«مودي الإمام» وأوركسترا الفرد الواحد
في حوار سابق مع أحد المؤلفين الموسيقيين يخبرنا أنه في حالة قبوله عملاً فنياً ذا ميزانية منخفضة كان يضطر أحيانًا لدفع أموال فاقت الأجر الذي تحصل عليه إذا استلزم الأمر كي يخرج العمل بالشكل اللائق الذي يرجوه، وبسؤاله لماذا تقبل عملاً بميزانية منخفضة؟ أجاب بأن أغلب تلك الأعمال من إنتاج جهات حكومية ستساهم في انتشار موسيقاه، ومن جانب آخر هو يعلم أنها تخصص ميزانية ضعيفة للأعمال الموسيقية، وأنه يخشى على صورته كموسيقي فلن يقبل بأن يقتصد ويستسهل في الإخراج الموسيقي حتى مع ضعف الأجر وإلا كان الأفضل له الرفض من البداية.
عاد إلى الأذهان هذا الحوار السابق، عندما ظهر الموسيقار مودي الإمام في حلقة من برنامج صاحبة السعادة وهو منبهر بموسيقاه التي أعاد كتابتها موسيقيًا الموزع الموسيقي أحمد الموجي، وقادها أوركسترالياً المايسترو نادر عباسي والتى ظهرت بشكل مغاير عما اعتدنا عليه من مودي الذي يتبع أسلوبًا خاصَا به في التنفيذ معتمدًا على نفسه في عزف أغلب الآلات بالكيبورد التي مهما بلغ إتقانه في العزف عليها فلن يعطيك إحساس الآلة نفسها، وهو نفسه قال إنه شعر بإحساس مختلف وكأنه يستمع إلى موسيقاه لأول مرة تنفذ بشكل حي، والحقيقة أن أي مستمع يعرف كيف يميز موسيقاه جيدًا لن يدرك أنها نفس المقطوعات التي سمعها من قبل في عدة أفلام شهيرة.
بين التصميم والتنفيذ
لو استمعنا إلى موسيقى فيلم الهروب على سبيل المثال سنجد اختلافًا واضحًا في التنفيذ الموسيقي، حيث اعتمد مودي على نفسه في عزف أغلب النوتات الموسيقية بآلته المفضلة الأورج عكس ما تم تنفيذه وتوزيعه في صاحبة السعادة.
تظل مشكلة تنفيذ موسيقى مودي الإمام هي نقطة الضعف الأبرز في تكنيك عمله، فهو يشبه مصمم الأزياء الماهر جدًا الذي يضع تصميمات أولية بديعة ويصر على أن تخرج في صورة أقل من قيمتها في النهاية مستعينًا بخامات رديئة أو مقلدة.
من الأمثلة الواضحة جدًا على استسهال مودي في الإخراج الموسيقي أحد المشاهد في فيلم «طيور الظلام» التي يطلب فيها عادل إمام من رياض الخولي عزف أغنية «ياواش ياواش يا مرجيحة» بالعود سنجد أن الجملة الموسيقية المفترض أن يلعبها الخولي نفذت بالأورج، رغم أن الجملة الموسيقية من بداية المشهد معتمدة بالكامل على آلة العود، وفي مشهد مؤثر داخل الفيلم، إلا أنه أصر دون مبرر فني أو تقني على تنفيذ صولو العود بنفسه معتمدًا على الأورج الذي مهما بلغت درجة إتقانه في العزف عليه فلن يبلغ ذروة إحساس عازف العود وظهرت اللقطة ممسوخة مسلوبة الإحساس، ولو كان استعان بعازف عود لخرج المشهد بصورة أعمق وأفضل.
