أمي كسرت لعبتي — كسرت قلبي
اليوم هو أسوأ أيام حياتي. أمي كسرت «بلو»، سيارتي الزرقاء الصغيرة، ولكنها في الحقيقة كسرت قلبي. «بلو» لم تكن بالنسبة لي مجرد لعبة، لكن أمي لها تقييم آخر، وتستنكر شعوري بالحزن الشديد، قائلة: «ماذا جرى! سأحضر لك غيرها». لا يمكنني تعويض «بلو»، أنا حقًا حزين.
في أحد العروض التعليمية في جامعة ليدز بيكيت Leeds Beckett، عرض أستاذ براون قصة روتها له ابنة ابن أخيه، حيث كان يمتلك أخوها الصغير دمية من الفرو على شكل أرنب، أحضرتها له أمه، كان لا يفارق هذه الدمية أبدًا، أينما ذهب هي بيده. في سن الثانية من عمره، ضاعت الدمية، وغضب الطفل غضبًا شديدًا. بعد ثلاث سنوات، كانت أخته تتصفح الصور الفوتوغرافية الخاصة بالعائلة وبجوارها أخيها، فظهرت على الشاشة صورة له مع دميته المفقودة، فتجدد غضبه وتذكر الدمية وحزن عليها مجددًا، وتفاجؤوا جميعًا أنه ما زال يتذكرها ومتأثر بها. [1]
ماذا يدفع الطفل لهذه الدرجة من التعلق بلعبة؟
هناك عدة أسباب تجعل الطفل يختار لعبة معينة ويتعلق بها، منها أنها لعبة مألوفة شكلها ودود ومحبوب، كالدمية التي تتميز بالفراء ذي الملمس الناعم، أو لعبة صغيرة كسيارة صغيرة لطيفة، ومنها كذلك أنها لعبة تشعره بالأمان وأنه ممسك بشيء ما يسكن خوفه وقلقه، وكذلك أن وجودها يشعره بالراحة والاطمئنان في أوقات الخوف.
يقول علماء النفس إن الأطفال -من هذا النوع- يعتقدون أن اللعبة لديها قوة خفية، تستطيع حمايتهم وتشعرهم بالأمان، ترافقهم كصديق وتحنو عليهم كأم، لذلك ليس الفقدان في حالتهم سهلًا، ولا أمرًا يمكن تجاوزه إن أكلوا بعض الحلوى.
في دراسة سابقة أجريت للمقارنة بين تعلق الطفل بلعبته المفضلة والتعلق الطبيعي، أحضر الباحثون مجموعة من الأطفال، بعضهم معه لعبته المفضلة التي لا يقوى على فراقها، والبعض الآخر ليس لديه لعبة مفضلة، ولكنه أحضر معه أي لعبة يحبها. وضع القائمون على التجربة صندوقين كبيرين أمام الأطفال، وأخبروا الأطفال أنهما آلة للنسخ، تضع أي شيء في الصندوق الأول فيُنسخ تلقائياً في الصندوق الثاني. وبالفعل، وضع أحد القائمين على التجربة علبة خضراء صغيرة داخل الصندوق الأول، وأغلقت أبواب الصناديق وانتظر الأطفال قليلًا، ليبدؤوا سماع صوت أزيز يأتي من الصندوق الأول، ثم يُفتح الصندوق الثاني ليجد الأطفال نسخة طبق الأصل من العلبة الخضراء في الصندوق الثاني أيضًا. انبهر الأطفال! بعد ذلك طلب القائمون على التجربة من الأطفال أن يضعوا لعبتهم في الصندوق الأول لتُنسَخ إلى واحدة جديدة، فكانت ردود أفعالهم مختلفة، على هذا النحو:
- المجموعة التي تمتلك مجرد لعبة تحبها وليست لعبة تتعلق بها بشدة وافقوا على وضع لعبتهم، وثلثا المجموعة اختاروا اللعبة المنسوخة الجديدة (في الحقيقة كانت هي نفسها لعبتهم).
- المجموعة الثانية تكونت من 22 طفلًا يمتلكون لعبتهم المفضلة التي يتعلقون بها بشدة، أربعة أطفال من أصل 22 رفضوا تمامًا وضع لعبتهم في الصندوق لتُنسَخ من الأساس، أما البقية فوافقوا على وضع لعبتهم، لكن خمسة منهم فقط من طلبوا اللعبة المنسوخة، وطلب الآخرون اللعبة الأصلية.
