منتصر حمادة: مدين للعائلة أولا وللجابري وطه عبد الرحمن ثانيا بطرق عوالم المعرفة
في البدء، كانت “الصدفة”، وكم يشكر كاتب هذه الكلمات “صدفة” زيارة عائلية ـ وهو في سن طرق المدرسة الابتدائية ـ نحو مدينتي فاس ومكناس [العاصمة العلمية والعاصمة الإسماعيلية] فرضت ضمن “استحقاقاتها”، عدم مُتابعة حلقات المسلسل الكرتوني الشهير الذي كان يحمل عنوان “السندباد”.
الهواجس السياحية للأب والأم، كانت مختلفة تمامًا مع هواجس طفل مولع حتى النخاع بهكذا مسلسلات كرتونية، إلى درجة التسبب في “الضغط” عليهما من أجل تناول مشروب ما في إحدى مقاهي مكناس، في فترة بث المسلسل، ليس من أجل شرب عصير ليمون، وإنما من أجل متابعة جديد مغامرات “السندباد”، وهو ما تعذّر علينا جميعا في نهاية المطاف، فكان أن اهتدت الأم، إلى مَخرج عَمَلي يروم شراء مجلة “المزمار” و”مجلة”، وكانتا من أبرز المجلات العربية [العراقية] الخاصة بالأطفال. (نحن أيضاً، استفدنا كأطفال، من الترويج المحمود الذي انخرطت فيه السياسة الثقافية العراقية على عهد حقبة الرئيس الأسبق صدام حسين).
ومنذ ذلك حين، انتقلت الأحلام، من المواظبة الصارمة على اقتناء جديد هذه المجلات، وغيرها طبعًا، من أسبوعية “ماجد” الإماراتية، شهرية “العربي الصغير” الكويتية، إلى الإفصاح عن حُلم لا زال قائمًا حتى الآن، في مقام الحلم، بإطلاق مكتبة عمومية في مسقط رئاسي، مدينة القنطيرة، [35 كيلو شمال العاصمة الرباط]، بهدف الانخراط في مشروع القراءة للجميع: العامة والخاصة.
مُسلسلات “السندباد” إذا، كانت المنعطف الموضوعي الأول وراء وَلَع مُحرر هذه الكلمات بعالم القراءة والكتاب.
جاء المنعطف الثاني بعد فشل إتمام الدراسة الجامعية بالديار الفرنسية، وتحديداً بمدينة ليون، بكلية الصيدلة، وعالجت الأزمة بشكل ترقيعي من خلال تبني خيار “الخلوة الروحية”، والتفرغ لقراءة أعمال كبار المتصوفة (مُحيي الدين ابن عربي عبر “فتوحاته المكيّة”، أبي الحامد الغزالي، عبد الوهاب الشعراني..)، وقراءة بعض أعمال محمد قطب ومعه الداعية محمد الغزالي، طيلة ثلاث سنوات تقريبا، جعلتني، من فرط التأثر بأعمال محمد قطب، أتعاطف مع تيار “الدعوة والتبليغ” هناك في أحد المساجد بفرنسا، وكنت أحضر بعض جلساتهم الدعوية، طيلة أشهر، قبل اتخاذ قرار العودة للوطن الأم في يناير 1995 “خاوي الوفاض” حسب تقييم “قراءات” الأسرة والأصدقاء والمجتمع، و”خاوي الوفاض” هنا، تعني العودة، بعد ما يقرب خمس سنوات في المهجر الطلابي، دون دبلوم أو زوجة أجنبية أو رصيد بنكي أو سيارة فاخرة وأشياء من هذا القبيل: هذه أحلام شباب الساحة، قبل وبعد أحداث “شارلي إيبدو”، سيّان.
نجوت بما يُشبه أعجوبة من السقوط في فخ الانتماء الإسلامي الحركي، سواء في شقيه الدعوي أو “الجهادي”، والذي لم يكن قويا حينها، وأحسبُ أن النهل من أدبيات أبي حامد الغزالي على الخصوص، وخاصة تحفة “الإحياء”، تقف بشكل كبير وراء إعلان الطلاق النهائي عن الانتماء للعمل الإسلامي الحركي، والذي لم تتجاوز تجربتي معه سنتين، وبالكاد.
ولشدة تأثري برائعة “إحياء علوم الدين”، كنت سبَباً وراء شراء نسخة من هذه الموسوعة لكي تكون ضمن الكتب المتواجدة بأحد مساجد ليون، بمقاطعة “فيلوغبان” بالتحديد.
بعد مرور سنة تقريباً بعد العودة من ليون، اصطدمت بالمنعطف الثاني، وألخصه في علمين بارزين على صعيد الإبداع العربي المعاصر: محمد عابد الجابري وطه عبد الرحمن.
