من «أحادية السياسة» إلى «تعددية الفشل»
يناقش هذا المقال قضية الأحادية الفكرية والسياسية التي تفرض نفسها على الواقع السياسي المصري، برغم ما يحاول البعض إضفاءه على النظام من سمات صورية أو ملامح شكلية تميز الديموقراطية، وعلى رأسها التعددية السياسية والحزبية. حيث ينقسم إلى قسمين: يبدأ أولا باستعراض أبرز المسوغات والحجج والأسانيد التبريرية التي اعتادت الأنظمة على تقديمها لتسويق الأحادية، كخيار سياسي، والدفاع عن استبقائها كواقع قائم لا يستدعي التغيير المُلحّ، طالما يحقق أهدافا كبرى ويعد بإنجاز غايات وطنية وتنموية مبتغاة، ثم يرصد ثانيا كشف حساب لحصاد تلك التجربة الأحادية، ومآلاتها، يسلط فيه الضوء على أوجه الفشل والإخفاق المتعددة التي منيت بها الأنظمة والمجتمعات في شتى المجالات، وعلى كافة المستويات. الحزب السياسي الواحد أو الجماعة السياسية أو النخبة أو أي فريق عمل أو مؤسسة لديها توجه سياسي معين تحكم البلاد منفردة هي شكل من أشكال الاستبداد، الذي يتحدى بديهيات ومبادئ مستقرة في علم السياسة وفي الأنظمة المتقدمة وفي التراث الإنساني الحضاري المشترك. كمبدأ توزيع السلطات والفصل بينها، والذي يتم لحكمة وهي كفالة الرقابة والتوازن المتبادل بينها، حتى لا تنفرد سلطة واحدة بالقرار وتنفيذه والحكم بموجبه، وإلا فالسلطة المطلقة تساوي مفسدة مطلقة. ومع ذلك، فقد قبلت بعض الدول والشعوب في فترات طويلة من تاريخها بنظام الحزب الواحد بنمطيه الشمولي أو السلطوي، الذي يأخذ بالتعددية المحدودة والمقيدة، حيث حزب واحد كبير بين أحزاب أخرى، يهيمن ويسيطر فعليا، ولا يسمح للأحزاب الأخرى بمنافسته على موقعه في السلطة، أي أنه يمنع التداول السلمي على الحكم. ومن ثم، فهو في أخف الصور وأكثرها انفتاحا يسمح للأحزاب الأخرى بالوجود، ويمنحها أحقية التأسيس القانوني الرسمي، لكنه ويفرض عليها قيودا عديدة في ممارسة نشاطها، تجعل وجودها مجرد أشكال صورية مزيفة، لا دور حقيقي لها، في نقد النظام أو تقويم سياساته، ويحتكر مواقع ومراكز السلطة السياسية لنفسه، أو يحتكر الحياة السياسية برمتها، في أقصاها وأكثرها انغلاقا. هذه الدول والمجتمعات ما لبثت بعد أن أتاحت الفرصة لذلك النظام أن يثبت وجوده على مدار عقود متتالية اكتشفت أن الحصاد هزيل، وأن أيًا من تلك المبررات والأسباب التي قبلت به على أساسها لم تعد قائمة، أنظر معي إلى هذه المبررات.
أولا: الحجج والمسوغات في تبرير “الأحادية”: وعود كاذبة وصفقة خاسرة
- تحقيق الوحدة الوطنية، حيث يتذرع الحزب أو الحاكم أو الجهاز المحتكر للسلطة بأن منع التعددية هو ضمان ضد الانقسام والحيولة دون حدوث عداوات وتنافس شرس بين الأحزاب.
- حماية الأمن القومي من التدخل الخارجي أو النفوذ الأجنبي، خاصة لو أن هناك عدو متربص على الحدود.
- صهر التنوعات والجماعات المتعددة في بوتقة واحدة ودمج المختلفين في كيان واحد يحقق الانسجام والتكامل والاندماج القومي.
- إتاحة الفرص للأحزاب المتعددة يعني سيطرة أصحاب المصالح الطبقية المختلفة عليها مما يزيد من احتمالات الصراع الطبقي المهدد لكيان المجتمع ونسيجه الوطني. ناهيك عن أن الطبقات لم تتبلور بعدُ في كثير من المجتمعات النامية الخارجة للتو من تحت نير المستعمر، ولا توجد بها طبقة وسطى قوية بمقدورها أن تلعب دور رمانة الميزان في المجتمع، وتحول دون اختلاله أو اشتعال الصراع الطبقي فيه، أو سيطرة الأقوياء من الطبقات العليا، واستغلالهم للفقراء والضعفاء وتفشي ألوان الفساد.
- الأولوية في مرحلة مبكرة من التنمية الاقتصادية لسياسات تقوم على تعبئة وحشد الموارد بصورة مركزية والمجتمع في حاجة للتضامن والتماسك خلف تلك الجهود التنموية لكي تؤتي ثمارها. تلك كانت الوعود؛ فهل تحقق أي منها؟!
