رصد الموجات الثقالية، هل سيغير مستقبل علم الفلك؟
محتوى مترجم | ||
المصدر | ||
التاريخ | ||
الكاتب |
منذ قرن مضى، عندما تنبأ ألبيرت أينشتاين لأول مرة بوجود الموجات الثقالية – وهي تموجات دقيقة للغاية في الفضاء تنتج بفعل اندفاع الأجسام الضخمة في أنحاء الفضاء – تنبأ أيضًا بعدم رؤيتها أبدًا. ورغم أن أصداء السمفونيات السماوية البعيدة يجب أن تحدث تموجات عبر نسيج الواقع، ظن أينشتاين أن التجانس الأثيري لتلك السمفونيات لن يسمع أبدًا.
في يوم الخميس الماضي، أثبت العلماء بواسطة مرصد الأمواج الثقالية «ليجو» صحة وخطأ فرضية أينشتاين، حيث أعلنوا اكتشافهم لأول نوتة في السمفونية الكونية التي تنبأ بألا يسمعها أحد أبدًا. تحمل السمفونية صوت تغريد مبقبق، والذي تصدر عن الموجات الثقالية الناتجة عن الولادة العنيفة لثقب أسود، نتج عن اندماج ثقبين آخرين أصغر حجمًا. وانبعثت تلك الموجات في مجرة بعيدة بينما كانت الحياة متعددة الخلايا لا تزال تزدهر على سطح الكرة الأرضية، وسافرت بسرعة الضوء لمدة أكثر من مليار عام لتندفع أخيرًا صوب كوكبنا في سبتمبر الماضي، مستغرقة سبعة ميلي ثانية لتجتاز المسافة بين محطتي الاستماع الخاصتين بليجو في لويزيانا، وولاية واشنطن الأمريكيتين.
الآن، على خلاف أينشتاين منذ قرن، الذي تخيل بالفعل مدى استحالة رؤية الموجات الثقالية، أصبح لدى العلماء الذين يطاردون التموجات الزمكانية، بعيدة المنال، خطط كبيرة لإنشاء المزيد من المراصد ومحطات المراقبة في المستقبل القريب والبعيد.
«تخيل عدم جمع الضوء أبدًا في صورة»، حسبما علقت جنا ليفين، عالمة الفيزياء الفلكية بكلية برنارد التابعة لجامعة كولومبيا ومؤلفة كتاب ينتظر إصداره بشأن «ليجو». وتتابع: «أول ما يريد البشر فعله هو ألتقاط الحدث، وهو ما فعله «ليجو» بالفعل».
يضيف علماء الفلك أنه قريبًا سيسجل «ليجو» وسيكشف عن جوانب أكبر بكثير من صرخات ميلاد الثقوب السوداء حديثة التكون. بالفعل يبحث «ليجو» والمراصد الأخرى العاملة عن تموجات ناتجة عن الموت العنيف للنجوم العملاقة وعن اصطدام الأجرام السماوية التي تشبه حجم مدينة كاملة، والمتكونة من مادة متحللة تسمى «النجوم النيوترونية». يمكن للمراصد الحالية أن تساعد أيضًا في الكشف عما يجعل النجوم النيترونية الآخذة في الدوران، التي يطلق عليها النجوم النابضة، تدق، كذلك في رسم خرائط لدواخلها المتعرضة للهزات النجمية وأي «جبال» يصل ارتفاعها إلى سنتيمترات «والتي قد يساوي وزنها تقريبًا كتلة كوكب بسبب الكثافة الشديدة لمادة نيترون النجوم» التي تبرز على سطح النجوم.
بعد عقود من الآن، ستتمكن أجيال جديدة من التلسكوبات من رصد اندماج الثقوب السوداء الهائلة الحجم وستلمح النجوم النابضة أثناء حركتها الحلزونية لتصل إلى هوّاتها، أو من أن ترى صورًا خاطفة لـ«السلاسل الكونية»، العيوب البيمجرية التي قد يصل سمكها إلى سمك البروتون في الزمكان، الذي ربما تعرض للإطالة في أنحاء الكون في مرحلة تكونه أثناء حدوث طفرة نمو متضخمة.
