بعد مرور 9 سنوات على انطلاق الربيع العربي، صار الانتماء إليه اليوم سُبة، والدفاع عن ثوراته سذاجة، وأصبح المطالبون بالحرية والديمقراطية غير مدركين «للظروف الخاصة» التي تمر بها الدول العربية. ورغم هذا، لا يزال الرئيس التونسي السابق «محمد المنصف المرزوقي» أبرز المؤمنين بهذا الربيع وبشعاراته ومبادئه التي مات من أجلها عشرات الآلاف من الشباب، الحاملين لألوية الأمل.مشهد المرزوقي وهو يبكي حزنًا على وفاة الرئيس المصري الأسبق «محمد مرسي» أثناء محاكمته بعد 6 سنوات قضاها في السجن، هو امتداد لإيمان المنصف بهذا الربيع وبالقيم التي دعا إليها، بدايةً من حق المواطنين في الحرية والديمقراطية إلى حقهم في المحاكمة العادلة والمعاملة الآدمية حتى لو أخطئوا.


ابن المناضل

ولد محمد المنصف في السابع من يوليو/ تموز عام 1945 بمدينة قرمبالية الواقعة على بعد 30 كيلومترًا جنوب شرقي العاصمة تونس. والده هو «محمد البدوي المرزوقي»، أحد السياسيين المعروفين خلال فترة النضال ضد الاحتلال الفرنسي، ووالدته هي السيدة «عزيزة بن كريم». له 4 أشقاء و7 إخوة من أكثر من أم في تونس والمغرب، إذ كان والده مزواجًا مطلاقًا.

https://www.facebook.com/Dr.Marzouki.Moncef/photos/a.143878325679395/976739395726613/?type=3&theater

عمل والد المنصف مدرسًا للأطفال ومحاميًا وصحفيًا. شارك في تأسيس خلايا الحزب الدستوري في الثلاثينيات، وانخرط في المقاومة المسلحة ضد الاحتلال عبر جمع الأسلحة وتخبئتها في بيته، فكان عرضة للملاحقة والاعتقال. لم تتوقف هذه المخاطر حتى بعد استقلال تونس عام 1956 بل تفاقمت، إذ كان البدوي ضمن أنصار يوسف بن صالح غريم الرئيس التونسي الحبيب بورقيبة، وكلفه ذلك أمانه الشخصي واستقراره فاتهم بالخيانة وصار عرضة للتنكيل ومهددًا بالاغتيال ما أضطره للفرار إلى المغرب.يصف المنصف طفولته بأنها كانت غير سھلة أو سعيدة، فوالده كان يعيش بين السجن والمنفى بسبب نشاطه السياسي، والأسرة كانت تعيش في فقر مدقع وخطر أمني دائم بسبب الأسلحة المخبأة لديها. تعرض المنصف للاستجواب في مركز للبوليس السري وهو ابن تسع سنوات، عندما كانت شرطة بورقيبة تبحث عن والده، مما ترك في نفسه أثرًا قويًا حتى بدا له الاستقلال «حفلة مظلمة». عام 1957 حصل التحول الأخطر في حياة محمد المنصف، إذ انضم بمحض الحظ إلى المدرسة الصادقية بالعاصمة تونس، وهي إحدى مدارس النخبة القليلة التي تلغي كل الفوارق الاجتماعية بين التلاميذ وتمنح أطفال الفقراء نفس حظوظ نظرائهم من أبناء الأثرياء. واضطرت والدة المنصف إلى بيع حليها ليدخل نجلها المدرسة العريقة. أظهر المنصف التلميذ اهتمامًا كبيرًا بالقراءة خلال سنواته في «الصادقية»، إذ كان يلتهم الكتب التهامًا، مما ساهم في تنمية ملكته اللغوية فصار بارعًا في الإنشاء باللغتين العربية والفرنسية. يقول المرزوقي، إنه في سن الخامسة عشرة كان قد قرأ تقريبًا كل ما كان متوفرًا من كتابات العقاد والمنفلوطي وتيمور وجبران وطه حسين ودواوين كبار شعراء الأمة، وبالفرنسية قرأ قبل بداية مرحلة الجامعة كل المتوفر من مسرحيات موليير وراسين وكورناي وشعر بودلار وبريفار وكتب ألكسندر ديما و زولا وبلزاك، كما كان شغوفًا بالأدب الروسي فقرأ أدب تولستوي ودوستويفسكي.وخلال تلك الفترة أيضًا، بدأت أعين المنصف تتفتح على عالم السياسة، فكون هو وصديقان حركة سياسية مراهقة تنتصر «لروسيا ضد أمريكا، وتنادي بالوحدة العربية التامة والشاملة والفورية وترفض باشمئزاز شديد فكرة الأمة التونسية، وتخطط لغزو إسرائيل ومحوھا بالقنابل الذرية، وتسمي بورقيبة باسمه وبأسماء قبيحة، أما لقب سيادة الرئيس، فكان يعني آليًا بطل العروبة جمال عبد الناصر».