ثانيا: الحصاد المر، تعددية الإخفاقات وتكرار الهزائم والانتكاسات أي من الأهداف المذكورة أعلاه والتي شكلت الثمن الذي ارتضاه الناس (ربما على مضض أو مكرهين) في صيغة صفقة تبادلية -أو مقايضة- في مرحلة ما، حيث تم فيها التنازل عن حقوق وحريات عديدة، مرتبطة بالديموقراطية، والحكم الراشد، لقاء ترجيح غايات وأولويات بعينها في المقابل. غير أن أيًا منها لم يتحقق على يد الأنظمة التي تولت مقاليد السلطة في بلادنا، بل العكس على طول الخط هو الذي حدث. وقد زاد على كل الهزائم والإخفاقات المتكررة التي منيت بها تلك الأنظمة “الفاشلة” أن مرور فترة طويلة سادها نظام الحزب الواحد، أو أي كيان تنظيمي أو مؤسسي أحادي، جلب معه كثيرا من الإخفاقات ومنها:
- فَرضًُ نوعٍ من الوحدة الشكلية المزيفة على واقع اجتماعي يزخر بالتعدد والتنوع، فكان بمثابة قمع للحريات وافتقد الصفة التمثيلية، وشعرت مختلف الجماعات في ظله بالاضطهاد والتمييز ضدها، وبالإقصاء والاستبعاد، فضلا عن سياساته التي تقوم على تعميق الفقر والتهميش.
- غرس وتكريس ثقافة الأحادية التي جعلت العقل الجماعي العام لا يقبل الرأي الآخر ولا يحترم المختلفين وينظر لهم بريبة ولا يجيد إدارة الاختلاف والخروج من دوائره الضيقة إلى دوائر الائتلاف والتوافق الرحبة والتي تسع الجميع.
- فشل كافة محاولات وخبرات الحوار الوطني الجامع كآلية للتفاوض والتفاهم تكفل لكافة الأطراف والقوى المشاركة فرصة الخروج بحد أدنى من المكاسب، والمطالب، وألا تبدو دوما الخلافات السياسية والفكرية بابا مفتوحا على المجهول وفتيلا مشعلا للصراع الحتمي والمعادلة الصفرية.
- خسر النظام قنوات شرعية ومؤسسية كان في إمكانها استيعاب الشباب وتجديد دماء النخب المتكلسة التي أصابتها أمراض الشيخوخة والانغلاق وإعادة التدوير بالجمود والترهل وانسداد وتصلب الشرايين، والعجز، بحيث يضمن المجتمع أن هناك صفا ثانيا وثالثا، وأنه في يوم ما قد يأتي لمناصب الحكم شاب بفكر جديد وإبداع ذكي مثل جاستين ترودو في كندا.
- أداء الوظائف المنوطة بالأحزاب السياسية في أي دولة ديموقراطية كتجميع المصالح، وبلورتها وصياغتها في برامج، واضحة معلنة بشفافية، حتى لا يضطر أصحاب المصالح لوسائل ملتوية فاسدة ومفسدة لضمان حماية مصالحهم والدفاع عنها، فرجال الأعمال مثلا لم يولدوا فاسدين ولكن المنظومة التي يعملون من خلالها هي التي تفسدهم، وتلقن الشرفاء منهم في بدايات حياتهم دروسا قاسية، فإما تلعب بقواعد السوق أو تطرد منها بلا رحمة.
- وظائف أخرى خطيرة اتضح أن الحزب السياسي الواحد، والمؤسسات الأحادية عاجزة عن القيام بها بالحد الأدنى من الكفاءة والفعالية، كالتنشئة السياسية، والتجنيد السياسي، وتفريخ الكوادر المؤهلة لممارسة العملية الديموقراطية والحفاظ على استدامتها في المستقبل، فلو كانت نجحت ما قامت ضدها ثورات، تطالب بإسقاطها، ووقف الشباب من الجيل الجديد في مقدمة صفوفها الأولى.
- الحزب الواحد كان دوما على الصعيد الاقتصادي لديه رؤية واحدة، وعندما باءت بالفشل، لجأ النظام إلى الاقتراض والاستدانة ثم الاستدانة (والتسول والاستجداء). وهكذا، حتى تراكمت عليه الديون، وأصبح أسيرا لا يستطيع الفكاك من شروط الجهات والدول المانحة، فأين حماية الأمن القومي من التدخل الخارجي؟ وأين الحفاظ على الوطن من النفوذ الأجنبي؟ زِد على ذلك، أنه في الوقت الذي يتهم فيه معارضيه بتلقي الأموال من جهات خارجية، وتنفيذ أجندات أجنبية، تجده هو أول من يفعل ذلك بنفسه، ويبرم الاتفاقيات، ويقطع على نفسه التعهدات، ويورط البلاد في أعباء والتزامات لا قبل لها بها، ويورث الأجيال القادمة تركة ثقيلة، حيث سيقع على عاتقها مهمة سداد فاتورة الديون المتراكمة.