النجوم النابضة التي تدور بسرعة، المتتبعة والتي تقاس توقيتاتها باستخدام التلسكوبات اللاسلكية، يمكن لها أن تتحول إلى أدوات للكشف تدور بطول المجرة، والتي تكون حساسة لتموجات الزمكان بطول موجي يقاس بالسنوات الضوئية. وفي النهاية، قد تسجل مراصد الموجات الثقالية الأوسع طموحًا التي يستطيع علماء الفضاء تخيلها حاليًا، في يومٍ من الأيام، همس الموجات المنبعثة عن أول أجزاء التريليون من الثانية التي تلت الانفجار الكبير. ومن ثم، يستطيع علماء الكونيات أن يروا – ويستمعوا – بينما تتبلور أول بذور الهيكل الكوني من الضباب الكمي المهتاج.
ولكن يظل المجهول هو أكثر ما يثير فضول العلماء. «هل هناك أشياء أخرى في الفضاء لم تلتقطها تليسكوباتنا بعد؟» حسبما تتسائل ليفين. وتتابع: «تمثل رؤية تصادمات الثقوب السوداء اكتشافًا ذهبيًا، ولكننا توقعناه. تُرى ماذا يحدث غير ذلك في الفضاء؟ أريد أن أرى شيئًا غير متوقع».
«لن تبقى السماوات على حالها»، وفق سزابولكس ماركا، عالم الفيزياء والعضو بفريق «ليجو» بجامعة كولومبيا. «تخيل أنك كنت تتمتع بجميع حواسك فيما عدا حاسة السمع، ثم تمكنت في أحد الأيام من السمع. بالتأكيد سيمثل ذلك يومًا عظيمًا. وهو ما حدث للبشرية تحديدًا، فمن اليوم، يمكننا الاستماع إلى الكون. ويمكننا أن نرى ما هو غير منظور».
الـ«لاشئ» الأعلى تكلفة إطلاقًا
بعد اكتشاف أول إشاراته، يستعد «ليجو» الآن لتحويل تلك الإشارات إلى أدوات روتينية الاستخدام في علم الفضاء. حيث تمرر محطتي «ليجو» ضوء الليزر ذهابًا وإيابًا بين مرايات بطول الأذرع المتعامدة بطول 4 كيلومترات، الموضوعة على شكل حرف L. الموجة القادمة ستلوي تلك الأذرع قليلًا حتى يصبح أحدها أطول أو أقصر من الآخر بمقدار أجزاء من الألف في دائرة نصف قطرها بروتون واحد، ما يغير زمن رحلة الضوء ويسجل الاكتشاف. قد يؤدي أي قدر من الضوضاء إلى إحباط القياس الدقيق – حيث يستطيع «ليجو» أيضًا أن يسمع موجات المحيط أثناء ارتطامها بالسواحل البعيدة، الطائرات المحلقة أعلاه، وحتى الهمهمة الزلزالية الصادرة عن غسالات الملابس.
يقول إيمري بارتوس، عضو الفريق والمحاضر بجامعة كولومبيا: «نحاول اكتشاف شئ أصغر من الذرات التي صنع منها مرصدنا». ويتابع: «حتى أكون صريحًا، لا يبدو الأمر قابلًا للتصديق». وتعود قدرة «ليجو» على الاستماع إلى الموجات الثقالية رغم جميع الأصوات المشوشة إلى حدوث مجموعة من تطويرات «الليجو المتقدم» مؤخرًا، التي مكنته من حجب الضوضاء، وستجعله قريبًا أكثر حساسية بعشرات المرات بالمقارنة بأبحاث جيله الأول غير المثمرة، الذي استمرت بين عامي 2002 و2010.
وبشكل عام، ترفع التطويرات التكلفة الإجمالية للتجارب إلى أكثر من مليار دولار، تتحمل معظمها المؤسسة العلمية الوطنية. يعد الكمال المُحكم شديد الخواء لليجو، حسبما يتهكم ماركا، «الـ«لاشئ» الأعلى تكلفة إطلاقًا».