في فرنسا

كيف سنكسب المعركة السياسية إن لم نكسب الحرب الحقيقية التي هزمنا فيها؛ الحضارية بما هي معركة العلم والعمل.

انتهت فترة الصادقية عام 1961، عندما قرر البدوي أنه آن الأوان لخروج كل العائلة من تونس والالتحاق به في المغرب. عاشت العائلة في مدينة طنجة في جو جديد من اليسر المادي والأمان النفسي، والتحق المنصف بأمر من والده بمدرسة فرنسية رغم معارضته، وأبدى نبوغًا فيها لدرجة تكريمه من وزير التعليم الفرنسي في جامعة السوربون العريقة بعدما فاز في مسابقة للترجمة.أنهى المرزوقي مرحلة البكالوريا (الثانوية) عام 1964، وحصل على منحة من الحكومة الفرنسية للدراسة في جامعة ستراسبورغ، فسجل في كلية علم النفس ثم الطب. انخرط المنصف منذ عامه الأول في الكلية في النشاط السياسي، فشارك في إنشاء النادي الثقافي العربي الذي كانت مهمته الدفاع عن الثقافة العربية، وشارك في تأسيس جمعية السلام والعدالة في فلسطين بهدف تعريف الفرنسيين بالقضية الفلسطينية وجمع الأموال لدعم المقاومة، لكنه ترك هذه الأنشطة بضغط من والده الذي كان يخشى عليه من تبعات العمل السياسي، وانصب جهده على دراسته. حصل المرزوقي عام 1973 على الدكتوراه في الطب، وبعدها أكمل دراسته في طب الأعصاب والطب الباطني والطب الوقائي، وحصل على شهادة في علم النفس من كلية العلوم الإنسانية بجامعته، ثم انتدب بعد ذلك كأستاذ مساعد في كلية ستراسبورغ للطب حيث عمل مساعدًا لعميدها. وخلال تلك الفترة تزوج المنصف من سيدة فرنسية، وأنجب منها ابنتيه مريم ونادية.يقول محمد المنصف عن تلك الفترة إنها كانت أخصب سنوات حياته، فـ«إبان هذه الفترة حصل تغير جذري في علاقتي وفهمي للغرب، فقد وصلته بعقد كل العرب من مطالبة واحتجاج وشعور بالنقص والاضطهاد، واعتبرت نفسي مغزوًا غازيًا جاء ليسرق سر النار من الآلهة ويعود بها لأهله لأخذ الثأر، لكن لم تلبث هذه الأفكار الصبيانية أن تبخرت وأنا اكتشف أنه ليس هناك غرب واحد وإنما أربعة على الأقل، فثمة الغرب الاستعماري العنصري الإمبريالي الذي نكرهه ونحاربه، وثمة الغرب الذي يكره الغرب الاستعماري العنصري الإمبريالي، وثمة الغرب الحضاري وهو رأس الحربة في مغامر الإنسانية العلمية والفكرية، وثمة غرب الإنسان العادي».


العودة إلى تونس والسياسة

كانت بداخلي قوى نفسانية ھائلة تدعوني للنزول إلى الساحة السياسية منھا إرادة الثأر لوالدي، لصالح بن يوسف الذي أمر بورقيبة باغتياله، لقيم يسخر منھا النظام البورقيبي ثم جاء بن علي ليزيفھا، ومنھا أحلام واسعة عريضة للشعب والأمة ومنھا تمرد على ما كنت أراه من حولي من فوضى وظلم ورداءة ومنھا طموح شخصي للشھرة والزعامة والريادة.