رحلة البحث عن الهوية
بدأ مودي رحلته الفنية بوضع الموسيقى التصويرية لفيلم وبالوالدين إحسانًا من إخراج والده حسن الإمام. وقتها كان مودي الإمام ما زال يعرف باسمه الحقيقي (أحمد) ولم يكن اكتسب الاسم الفني الذي سيعرف به لاحقًا (مودي). لو لم تكن شاهدت الفيلم من قبل واستمعت إلى المقدمة الموسيقية لبدايته وحاولت تخمين اسم المؤلف الموسيقي لن يأتي في ذهنك سوى اسمين فقط كانا الأشهر وقتها الأول هو فؤاد الظاهري، والثاني جمال سلامة .
لم تظهر بصمة مودي التي سنعرفها لاحقًا ويبدو أنه كان ما زال في مرحلة تجريب فني فخرجت الموسيقى متأثرة بهما، حيث اللعب على تنويعات موسيقية إما مستمدة من الفلكلور مثل الظاهري أو الجمل الموسيقية الطويلة المتكررة كجمال سلامة، والغريب أن الموسيقى في الفيلم نفذت بالكامل أوركستراليًا وهذا ما يجعلك تتعجب، بل قد تتشكك عندما تعرف أن من وضعها هو مودي نفسه.
لكن يبدو أن احتكاكه بجيل والده جعله لا يخرج عن الشكل التقليدي المتعارف عليه في موسيقى الأفلام، حيث البعد عن التجديد وطرح أشكال موسيقية قد لا تتسق مع أفكار هذا الجيل، وكانت السينما ما زالت بعيدة عن الثورة الموسيقية الحاصلة في عالم الأغنية فلم تدق تلك الثورة أبواب السينما بعد بالإضافة إلى أن الفيلم قصته دراما شعبية محلية حيث لا مجال للتغريب والخروج عن روح الحارة المصرية.
ظهر اسم مودي لأول مرة على تتر فيلم الكروان له شفايف في نفس العام تقريبًا 1976، لكن تجاور اسمه مع أخيه الأكبر حسين الإمام، وكتب على التتر تأسيًا بالأخوين رحباني (الأخوين الإمام) حسين ومودي في تجربة موسيقية أولى لهما.
المقدمة الموسيقية للفيلم سنجد أنها إعادة توزيع لرائعة سيد درويش الحلوة دي قامت تعجن، والتي نفذتها موسيقيًا الفرقة الماسية لأحمد فؤاد حسن، وهنا يتجلى أكثر شدة التأثر بالظاهري الذى كان يبرع في التقاط جمل موسيقية من التراث وبروزتها من جديد في أعماله الدرامية.
واصلا الثنائي اشتراكهما في وضع الموسيقى التصويرية للعديد من الأفلام مثل دعاء المظلومين، «أين تخبئون الشمس؟» وشقة وعروسة يارب وهي الشراكة التي ستسفر لاحقًا عن تدشين فرقة (طيبة) تلك الفرقة التي شاركت في الحراك الموسيقي الغنائي في أواخر السبعينيات وأوائل الثمانينيات.
طيبة والمزاج المتقلب للمستمع العربي
في أواخر السبعينيات أسس مودي صحبة أخيه حسين فرقة طيبة والتي لم تستمر لأكثر من ثلاثة ألبومات، الفرقة لم تحظ بالتقدير الكامل من المستمع في الوقت التي حجزت العديد من الفرق مكانة لديه بالفعل، والتجربة على الرغم من عنفوانها وتأثرها الشديد بالثورة الموسيقية التي حدثت في أوروبا إلا أنها ظلت في حالة تغريب كاملة عن المستمع واقتصرت على فئة قليلة من الجمهور، بالإضافة إلى ظهور عدة أصوات جديدة منفردة كلها عوامل مهدت لاختفاء العديد من الفرق وليس طيبة فقط وأعيد اكتشافها مرة أخرى بعد انتشار مقطع إمبراطور الحديد أحمد عز عضو الفرقة وهو يعزف على الدرامز .