بينما يبلغ الليجو المتقدم درجته القصوى من الحساسية، ويستعد لبناء محطة استماع ثالثة في الهند، سيعمل ترادفيًا مع مقياس آخر للتداخل الليزري في أوروبا، مثل «جيو600»، و«فيرجو أدفانسد»، لجعل رصد الموجات الثقالية أمرًا أكثر اعتيادًا. وتقول رنا أدهيكاري، العضوة بفريق «ليجو»: «لقد اكتشفنا آلة تعطي للبشرية حاسة جديدة، غير الخمسة المعتادين»، وتتابع رنا، وهي عالمة فيزياء بمعهد كاليفورنيا للتكنولوجيا وساعدت الفريق في تلك التطويرات الأخيرة، «سنحتاج لإدراك ما يعنيه الشعور ببقبقة الفضاء باستخدام تلك المؤشرات الثقالية الجديدة».
مع الاستعداد لاستقبال تموجات الموجات الثقالية قريبًا باستخدام العديد من أدوات قياس تداخل الليزر عالية الدقة المتوزعة حول العالم، سيكون علماء الفضاء قادرين أيضًا على رصد الموقع الدقيق الذي تصدر عنه كل مجموعة من التموجات. فعلى النقيض، أمكن تتبع أول عملية رصد أجراها الليجو للثقوب السوداء المتصادمة حتى قوس ضخم في السماء أعلى نصف الكرة الجنوبي. وسيؤدي التحديد الدقيق لمصادر الموجات الثقالية لعلماء الفضاء إلى توجيه التلسكوبات الأخرى صوب تلك المصادر، ما يعزز فرص معرفة المزيد بشأنها باستخدام الأشعة السينية، أشعة جاما، موجات الراديو، النيترونات ووسائل أخرى.
التخلص من الضوضاء
رغم محدودية قدرات الجيل الحالي من أجهزة قياس تداخل الليزر. يؤثر طول، عدد، ومواقع أذرع جهاز القياس بشكل وثيق على قدرته على التعامل مع الضوضاء في الخلفية، وأنواع الموجات الثقالية التي يستطيع رصدها. وتعتبر أذرع «ليجو» التي تمتد إلى طول 4 كيلومترات الأطول من نوعها في العالم، ولكن في موقع المشروع في لويزيانا، تمتد ضوضاء باترون روج، عاصمة الولاية، لتؤثر على دقة أجهزة الرصد.
يخطط الباحثون حاليًا ويبنون الجيل التالي من أجهزة الرصد الأكبر والأكثر انعزالًا تحت أعماق الأرض، حيث تحميها مئات الأمتار من الدروع الصخرية من مصادر الضوضاء البشرية والضغوط الزلزالية. وفي منجم كاميوكا باليابان، بدأ راصد الموجات الثقالية بكاميوكا «كاجرا» في التبلور بينما يبني العمال اثنين من الأذرع المتطابقة بطول 3 كيلومترات في الأنفاق المحفورة حديثًا. سيستخدم كاجرا، الذي من المقرر أن يدخل حيز التشغيل عام 2018، مرايا مبردة بشدة من الياقوت الأزرق ليحقق درجة من الحساسية تشبه الليجو.
وبعد كاجرا، ترسم مجموعة من الشركاء الأوروبيين خططًا تجريبية لجهاز قياسٍ لتداخل الليزر تحت الأرض، والذي يعد أوسع طموحًا، ويحمل اسم «تيليسكوب أينشتاين»، والذي يمكن أن ينتهي صنعه بحلول أواخر العقد القادم بتكلفة تتراوح بين مليار وملياري دولار. ورغم أنه يفتقد حاليًا التمويل وموقع البناء، يتطلب تصميمه النظري مد خطي إشعاع أحدهما للتبريد والآخر بدرجة حرارة الغرفة، يمران عبر ثلاثة أذرع بطول 10 كيلومترات مرسومة على شكل مثلث متساوي الأضلاع، وليس حرف L. سيؤدي ذلك الإعداد إلى المساعدة في تحديد مصدر الموجات الثقالية في السماء بدقة، وسيسمح للجهاز برؤية تموجات الطول الموجي الأطول عبر نطاق أوسع من المصادر، بما في ذلك ثنائية الأقزام البيضاء، النجوم النابضة الأبطأ دورانًا، والثقوب السوداء متوسطة الكتلة التي يبلغ وزنها مئات أو آلاف الشموس. كما ستبدأ في وضع خريطة معقولة التفاصيل للموارد «الخلفية» للموجات الثقالية – التموجات المتراكمة عن جميع الاندماجات العشوائية والعنيفة والانفجارات في أنحاء السماء.
