل أداءاته، ربما لم يقترب من هذا المستوى منذ عمله مع الأخوين كوين في inside llewyn davis.
لكن مرة أخرى، ما الذي يجعل من الدراما النفسية هنا دراما جيدة؟ الإجابة هي أنها لم تستجدِ التواءات الحبكة كما يفعل كثيرون، لم تظهر شخصية البطل كرجل خارق متحول، بل إنها اهتمت قدر الإمكان في أن تكون أمينة على المستوى الطبي.
نتحدث هنا بالتحديد عن اضطراب ازدواج الهوية dissociative identity disorder والمعروف سابقًا باسم اضطراب تعدد الشخصية multiple personality disorder، ودعونا نوضح هنا بشكل مختصر ما هو الفارق بين الشخصية والهوية، فالشخصية هي حصيلة أفكارك ومشاعرك بالإضافة لسلوكك، أما الهوية فهي مظهرك، طريقتك في التعبير عن نفسك، عملك، أشياء كلها يمكن تغييرها.
هذا الفرق يفسر تغيير اسم الاضطراب الذي نتحدث عنه الآن، التغيير الذي حدث في التصنيف الدولي للأمراض النفسية منذ عام 1994، الاسم الجديد يتحدث عن تشظي أو تكسر الهوية – تمامًا كما تذكر أغنية البداية – وهذا ما يحدث بالفعل، يطور المريض هوية جديدة، مظهرًا جديدًا، وطريقة مختلفة في التعبير عن نفسه، لكنه لا يخلق شخصية جديدة.
بتطبيق ما سبق على أحداث المسلسل، نجد أن مارك وستيفن يتشاركان في الأفكار والمشاعر، كلاهما مؤمن بنصرة الضعيف، كلاهما يشعر بالوحدة وفقدان الحب، لكنهما يختلفان في المظهر والسلوك وطريقة التعبير عن النفس، بمعنى أوضح، نحن أمام هويتين تظهران ما تكنُّه شخصية واحدة.
مارك يظهر ما يشعر به من حزن بشكل عنيف، ستيفن يملك في داخله كله ما شعر به مارك من حزن ووحدة، لكنه يحاول أن يتعاطي بشكل أكثر شاعرية وخفة، هوية جديدة تحاول فقط أن تتعاطي مع الألم بشكل مختلف.
المسلسل ذهب في رحلة شجاعة وغرائبية أيضًا في حلقة كاملة داخل ذكريات بطلنا، ليقدم نسخة يمكن تصديقها عن أسباب ما نراه الآن، هذا التشظي، هذا التكسر، له أسباب واضحة، صدمة، شعور بالذنب، أعراض اكتئابية، وعدم قدرة على التعاطي مع الواقع، تاريخ مكتمل مع المعاناة.
الشعور بوجود هوية أخرى، بأن يشعر الشخص بأنه لم يعد يتعرف على نفسه، بأنه أيضًا يشعر بأن عالمه عالم آخر، كل هذه أعراض تم وصفها وتم تشخيصها ورؤيتها على مرضى حقيقيين، مارك وستيفن هويات نراها يوميًّا، والبعض يعيشون ويموتون بهوية أخرى ولا يعرفون.
هذه معالجة تستحق وصفها بالأمينة طبيًّا، والشجاعة فنيًّا وإنسانيًّا.
أنتي سوبر هيرو مصرية ؟
لمحات محمد دياب واضحة للغاية داخل العمل، البطل المستوحى من إله مصري، يملك معرفة حقيقية عن الميثولوجيا المصرية القديمة، كما أن مصر العصر الحالي قد ظهرت بشكلها الحقيقي – حتى لو تم التصوير خارجها – ظهرت موسيقى هشام نزيه التي تستحق وصفها بالمصرية على خلفية الأحداث، وهي موسيقى تملك وظيفة واضحة في السرد، كما ظهرت أغاني عنبة وويجز وشاكوش بالإضافة لنجاة ووردة – التي اختارتها سارة جوهر – وكل منهم يصف جزءًا من مزاج المصريين.
لكن الأهم أن الشخصيات المصرية التي ظهرت في المسلسل، وعلى عكس الأعمال الهوليوودية النمطية، كان لها دور وتأثير، لم تتحدث بلغة غير مفهومة تتكرر فيها حروف الحاء والخاء بلا معنى، ولم تمثل فقط ككومبارس يقتله البطل في طريقه.
إذا قررنا أن نختار اللحظتين الأكثر طزاجة في المسلسل، أو اللتين تستحقان وبجدارة وصف cool فستكون الثانية هي مقدمة مارفل الشهيرة على أنغام بتونس بيك وأنت معايا، وستكون الأولى وبلا جدال هو ظهور السوبر هيرو المصرية في الحلقة الأخيرة بزيها الفرعوني وجناحيها الذهبيين، لتسألها طفلة صغيرة في أحد شوارع القاهرة: «أنتي سوبر هيرو مصرية؟» وهي بالتأكيد جملة تاريخية ستظل عالقة في الأذهان لوقت طويل.
عالم الأبطال الخارقين هو الميثولوجيا الحديثة، أجيال من المشاهدين يمثل لها أيرون مان وسبايدر مان رمزًا حيًّا وخالدًا، والآن لدى المصريين لحظة مضيئة تصلح كوجه لجيل جديد من المصريين والمصريات.
الأجمل هنا أن ليلى الفولي التي أدتها مى قلماوي قد تكون الشخصية الأفضل في المسلسل، امرأة جميلة وقوية وشجاعة، منتمية لأسرتها، فخورة بأهلها، تحاول إنقاذ حبيبها، كما ترفض الابتزاز أو العبودية في سبيل الانتقام. من لا يحب أن يشاهد عملًا مكتملًا من بطولة هذه السوبر هيرو، يمكننا أن نعتبر عنوان هذا المقال مبالغة، لأن هناك بالطبع من لم يعجب بالمسلسل، لكن حقًّا من الذي لا يحب ليلى؟
الحب كعلاج ووسيلة لعودة فارس القمر
في فارس القمر نتتبع إذن رحلة شاب يتحول لبطل خارق بمساعدة إله مصري قديم، لكن هذا لا يكفي لإصلاح ما بداخله من كسور، لا يشفيه من معاناته، لا يضيء قلبه وتنفتح له أبواب أوزوريس إلا عندما يتصالح مع ذكرياته وماضيه وهويته الأخرى، يصبح إنجازه الأكبر هو ما فعله دون مساعدة هذا الإله المصري القديم، بل هو الذي يساعده ليعود للحياة.
بطلنا يتلقى رصاصتين في صدره، لكنه يعود للحياة حينما ينفتح على ماضيه، وحينما تمد له حبيبته يد المساعدة، يصبح الحب هو العلاج والسلاح، أمر شاعري بالتأكيد، قد لا يكفي في الواقع لنعيد الموتى كل يوم إلى الحياة، لكنه قد يساعد بالتأكيد من يعانون وهم لا يزالون على قيد الحياة. كما أن الحب الذي يظهره الجمهور لفارس القمر الآن قد يكون أيضًا سببًا لعودته في أعمال ومواسم قادمة، من يعلم؟