مودي الإمام ومرحلة تدشين الأسطورة الذاتية
مع ظهور جيل جديد من المخرجين الشبان في أوائل الثمانينيات كان مودي ضلعًا أساسيًا في تجاربهم الإخراجية الأولى، ومعها بدأت موسيقاه تأخذ منحىً جديداً حيث التوغل شيئاً فشيئاً نحو الميل إلى الفردية في التنفيذ والاعتماد على نفسه موسيقي أوحد داخل العمل فهو من يضع النوتات الموسيقية، وهو من ينفذها بالكامل مستعينًا بالثورة التكنولوجية التي مكنته من استبدال الاَلات الحية بالأورج الذي يحتوي على كافة أصوات الاَلات الموسيقية بما فيها الإيقاعات أيضًا.
أصبحت موسيقى مودي أكثر سهولة فاختفت الجمل اللحنية الطويلة، وحلت محلها جمل لحنية خفيفة رشيقة تنساب بسهولة دون أي تكنيك معقد وسريعة الالتصاق بالأذن، ووضحت أكثر موهبة مودي التلحينية، حيث إن أغلب الأفلام التي وضع موسيقاها في تلك الفترة كانت إما أفلاماً استعراضية أفلاماً تحتوي عدة أغنيات وهي البصمة التي ستلازمه بعد ذلك، وستجعل مسألة اكتشاف موسيقاه أبسط وأسهل.
ظهرت قدرات مودي في الأفلام الاستعراضية الغنائية مثل تجربته المهمة مع شريف عرفة في «سمع هس» و«يا مهلبية يا» وهي أفلام استعراضية غنائية تلعب الموسيقى دور البطولة فيها.
رغم نجاحه في فرض شخصيته الفنية عبر الجمل اللحنية الرشيقة اللافتة عبر تلك الأفلام الاستعراضية فإنه ظل محافظاً على نزعته الفردية في التنفيذ الموسيقي بل والإسهام بصوته في أداء بعض الأغنيات داخل بعضها.
من بين وسط التجارب الجديدة كان حظ مودي جيدًا في التعامل مع مخرج بحجم عاطف الطيب في عدة أفلام مهمة نالت استحسان النقاد، ونجحت جماهيريًا مثل الهروب وقلب الليل وضد الحكومة.
نجاح الأفلام لم يعتمد بالأساس على موسيقى مودي عكس الأفلام الغنائية بل على قصة الفيلم وقدرات مخرج فذ بحجم «الطيب» ويمكن أن نقول إن نجاح تلك الأفلام نقديًا وجماهيريًا رفع من أسهم مودي كثيرًا ليخطو خطوة أخرى مع المخرج شريف عرفة ونجم جماهيري بحجم عادل إمام.
قلة إمكانيات أم خطأ فني
في بداية حلقة صاحبة السعادة مع مودي الإمام تحدث المايسترو نادر عباسي في البداية عن عدم معرفته بموسيقى مودي الإمام الذي كان يعتقد أنها في الغالب تصلح بالكاد لتعزفها فرقة صغيرة ولا حاجة له لأوركسترا كبير لكي يعزفها، ثم أثنى على موسيقاه وأنها لسوء حظ مودي لم تنفذ لأن الإمكانيات لم تكن متاحة وقتها لتنفيذ ذلك.
لو عدنا لتلك الفترة التي تحدث عنها عباسي سنجد أن سوق الموسيقى التصويرية للأفلام كان تعج بالمؤلفين الموسيقيين مثل: عمر خيرت وعمار الشريعي وحسن أبو السعود وهاني شنودة.
لو نظرنا إلى موسيقى هاني شنودة الذي يمكن اعتبار مودي من نفس خلفيته الموسيقية الغربية سنجد أنه لم يكن يعتمد على نفسه فقط في تنفيذ موسيقاه، بل كان يستعين بعازفين على الأقل في تنفيذ وتريات أفلامه، ولم تكن هناك أزمة إمكانيات مثلما ذكر عباسي بل إن عمر خيرت خريج مدرسة ليه بتي شاه الفرقة الغربية القحة، كان ينفذ موسيقاه بأوركسترا كاملة في نفس الفترة تقريبًا، إذن فالحديث عن أزمة إمكانيات هو مجرد مجاملة لطيفة من عباسي للثناء على موسيقى مودي ليس أكثر.