يقول هارالد لاك، عالم الفيزياء بمعهد ماكس بلانك للفيزياء الثقالية بهانوفر، وهو عضو بفريقي «جيو600» و«تيليسكوب أينشتاين»: «يتسائل الناس لماذا لا نكتفي بمرصد وحيد للموجات الثقالية، ولماذا نتطلع إلى بناء مراصد أكبر». ويتابع: «كحال الاشعاع الكهرومغناطيسي، تغطي الموجات الثقالية نطاقًا واسعًا بشكل مذهل من الأطوال الموجية، ولا يمكن التقاطها جميعًا عبر أي منشأة منفردة». ويضيف لاك أنه على الأرض، من غير المرجح أن تتجاوز أذرع أجهزة قياس التداخل الليزري عمق 50 كيلومترات – فبعد ذلك، ستتغلب الضوضاء الزلزالية، الانحناءات الأرضية، الإشارات الضوئية غير التامة، والتكلفة المرتفعة لحفر الأنفاق العميقة على أي مكاسب علمية يمكن تصورها.
وعلى أي حال، عاجلًا أم آجلًا، ستنخفض تكلفة ترك كوكب الأرض وبناء وتشغيل مراصد عملاقة بحق للموجات الثقالية في الفضاء.
في الفضاء
عند انطلاق أول بعثة لدراسة الموجات الثقالية في الفضاء، سيقول علماء الفلك الراديوي إنهم قد وصلوا إلى هناك أولًا. فباستخدام التلسكوبات الراديوية على الأرض، ابتكر الباحثون بالفعل أجهزة رصد للموجات الثقالية مقرها بالفضاء باستخدام موارد الطبيعة؛ أي أعداد كبيرة من النجوم النابضة في أنحاء الفضاء، التي تكمل دورة واحدة كل بضع ملي ثواني، مرسلة أشعةً على غرار ضوء الفنار الذي يصل إلينا على نحو منتظم. عبر تحويل توقيتات وصول جميع النجوم النابضة إلى دقة النانو ثانية على مر عقود، يأمل علماء الفضاء أن يتمكنوا من رصد الموجات الثقالية بأطوال موجية تقاس بالأشهر والسنين الضوئية، بينما تغير تموجاتها الدورية المارة بنية الزمكان حول الأرض. كذلك يتعين على عملية اندماج المجرات أن تنتج موجات مهولة بينما تنغلق الثقوب السوداء العملاقة الموجودة عند النوى المجري الخاص بها في صورة أزواج مدارية، ثم تتصادم في النهاية. رغم معقولية تلك التقنية، فإنها لم تتوصل بعد إلى أي اكتشافات، وهي محدودة بعدد ضئيل نسبيًا من نجوم الميلي ثانية النابضة المعروفة، التي يمكن مراقبتها.
بدلًا من ذلك، يعلق معظم الباحثين آمالهم على محطات قياس تداخل الليزر المتمركزة في الفضاء. فمع تحليقها في الفضاء بعيدًا جدًا عن ضوضاء الأرض وجاذبيتها، تستطيع تلك المنشآت نظريًا أن تمتلك أذرع بأي طول تقريبًا. ولكن عمليًا، تعامل مصممو المهام المستقبلية المحتملة مع التعقيد الشديد لهندسة مثل تلك السفن الفضائية، مثلما تعاملوا مع حدود الضوضاء المسببة للتشويش في الفضاء. حيث أجبرت تلك القيود تصميماتهم بالنسبة لأطوال الأذرع على ألا تقل عن ملايين الكيلومترات.
خلال العقد الماضي، تعاونت وكالة ناسا مع وكالة الفضاء الأوروبية لتطوير هوائي مقياس التداخل الليزري الفضائي «ليزا»، وهي مجموعة من ثلاثة أقمار صناعية تشكل مقياسًا مثلثًا للتداخل له ثلاثة أذرع بطول 5 ملايين كيلومتر لكل منها. سيكون ذلك كبيرًا كفاية لرصد الموجات الثقالية المنبعثة عن أي عملية اندماج بين الثقوب السوداء العملاقة، التي ربما كانت موجودة قرب الفترة التي بدأت فيها أول نجوم الكون في اللمعان، أي حوالي مئة مليون عام بعد الانفجار الكبير.