تعرفت على الأول بداية، ليس عبر مشروعه الشهير بـ”نقد العقل العربي”، وإنما عبر سلسلة المقالات التي كان ينشرها في “الاتحاد الاشتراكي” المغربية و”الشرق الأوسط” اللندنية، طيلة شهر رمضان، حتى أنني ـ بحكم أنني أصبحت “كائنا أرشيفيا”، بتعبير بعض الأصدقاء، كنت أحتفظ بجميع تلك الحلقات.
أما الثاني، فجاءت معرفتي به بالصدفة، من خلال مقال سجالي حرره حوله الباحث إبراهيم مشروح في يومية “المنظمة” المغربية، وكان ذلك المقال فاتحة لأن أصبح فيما بعد مولعًا بمتابعة كل ما يصدر عنه من مؤلفات وحوارات (أجريت إحداها) ومحاضرات، بل وصل الاهتمام بهذا الفيلسوف المُجدّد، إلى مرتبة الانخراط في مشاريع بحثية، تراهن على التعريف وتبسيط مشروعه للطلبة والباحثين الشباب.
ولأنني “ابتُليت” [من منظور إيجابي] بإنجاز قراءات في الكتب، وبشكل تطوعي أساسا، ولا زال الأمر كذلك بنسبة كبيرة اليوم، سواء تعلق الأمر بقراءات استطلاعية أو قراءات نقدية، فقد كانت أعمال طه عبد الرحمن بالذات، أكثر الأعمال التي اشتغلت على التعريف بها، ويليها من حيث المتابعة، أستاذي عالم المستقبليات، الفقيد المهدي المنجرة، والذي على غرار طه عبد الرحمن، كانت معرفتي به شخصية وعلمية في آن، سواء من خلال المرور على مكتبه بأحد مراكز الدراسات في الرباط، أو في مقر إقامته بحي السويسي.
بعد طه عبد الرحمن والمهدي المنجرة، نجد على الخصوص أستاذي، المفكر الموسوعي عبد الوهابي المسيري والمفكر الأمريكي وعالم اللسانيات الأشهر نعوم تشومسكي.
كنت ألتقي بالأول، رحمه الله، كلما قَدِمَ للمغرب، وكان في كل مرة يجعلنا نخجل من أنفسنا من فرط تواضعه وأخلاقه الراقية، وهي أخلاق العلماء الربانيين في الواقع.
أما الثاني، فقد تشرفت بمراسلته في عدة مناسبات، حدث ذلك قبل اكتشاف عوامل شبكة الإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعي، ومن فرط تواضعه، كان يرد على مُجمل مراسلاتي، وكانت جميعها مُرفقة ببعض أعماله، وتلك الإصدارات التي أتوفر عليها لنعوم تشوسكي، إما بالعربية، اشتريتها من المكتبات العربية، إما بالإنجليزية، توصلت بها منه شخصياً.
بدأت أولى إرهاصات الكتابة قبل حصولي على شهادة الباكالوريا (شعبة علوم تجريبية، سنة 1990)، عبر النشر في مرحلة الطفولة في مجلات الأطفال (مجلة “ماجد” تحديدا)، وبعهدها في مجلة “هنا لندن”، وملحق الشباب بيومية “لوبينيون” الفرنسية، والمحلق الأسبوعي ليومية “لوماتان” الفرنسية، وهما يوميتان مغربيتان.
بعد العودة من الديار الفرنسية، وانقطاع عن الكتابة طيلة أربع سنوات ونيف، عادت إرهاصات الكتابة عبر النشر باسم مستعار في صحيفة “الأسبوع الصحفي”، والنشر لاحقاً بإسمي الحقيقي في يومية “القدس العربي” منذ 1997 في خانة القراء أولا، قبل طرق باب خانة مُحرري مقالات رأي، وفي غيرها من المنابر طبعا.
مُجمل هذه المقالات (أغلبها كان مقالات رأي أو قراءات في كتاب)، كانت مقدمة وراء الاشتغال في عالم الصحافة، وبالتحديد الصحافة الثقافية وما قد نصطلح عليه تجاوزًا بـ”الصحافة الدينية”، بين عام 1999 وعام 2004، قبل الانتقال لاحقًا نحو طرق باب العمل البحثي، منذ العام 2004، وتم تتويج هذا التحدي الجديد بإصدار بعض الأعمال التي تشتغل أساساً على ملف الحقل الديني (من قبيل التطرق للظاهرة الإسلامية الحركية، السياسية و”الجهادية” على الخصوص، الطرق الصوفية)، قبل الانتقال في مرحلة ثانية لخوض الكتابة في الحقل الفكري، ونحن هنا بالكاد في المحطة الأولى، وراهنت خصوصًا على نشر دراسات تُعنى بالاشتغال على بعض المشاريع الفكرية (طه عبد الرحمن، إدوارد سعيد، عبد الوهاب المسيري..)، على أن نطرق لاحقًا، بحول الله تعالى، باب نشر كُتب في هذا السياق.