وهذا يحيلنا إلى جملة ذكرها مودي في نفس الحلقة عندما ذكر أن أجره في فيلم «الأقزام قادمون» كان حوالي 1800 جنيه فقط، في حين أن فاتورة أستوديو تسجيل الموسيقى قاربت على 22 ألف جنيه في مبالغة منه، فلو عدنا إلى زمن الفيلم سنجده لم يزد على الساعة ونصف الساعة بالإضافة إلى أن الموسيقى لم تكن حاضرة في جميع كادرات ومشاهد الفيلم ونفذت بالكامل دون الاعتماد على الآلات حية، والفيلم نفسه يدور في فلك وكالات الإعلانات بموسيقاها الخفيفة يتخلله بعض الأغنيات.
وبسؤال المهندس (علاء الكاشف) أحد كبار مهندسي الصوت في مصر، قال إن سعر ساعة الأستوديو في أواخر الثمانينيات كانت تتراوح ما بين خمسين ومائة جنيهًا تختلف باختلاف إمكانيات الأستوديو التقنية، مما يعني أن الفيلم أخذ أكثر من ثلاثمائة ساعة تسجيل ودمج رغم عدم وجود عازفين أصلًا، وهذا وقت مبالغ فيه جدًا قياسًا على جودة شريط الموسيقى الذي ظهر في الفيلم.
كعب أخيل
كان من أحد معالم التغيير الموسيقي في فترة السبعينيات والثمانينيات هي تقليل عدد أفراد الفرقة الموسيقية صاحب هذا التغيير تطور تكنولوجي هائل، حيث لا حاجة لوجود كل العازفين وقت التسجيل، فبإمكان كل عازف أن يسجل بمفرده، بل أصبح بإمكان مؤلف الموسيقى الاستغناء عن العازفين والاستعاضة عنهم بالأورج أو الكيبورد، حيث توجد معظم أصوات الآلات مبرمجة في ذاكرته.
استفاد مودي من تلك الثورة التكنولوجية وقت فرقة طيبة، وساهم وجود أخيه حسين عازف الجيتارات المتمكن في خلق تنوع موسيقي جيد نوعًا ما، حتى استقل مودي بنفسه وصار يعتمد على عدة أنواع وماركات من الأورجات هي كانت كل رأس ماله الموسيقي.
حكى مودي سر علاقته بتلك الآلات وأنها صارت جزءاً من تكوينه الشخصي والفني وأنه لم يستغنِ عنها حتى مع وجود إصدارات أحدث وأكثر تطورًا منها.
لم يدرك مودي أن تلك الآلات، وإن كانت تسعفه في السابق فإنها وقفت حائلًا بينه وبين تطوير صوت موسيقاه، فظلت بنفس الشكل القديم، ولم يحاول مودي تطوير أجهزته الصوتية حتى يواكب جودة الموسيقى، فظهر الفارق بينه وبين الأجيال الجديدة التي تواكب التطور يومًا بيوم، فمثلاً في فيلم جاءنا البيان التالي يمكن أن نلحظ الفارق الرهيب بين جودة الأصوات الخارجة من أجهزته العتيقة القديمة وأغنية الفيلم التي صنعها موسيقيون آخرون.
يمكن اعتبار أن هذا هو الفخ الذي سقط فيه مودي ولم يدركه، ولم يدرك أن المستمع أصبح يشعر بأن أي موسيقى جديدة له هي مجرد استنساخ لأعمال سابقة له لم تأتِ بجديد، فكانت تلك الأجهزة كعب أخيل ونقطة الضعف الواضحة جدًا التي تسببت في ابتعاده فيلم يعد مطلوبًا بقوة في سوق الموسيقى التصويرية، كما كان الحال عليه في السابق وهو نفس الفخ الذي سقط فيه هاني شنودة الذي لم يتطور هو الآخر ولم يطور موسيقاه بل ظلت متوقفة عند فترة الثمانينيات.