ولكن في عام 2011، تخلت ناسا عن المشروع بسبب تكلفته التقديرية المرتفعة وتقلص تمويل الوكالة. بينما أعادت وكالة الفضاء الأوروبية تنظيم المشروع وخفضت حجمه ليصبح اسمه «إليزا» وهو تصميم «متقدم» عبارة عن ثلاثة أقمار صناعية تشكل أذرع بطول مليون كيلومتر، والتي يمكن إطلاقها بحلول منتصف ثلاثينيات القرن الحالي. وفي ديسمبر الماضي، أطلقت الوكالة المرحلة التمهيدية من «إليزا»، وهي بعثة تطوير تكنولوجي تسمى «ليزا باثفايندر». وفي تلك الأثناء، يحاول باحثون آخرون تطوير تكنولوجيا بديلة تعمل من الفضاء تعتمد على الموجات الميكروسكوبية من الذرات بدلًا من المركبات الفضائية الضخمة من أجل خفض الحاجة إلى المراحل الأساسية الطويلة والمكلفة.
بغض النظر عن تقنية التداخل الليزري المستخدمة، «لم يتم التشكيك أبدًا في الحالة العلمية الخاصة بقياس التداخل»، وفق بول ماكنمارا، العالم بمشروع وكالة الفضاء الأوروبية «ليزا باثفايندر». «حيث ستسمح لنا بإلقاء نظرة على الأحداث الأكبر والأعنف في الكون ورسم خارطة لكامل تاريخ الاندماجات في أنحاء شريحة ضخمة من الزمن الكوني… ما كان دومًا محل شك هو إذا ما كان من الممكن بناء أداة يمكنها القياس بوحدة بيكومتر على نطاق ملايين الكيلومترات، بعد إطلاقها بواسطة صاروخ».
حاليًا، يعمل «ليزا باثفايندر» في مدار على بعد حوالي 1,5 مليون كيلومتر باتجاه الشمس من الأرض، ويفترض أن يبدأ عملياته العلمية في مارس، رغم أنه لن يكون قادرًا على البحث عن الموجات الثقالية. بدلًا من ذلك، سيظهر أن حمولته، المكونة من مكعبين من الذهب والبلاتين، يمكنها أن تصبح أقرب ما يمكن لحالة انعدام الوزن، كوضع مثالي. ومع حفظها داخل حاوية فارغة ومحمية داخل السفينة الفضائية، يتعين ألا يشعر المكعبان بشكل أساسي بأي قوى خارجية سوى الجاذبية. فإن انفصل بمقدار ملايين الكيلومترات وارتبط فقط بواسطة أشعة الليزر، يمكن عند ذلك لنظام كهذا أن يرصد التغيرات الصغيرة في المسافة الناتجة عن مرور الموجات الثقالية. إلا أن الوصول إلى الوضع المثالي داخل سفينة فضاء معرضة لأشعة الشمس ومرصعة بأجهزة التسخين، الهوائيات والدافعات ليس بالأمر السهل.
«فكر بشأن وزن جرثومة موضوعة على يدك – إنه تقريبًا نفس قدر التسارع المتبقي، للقوة، التي يمكن لمكعب أن يحيدها عند السقوط الحر» على السفينة الفضائية، وفق ماكنمارا. وتقيس أشعة الليزر على «ليزا باثفايندر» قدر بعد المكعب عن حوائط الحاوية، لتوجه الداسرات الدقيقة لإبقاء المركبة مركزة على المكعب. حجم هذه الداسرات الدقيقة متناهي الصغر حيث ان قوة الف داسر دقيق يقوم بالعمل في نفس الوقت بالكاد تكون قادرة على رفع ورقة مفكرة في جاذبية الارض — و مع ذلك, تحمل الـLISA Pathfinder ستة منها فقط.