- النظام الذي يتباهى عادة بشهادات المؤسسات الاقتصادية والمالية الدولية لصالحه، والتي قد تنشر تقارير وأرقام وإحصاءات ومؤشرات تقول في وقت ما أن الاقتصاد المصري لديه فرص استثمارية وأنه يسلك الطريق الصحيح، ويقطع شوطا في النمو، ويسترد عافيته، وآفاقه المستقبلية جيدة، ومرشحة للتنامي والنجاح، هو نفس النظام الذي يتشنج بشدة ويبدي غضبا عصبيا مبالغا فيه إذا ما نشرت المنظمات الدولية، كالعفو الدولية وغيرها، تقارير ترصد ما يرتكبه من انتهاكات أو اعتداءات على حقوق الإنسان، أو تقييد وقمع للحريات، أو ملاحقة وتضييق وخنق للمعارضين، رغم أن كليهما، الاقتصاد والسياسة، اتفاقيات ومعاهدات أبرمها النظام والتزم بها بإرادته، وأصبح عليه أن يتقبل دور المؤسسات الدولية في تقويم أدائه وانتقاده والإشارة لأوجه تقصيره في ضوء ممارساته وسياساته ذات الصلة، بما يكشف عن ازدواجية معاييره. وأنه لا مانع لديه لدور خارجي يصل إلى حد السماح لفرق التحقيق الأجنبية بالتفتيش في سيناء والتحرك بحرية، أو تكليف شركة بريطانية بالقيام بتأمين المطارات. فهل هذه هي سياسات الإباء والشمم والممانعة الوطنية؟ أم الانبطاح والإذعان أمام إملاءات وابتزازات الأجنبي؟
- وتزداد خطورة الأمر، في أوقات الأزمات التي تحتاج لكفاءة ومهارة فائقة في إدارتها وحلها، على نحو لا يتوقف عند معالجة الأزمة، ولكن أيضا استباقها ومنع تكرارها، فعلى سبيل المثال وليس الحصر، الأداء الدبلوماسي غير المنضبط وغير الكفء والذي يداري فشله الواضح بأفعال وتصرفات تتنافى مع الأعراف والتقاليد الدبلوماسية العريقة التي تنم عن دولة لها مكانتها وخبرتها التاريخية الممتدة في العمل والحركة في الدوائر الدبلوماسية والمحافل الدولية، فبدأنا نرى تصرفا فرديا عصبيا كإلقاء ميكروفون تارة، وآخر جماعيا كفرض السرية والكتمان على مسار المفاوضات حول واحدة من أهم القضايا والملفات المصيرية وهي قضية سد النهضة الأثيوبي تارة، ناهيك عن نتائجها التي قد تكون كارثية، إذ يخشى من تداعياته وعواقبه الوخيمة على قطع شريان الحياة الذي جعل من مصر منذ آلاف السنين هبة النيل، فقد جاءت أزمة بناء أثيوبيا لهذا السد بمثابة أزمة كاشفة عما آلت إليه الأمور في ظل نظام يتصور كثيرٌ من مسئوليه أنفسَهُم فوق النقد أو المحاسبة.
- ولا جدال أن التعددية الحزبية هي مفتاح للخروج من كثير من تلك الممارسات، فهي تتيح للدولة والمجتمع ونظام الحكم بدائل متعددة وخيارات واسعة، من شأنها أن ترفع من كفاءة أداء النظام، وتزيد من قدرته على توظيف ما لديه من موارد وإمكانيات بشرية وعقلية ومادية، لكنه للأسف يصادرها، ويضيع على البلاد فرصا كثيرة ويحول مصادر وركائز ومكامن قوتها إلى مقدرات مهدرة، لصالح من؟
- دمج الدولة بالحزب أو المؤسسة لدرجة التماهي، وفي مجتمعات تعودت على شخصنة الأمور أصبح شخص الرئيس شبه إله معبود؛ منزه عن الخطأ. واختلطت خطوط المسئولية والاختصاصات والصلاحيات؛ فلم تعد تعرف من مسؤول عن ماذا؟ وكيف تحاسب المخطئ؟ وبات انتقاد الحاكم أو معارضته عملا يعرض صاحبه للاتهام بالخروج عن الاجماع، وبتهديد مصالح الوطن، علاوة على التشكيك في ولائه للدولة، أي تخوينه والطعن في وطنيته، وربما استجد عليها مؤخرا تجريمه ووصمه بالإرهاب أو التحريض على الإرهاب، وهي تهمة باتت تثير الغثيان من كثرة ما تلوكها ألسنة معروف عنها إما الجهل أو الفساد، ويرمى بها أي بريء أو شريف للتخلص منه إما بالقتل، أو بالسجن.
وهكذا، فالأحادية لو كانت حققت هدفا واحدا فقط، مما وعدت به، لربما حق لها أن تمن علينا بالإنجازات والانتصارات. وصحيح أنها آلت في محصلتها النهائية إلى لون من ألوان التعددية، لكنها للأسف تعددية في الهزائم والانتكاسات.