قرر المرزوقي العودة إلى وطنه تونس عام 1979 رغم إلحاح زوجته وأسرتها عليه بالبقاء في فرنسا. يقول عن سبب عودته:عمل المنصف بين عامي 1979 و1981 أستاذًا مساعدًا في قسم الأعصاب بتونس، فصدم في حال المستشفيات السيئ وانتشار الفقر والجهل، ورأى أن سبب ذلك هو التنظيم السياسي المتخلف الذي يدير البلاد، مما دفعه إلى اتخاذ قرار العودة إلى السياسة مخالفًا نصيحة والده الذي كرهته سنوات المنفى في العمل السياسي. سارت حياة المرزوقي العامة منذ ذلك الحين في مسارين متوازيين، الأول خاص بحياته المهنية وهذا حقق فيه نجاحًا لافتًا حد أنه حصل عام 1981 على «جائزة بورقيبة في الطب» ووشحه عدو والده اللدود بوشاح الجمهورية. كما حصل برنامج «الطب الجماعي» الذي كان يترأسه على جائزة المؤتمر الطبي العربي سنة 1989. وفي نفس السنة حصل المنصف على جائزة المعھد الفرنسي للصحة التي تمنح لكبار الأطباء الأجانب. انضم محمد المنصف إلى جمعية الدفاع عن المعاقين الحركيين وترأس فرعھا في مدينة سوسة، وأسس عام 1984 مع عدد من المثقفين الأفارقة «الشبكة الإفريقية لحقوق الطفل».أما المسار الثاني الذي سارت فيه حياة المرزوقي، فهو المسار السياسي، إذ شرع منذ عودته إلى تونس في كتابة مقالات في الشأن العام بجريدة الرأي وكانت حينها منبرًا للديمقراطيين. وفي عام 1980 أصبح عضوًا في مجموعة من الديمقراطيين الليبراليين التي تدير الجريدة.في نفس السنة انضم المرزوقي إلى رابطة حقوق الإنسان التونسية، وفي سنة 1984 انضم مكتبها التنفيذي، ورغم أنها ليست مؤسسة سياسية فإنها ستكون الباب الكبير الذي سيدخل منه عالم السياسة، بعدما رفض الدخول من باب القوميين بسبب أفكارهم الرجعية والعنصرية، وبعد رفضه خطاب الإسلاميين الذي وصفه بأنه كان في تلك الفترة «فجًا عنيفًا عنصريًا لا يختلف ھيكليًا عن خطاب أقصى اليمين الفرنسي لكن بتغليف ديني».رحب المنصف بسذاجة وحسن نية -كما يصف الأمر- بانقلاب زين العابدين بن علي على بورقيبة المريض، على أمل أن يؤسس نظامًا ديمقراطيًا، ولسببين خاصين أولھما، توقف عملية مراقبته والسماح بتداول كتاب له كان ممنوعًا، وثانيھما، رجوع والده الحاج محمد البدوي الذي كان قد أقسم أنه لن يطأ أرض تونس ميتًا أو حيًا تحت حكم بورقيبة.انتخب محمد المنصف عام 1989 رئيسًا لرابطة حقوق الإنسان، وهي نفس الفترة التي بدأ فيها مناهضة نظام بن علي بسبب التزوير الفج الذي حدث في الانتخابات التشريعية، ثم الحملة القمعية التي شنها النظام ضد الإسلاميين، خاصة خلال الفترة من 1991 إلى 1994. وجد المرزوقي نفسه في اختبار أخلاقي، فرفض النصائح التي قدمت له بترك النظام يخوض معركته مع الإسلاميين، ووقف مدافعًا عن أعدائه السياسيين الإسلاميين، وجاء موقف الرابطة في إدانة المداھمات والتعذيب والمحاكمات الجائرة قويًا واضحًا متواصلًا لا لبس فيه. كما رفض هجمة السلطة على الصحافة وقمع حريتها.لم يكن هذا الموقف بلا ثمن، إذا قام النظام سنة 1992ّ بحل رابطة حقوق الإنسان (أعادها عام 1993 حفاظًا على صورته دوليًا)، وفي نفس السنة حل النظام قسم «الطب الجماعي» بكلية طب سوسة الذي كان يرأسه المرزوقي، وفي سنة 1993 تم اعتقال شقيقه من أجل الضغط عليه، وفي عام 1994 اعتقل المنصف لعدة أشهر ثم أطلق سراحه بعد تدخل نيلسون مانديلا الذي كان يعرف المرزوقي بشكل شخصي.عقب خروجه من السجن، فرض نظام بن علي عزلة كاملة على المرزوقي لمدة 3 سنوات، إذ منع من السفر ومن استخدام الھاتف وطرد من المستشفى الجامعي ومن مصحات الضمان الاجتماعي، ومنع تداول كافة كتبه، فقرر التفرغ للكتابة في السياسة وألف كتابي ”الاستقلال الثاني” و”الإنسان الحرام”. حاول المنصف خلال فترة العزلة تأسيس جبهة سياسية ديمقراطية لكن مساعيه منيت بالفشل، ثم أسهم سنة 1997 مع عدد من الحقوقيين التونسيين في تأسيس «المجلس الوطني للحريات»، كما أسهم مع عدد من الحقوقيين العرب في تأسيس «اللجنة العربية لحقوق الإنسان» سنة 1997 وكان أول رئيس لها، وفي عام 2001 أسس حزب «المؤتمر من أجل الجمهورية» بهدف إقامة نظام جمهوري ديمقراطي في تونس لكن السلطات رفضت ترخيصه.لفق نظام بن علي للمرزوقي 3 تهم خلال عامي 1999 و2000، وحكم عليه في واحدة منها بالسجن لمدة عام، فرفض استئناف الحكم لاقتناعه بأن «القضاء في تونس جزء من الديكتاتورية مھمته إضفاء صبغة الشرعية على تجاوزات الاستبداد». وفي سنة 2000 طرد من الكلية بشكل نهائي بسبب دوره في النضال الحقوقي.حصل المرزوقي على العديد من الجوائز الدولية بسبب دفاعه المستميت عن حقوق الإنسان، منها جائزة «ھيومن رايتس ووتش» سنة 1994، وجائزة «الأكاديمية الأمريكية للعلوم» لسنة 1996 التي تمنح لرجال العلم الذين تميزوا بنضالھم من أجل حقوق الإنسان، وجائزة ”ھامت – ھلمان” لسنة 2001 التي تمنح في أمريكا للكتاب المضطھدين.