رسم خارطة للكون إبان تشكله
في عام 2005، قبل أن تتخلى ناسا عن «ليزا»، أجرت الوكالة دراسة صغيرة بهدف بحث البديل فائق الضخامة المكون من ترتيب معقد من أربعة أبراج على غرار «ليزا»، مع أشعة ليزر وتليسكوبات أضخم. أطلق عليه «مراقب الانفجار الكبير»، وستكون تلك البعثة وفق التصور المرسوم لها مكلفة للغاية، لدرجة أن القليل من الباحثين قد جرأوا بالفعل على تقدير سعرها. سيكون ذلك المشروع حساسًا بالنسبة لجميع الأهداف تقريبًا التي يدرسها «ليجو» و«ليزا» والتي يبلغ بعدها عشرات مليارات السنين الضوئية أو أكثر، ولكن هدفها الحقيقي سيكون تجميع خريطة مفصلة للموجات الثقالية من العصور الأقدم للكون البدائي.
ستحوي تلك «الخلفية العشوائية من الموجات الثقالية» معلومات حاسمة بشأن اللحظات الأولى للكون، وحقبة التضخم الغامضة التي مر بها، عندما بدا أنه قد تضخم بشكل فوري من حجم البروتون إلى حجم «الجريب فروت»، ما ضخم حجم تقلبات الكثافة على نطاق الكم حتى تشكل أول الهياكل الكونية كبيرة الحجم. وضمن أهميتها بالنسبة لإدراكنا، فلنقل، لكل شئ، سيحدث قياس مثل تلك الإشارة ثورة ربما أكبر مما قد يحدثه رسم خارطة للخلفية الكونية من الموجات الميكروية، الضوء المتبقي من الفترة التي برد فيها الكون الأولي حتى أصبح شفافًا منذ حوالي 380,000 عام بعد الانفجار الكبير.
تمثل الخلفية الكونية من الموجات الميكروية، حرفيًا، جدار حماية للجهود المبذولة لإمعان النظر إلى الوراء في الزمن باستخدام الضوء – فجميع المعلومات تقريبًا بشأن الأحداث المبكرة المحمولة من قبل الفوتونات مُسحت أثناء ارتدادها دون هدف داخل البلازما الكثيفة والساخنة التي انتشرت في الكون الأولي. ولكن بالنسبة للموجات الثقالية البدائية ، لا تمثل الخلفية الكونية من الموجات الميكروية حائط حماية – بل نافذة. فالموجات المتسمة بالأطوال الموجية الطويلة للغاية قد تترك آثار باهتة في تلك الخلفية لتسجيل مرورها. إلا أن معظم الموجات الأولية ستنطلق بسرعة دون أثر، حيث نادرًا ما تتفاعل مع أي شئ آخر في الكون لبقية الوقت – على الأقل حتى تتموج عبر المرصد الصحيح.
«بشكل ما، تمثل الخلفية العشوائية أصعب شئ ليتم اكتشافه، ولكنها أيضًا الأمر الذي قد يقدم لنا أكثر التطلعات، لأن الثقوب السوداء ونجوم النيترون متكررة بشدة»، وفق بروس آلين، عضو فريق «ليجو» ومدير معهد ماكس بلانك لفيزياء الموجات الثقالية. «فلنفترض أننا انتقلنا عبر آلف عامٍ في المستقبل، حينها ستكون حضارتنا شديدة التطور قد بنت مراصد تغطي المشهد الثقالي بالكامل». تلك الأدوات يمكنها رسم خارطة للموجات الثقالية الأولية وربما أن تميز “مكامن الاختلال والاعوجاج” داخلها، والتي تكشف عن الانجازات الأبكر والأكثر عصرية في تطور الكون.
ويتابع آلين: «ربما الأمر ليس على بعد آلف عام»، «ربما يتبقى قرن حتى نُتم بناء مراقب الانفجار الكبير، وبعد ذلك بقرن سوف نبني شيئًا للنطاق العريض. ما يهم هو أن الحصول على نطاق الخلفية العشوائية يمثل أحد آخر الأمور التي سيمكن للبشر تحقيقها عبر دراسات الموجات الثقالية. هناك على الأرجح حضارة تمكنت بالفعل من تحقيق ذلك في مكان ما في هذا الكون. ولكننا لم نفعل ذلك، بعد».