بين نهاية 2005 ومطلع 2007، اشتغلت في مجلة “مدارك” الثقافية، رفقة الزميل الباحث جواد الشقوري، وكانت مجلة فريدة من نوعها، راهنت على الخوض في ملفات الحقل الديني والثقافي في مجالنا التداولي المغاربي، ولكن لظروف قاهرة، لم يُكتب للمجلة الاستمرار.
موازاة مع هذه المستجدات، أطلقنا أيضًا، رفقة بعض الأصدقاء الباحثين، مركزًا للدراسات والأبحاث، باسم مركز “المغرب الأقصى للدراسات والأبحاث”، ومقره الرباط، وتوّج هذا المركز أول أعماله بإصدار تقرير حول الحالة الدينية، أو حالة الدين والتديّن بالتحديد، في المجال التداولي المغربي. وقبل هذه التجربة، طرقنا باب العمل في مؤسسة مؤمنون للدراسات والأبحاث (بين مطلع 2013 ومطلع 2015)، قبل الانتقال للعمل لاحقاً في مؤسسة مغربية رسمية، وهي مجلس الجالية المغربية بالخارج، حيث الاشتغال البحثي على واقع الإسلام والمسلمين في القارة الأوروبية على الخصوص، وهو واقع يزادد تعقيدًا كما هو جلّي اليوم، من خلال تأمل لائحة من التطورات المؤرقة التي مرت منها القارة العجوز خلال السنين الأخيرة.
بكلمة، “أنا” مدين أولاً للأب والأم بطرق باب القراءة، وثانياً للزوجة الكريمة، الأستاذة سهيلة الريكي التي شجعتني دوماً على خوض هذا المضمار، ليس بالضرورة لأنها كانت صحافية ومديرة مجلية نسائية [مجلة “لكل النساء” الشهرية]، ولكن لإيمانها بحتمية المساهمة في نُصرة المشاريع العلمية/ المعرفية من باب التصدي للجهالات السائدة في مجالنا التداولي، بصرف النظر عن مرجعيتها، ومدين ثالثاً لصاحب “نقد العقل العربي” ولفيلسوف الأخلاق، وصاحب مشروع “فقه الفلسفة”، بتفادي الانصياع لمختزلي الإسلام في حركات وأحزاب سياسية من جهة، ومدين لهم من جهة ثانية، بالانتقال “المفاجئ” من تخصصي الدراسي العلمي، نحو فضاءات الملاحق الفكرية والثقافية، وفوقها قلاقل لائحة من المشاريع الفكرية، وآخر هذه المشاريع، إطلاق مجلة فكرية شهرية، تحت اسم “أفكار” [تصدر عن مجموعة “آخر ساعة” المغربية]، وصدر عددها الأول في غضون شهر كانون الثاني/ ديسمبر الماضي وكان ملف العدد مُخصّصاً لظاهرة “العنف باسم الدين”، أما العدد الثاني فصدر في غضون الشهر الجاري، متضمناً ملفاً حول “الحداثة والأخلاق”، والمجلة تتنصر لثلاث مُحدّدات دون سواها:
أ ـ مُحدّد الانتصار لثقافة الاعتراف، بدليل تضمنها ركناً بهذا الاسم؛
ب ـ مُحدّد الانتصار للكتاب، من منطلق أن الكتاب اليوم يتعرض لهجوم رهيب بسبب فورة الثورة الرقمية من جهة، وسيادة ثقافة الاستسهال “العرب ظاهرة صوتية”.. إلخ؛
ج ـ وأخيراً، مُحدّد الانتصار للمقاربات المعرفية في تناول الظواهر والقضايا والملفات، ضداً في المقاربات الفكرانية [الإيديولوجية] السائدة في مجالنا التداولي الإسلامي برمته، والتي لا زالت مُصّرة على اختزال الإنسان والتاريخ والكون. [“ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين”. الآية]
ومع ذلك، يبقى الأمل/ الُحُلْم معلقاً، وهو حُلْم مشروع: إطلاق مكتبة عمومية، من باب الانتصار للكتاب والفكر والعلوم التي تنفع الناس.
الأيام بيننا، ومن حسن حظ الإنسانية أنه وحده الله عز وجل، الأعلم بالنوايا.
حمدًا لله أن الأمر كذلك.