منصف المرزوقي بين مطرقة لسانه وسندان الإعلام التونسي
قيل قديما «لسانك صوانك… إذا صنته صانك وإذا خنته خانك»، وهو مثل بقي متداولا منذ القدم في تونس لما فيه من دلالة حول قدرة الإنسان على تفادي الوقوع في الإحراجات والتأويلات عن طريق حسن تصرفه ودرايته بكل كلمة ينطق بها لكي لا يترك الفرصة لأي أحد أن يجد ما يعيبه عليه، وحتى لا يكون ضحية لسانه، وهو من الأمثلة التي تساعد السياسيين كثيرا في عملهم، إذ غالبا ما ينجح السياسيون في أوطاننا العربية في الوصول إلى الكراسي عبر معسول الكلام والوعود التي تنجح في خطف قلوب مناصريهم حتى لو كانت كاذبة، لكن يبدو أن الرئيس التونسي السابق ومؤسس حراك شعب المواطنين المنصف المرزوقي لم يدرك يوما قيمة هذا المثل، رغم علمه مسبقا بما ينتظره منه خصومه من زلات قد تسيء له حتى لو كانت عن غير قصد.
ومرة أخرى مثل كل مرة يقع المنصف المرزوقي في المحظور بتصريحاته المثيرة، التي حتى لو كانت مبنية على الحقيقة فإنها تدل على أن المرزوقي طالما لبس ثوب الحقوقي متناسيا أن ذلك كان من الماضي، وأنه اختار أن يكون سياسيا من اللحظة التي أسس فيها حزب المؤتمر من أجل الجمهورية، وهي الصفة التي أوصلته إلى أن يكون أول رئيس منتخب للجمهورية التونسية بعد الثورة، فكثيرا ما أطلق منصف المرزوقي تصريحات لم يراع تداعياتها السياسية، وآخرها كان تصريحه في حوار على قناة الجزيرة القطرية قال فيه بأنه عاد إلى تونس بعد الثورة وبعد سنوات من المنفى في فرنسا ليكتشف أن الشعب التونسي قد أصبح يعمل بأساليب المحسوبية والرشوة والكذب والنفاق، مشيرا إلى أن القضية ليست متعلقة بجينات التونسي، لأنّ التونسيين الذين كانوا في فرنسا، والذين شاهدهم طيلة 15 سنة من المنفى كانوا يمارسون عملا طيبا ولهم أخلاق ويتصرفون مثلما يتصرف المجتمع الفرنسي، وهو ما أثار جدلا كبيرا حول هذه التصريحات، خصوصا مع مسارعة عديد المواقع المشبوهة إلى التلاعب بهذه التصريحات بها بحسب سوء نواياهم وحذف المقطع الذي قال فيه بأن هذه الصفات السيئة ليست من جينات التونسيين، ليتغير نصف معناها ويصبح التونسيون بكل هذه الصفات السيئة بالفطرة.
ورغم الدور الواضح والتضخيم الذي تعمد العديدون القيام به لهذا التصريح والنية المبيتة، والتي كانت ضرب المنصف المرزوقي وتأليب الشارع التونسي ضده بتهمة تشويه سمعة التونسيين، والتي وصلت إلى حد القيام بحملة ضده دعت إلى سحب الجنسية منه وتجمع العشرات أمام بيته بهدف طرده منه، فإن المنصف المرزوقي أيضا يتحمل جزءا من المسئولية في هذه الحملة بسبب هذا التصريح الذي لم يكن مدروسا، حيث إنه ورغم تحميله مسئولية هذا السقوط الأخلاقي للنظام السابق، والذي حاول ضرب قيم الشعب التونسي وزرع عديد القيم السيئة فيه فإن وصف المجتمع التونسي بكل هذه الصفات دون أن يدرك أنه بهذا الكلام قد عمم ذلك على كل التونسيين وأخطأ خطأ فادحا، خصوصا أنه اعترفبالنهاية أنه ورغم أن النظام السابق هو من زرع هذه القيم في الشعب التونسي فإنه بالنهاية تحول إلى «شعب كاذب ومنافق» بحسب كلامه، وهو نفس الشعب الذي كان في يوم من الأيام رئيسه، وفي ذلك فشل كبير في مخاطبة شعبه، خاصة لسياسي يريد أن يعود للساحة من جديد.
من الأكيد أن هذه الصفات التي تحدث عنها المنصف المرزوقي موجودة لدى شريحة كبيرة من الشعب التونسي مثل غيره من الشعوب، لكن الغريب في الحكاية أن يتكلم عن شعب كامل ويقارنه بنفس الشعب الذي هاجر وعاش في فرنسا، وأن يقول بأن التونسيين بفرنسا قد كانوا نموذجا لـ «مكارم الأخلاق» حالهم كحال بقية المجتمع الفرنسي، فلا هو قد تعرف شخصيا على كل التونسيات والتونسيين، ولا كذلك على كل «التوانسة» الذين كانوا آنذاك مقيمين بفرنسا، ثم إنه كسياسي كان عليه أن يتحدث في مشاكل التونسيين الأولى بإيجاد الحلول لها مثل الفقر والبطالة والتهميش وتقديم ما يراه من حلول تحارب تفاقم هذه المشاكل، خاصة أنه يدرك جيدا أن الشعب التونسي طالما انتظر من السياسيين أفعالا لمجابهة المشاكل التي تعترضهم قبل الخوض في أخلاقهم.
ولم تكن هذه الزلة الأولى للرئيس السابق الذي كان قد أثار غضب الشارع التونسي سابقا بمقال نشرته له صحيفة «لوموند الفرنسية»، قال فيه إنه «ومن حسن الحظ أن التونسيين لم يفجروا مركز التجارة العالمي في أحداث 11 سبتمبر» ليتدارك بعد ذلك ويقول أن تلك الجملة سقطت سهوا في المقال، وأنه أرسل تصويبا لم تأخذه الصحيفة الفرنسية بعين الاعتبار، فكيف للرئيس السابق أن يقنع التونسيين بمثل هذه الأعذار، وهل لا يراجع ما يكتبه من مقالات قبل إرسالها أو حتى لا يملك مستشارا للقيام بذلك.
صحيح أن أخطاء المرزوقي كثيرة وأنه دائما ما ينسى أن يتكلم كسياسي، لكن ذلك لا يبرر حجم الهجمة التي تقودها بعض اللوبيات المسنودة بالدولة ضده، وهي نفس الأطراف التي حاربته طيلة فترة رئاسته، والتي استغلت ماكينة إعلامية ضخمة لمهاجمته وفبركة القصص ضده فقط من أجل إسقاطه، والتي تحول بفضلها الإعلام التونسي من فضاء لجميع السياسيين إلى فضاء لمحاربة سياسي واحد ومحاولة تدميره، وهو ما استوعبه جميع التونسيين منذ فترة طويلة دافعوا خلالها عن المنصف المرزوقي ضد هذا الإعلام المأجور، لكنه في كل مرة يخطئ فيها يجعل الباب مفتوحا أمام هذا الإعلام لتشويهه ومحاولة تغيير نظرة التونسيين له.