من المنفى إلى رئاسة الدولة

عشت طوال هذه السنوات (يقصد سنوات فرنسا) بقناعة أنني لا أتعلم لحسابي الخاص، فثمة آمال الوالد العريضة، وثمة حلي الوالدة التي بيعت لكي لا يتوقف بي الركب، وثمة ذكرى مؤلمة لأخت في الثانية والعشرين من عمرها لفظت آخر أنفاسها على متن شاحنة نقل ريفية بين دوز وقابس لأنه ليس في دوز مستشفى لائق يحفظ حياة امرأة جاءها نزيف حاد خلال ولادة صعبة.

في أواخر سنة 2001، اضطر الديكتاتور زين العابدين بن علي، تحت ضغط الرأي العام الوطني والدولي، للسماح بخروج المرزوقي إلى المنفى في فرنسا. وهناك عمل أستاذًا زائرًا في كلية طب باريس 13 حتى عام 2004، ثم عمل حتى عام 2011 أستاذًا في جامعة باريس مارن لا فاليه.رغم المنفى، لم يتوقف المنصف عن مواصلة نشاطه السياسي والحقوقي، فواصل الحديث عن الأوضاع القمعية في تونس والدفاع عن الحقوق والحريات. وفي عام 2006 قرر العودة إلى تونس دون إذن السلطة، ودعا إلى عصيان مدني لإسقاط نظام بن علي. شن النظام حملة إعلامية شعواء ضد المرزوقي واتهمه بالخيانة والعمالة، لكن لم يقبض عليه بعد نزوله من الطائرة كما كان متوقعًا، بل سمح له بالدخول لكن حاصرته الشرطة في منزله، وسلطت عليه الغوغاء تتبعه بالسب والبصق كلما خطا خارج بيته، وعندما أراد أن يقف احتجاجًا أمام أحد السجون للتعبير عن تضامنه مع أحد السياسيين المعتقلين، أطلقت الشرطة عليه عشرات البلطجية ليضربوه، فاضطر إلى العودة للمنفى مرة أخرى.واصل محمد المنصف نضاله من المنفى، ثم عاد إلى تونس مطلع عام 2011 عقب هروب زين العابدين بن علي إلى خارج البلاد. وسرعان ما انخرط مع باقي القوى السياسية التونسية في عملية بناء نظام ديمقراطي. فاز حزب المؤتمر من أجل الجمهورية بقيادة المرزوقي بـ29 مقعدًا في انتخابات المجلس الوطني التأسيسي عام 2011، وأصبح بذلك ثاني أكبر كتلة في البرلمان بعد حركة النهضة (89 مقعدًا). شكل حزب المنصف ائتلافًا حاكمًا مع حركة النهضة وحزب التكتل من أجل العمل والحريات، ونتج عن هذا التحالف انتخاب المجلس التأسيسي للمرزوقي رئيسًا مؤقتًا للجمهورية في ديسمبر/ كانون الأول 2011.دعم المرزوقي خلال فترة رئاسته لتونس كافة ثورات الربيع العربي، وحق المواطنين العرب في الحياة في ظل أنظمة ديمقراطية، ورفض إطاحة الجيش المصري بالرئيس الأسبق محمد مرسي في يوليو/ تموز 2013 وطالب مرارًا بإطلاق سراحه.خاض المرزوقي الانتخابات الرئاسية التونسية عام 2014 لكنه خسر في الجولة الثانية أمام الرئيس الحالي الباجي قائد السبسي. وسلم السلطة بشكل سلمي قل نظيره في العالم العربي.

واصل المرزوقي عمله السياسة بعد ترك السلطة، وأسس حزب حراك شعب المواطنين أواخر سنة 2015، ونجح في دمج حزبه الجديد مع حزبه القديم المؤتمر من أجل الجمهورية والذي كان استقال منه عقب توليه رئاسة الجمهورية، في حزب جديد باسم حراك تونس الإرادة.