في نهاية التجربة، وضح بروفيسور هوود، القائم على التجربة، أن الأطفال مقتنعون أن ألعابهم -بجانب خصائصها الفيزيائية – لديها خصائص خاصة لا يمكن نسخها أو تعويضها. [3]
كم هو قاسٍ أن يتعرض طفل في سنواته الأولى لإحساس الفقد بهذه الدرجة، لمجرد لعبة! ترى ماذا دفعه للتعلق بها لهذه الدرجة؟ هل اللعبة حقًا مذهلة؟ أم وجد الطفل فيها ما ينقصه؟
اضطراب التعلق المرضي RAD مرض يصيب الأطفال، صغارًا وكبارًا، وعادة يبدأ قبل سن الخامسة. يتعرض الطفل للإصابة بالتعلق المرضي عندما يفتقد الحنان والاهتمام من والديه. الطفل المنبوذ والذي يُساء معاملته، يلجأ للبحث عن صديق حقيقي بعوض جزءًا مما فقد، يصور لنفسه أن هذا الصديق يحمل معه كل المعاني التي يفتقدها، ولا يكون مجرد دمية، فهو أقرب شيء له على الإطلاق، وبالتالي سيتسبب فقده في أزمة كبيرة له.
عادة ما يكون الطفل المصاب بائسًا وحيدًا لا يريد التفاعل مع أحد، يرغب في الانعزال مع رفيقه الذي اختاره بنفسه، ولا يرغب في أحد آخر. يصعب عليه تكوين علاقات، كما يصعب عليه أن يحب أحدًا، هو لا يعرف كيف يكون الحب، لا يعرف كيف تُبنى العلاقات.
يصعب على الأطباء النفسيين معالجة هذا النوع من الأمراض، لأنه لا يتجاوب معهم ولا يرغب في مساعدة نفسه. لا تزال طرق علاج اضطراب التعلق المرضي تحت البحث من قِبل علماء النفس، ولكنهم توصلوا لطريقة إيجابية فعالة، وهي جلسات العلاج بالألعاب الجماعية Play Therapy.
جلسات العلاج بالألعاب الجماعية طريقة علاجية مميزة أثبتت فعاليتها مع كثير من الاضطرابات، وهي عبارة عن مجموعة من الأنشطة الممتعة التي يقوم بها الأطفال المنبوذون وفاقدو الاهتمام والحب، كما يأخذون فرصتهم في التعبير عن مشاعرهم ومشاركة بعضهم البعض بحكاياتهم، مما يزيد من تقبلهم لذاتهم وتقبل مشاكلهم وتفاعلهم مع الآخرين.
وفقًا لدراسة أجريت في عام 2001، أثبتت جلسات العلاج بالألعاب الجماعية فاعليتها في العديد من اضطرابات الشخصية المستعصية للأطفال، مثل عدم القدرة على التكيف واضطراب التصرف ومشاكل السلوكيات المدرسية والقلق أو الخوف وفقر فهم الذات وعوائق التعليم الجسدية والعقلية وغيرهم.
أفضل ميزة في جلسات العلاج بالألعاب الجماعية أنها متنوعة، وتناسب مختلف الاضطرابات باختلاف ظروف كل اضطراب، كما يشرف عليها متخصصون يساعدون الأطفال ويتنبهون لأي عوائق تمنع الأطفال من أي نوع من أنواع المشاركة. [4]
هل كل طفل يحمل دمية مصاب باضطراب التعلق؟ بالطبع لا، فالأطفال من سن 8 أشهر إلى 12 شهرًا عادة يفضلون دمية معينة، تكون دمية مريحة وناعمة غالبًا، يحب أن يلعب بها كثيرًا وينام بجوارها، ومن الجوانب الإيجابية للأمر أن هذه الدمية تساعد الأمهات في كثير من الأحيان، لأنها تهدئ الطفل وتسكن غضبه، عندما يكون في مكان غريب ستشعره بأنه في بيته، ولكن لا داعي للقلق، فهذه الظاهرة لا يمكن توصيفها بالاضطراب، ما دام الطفل طبيعيًا ومتجاوبًا مع المربين وغير مبالغ في التعلق.
من إيجابيات هذه الدمية -ما لم يكن الأمر مرضيًا- أنها تساعد الطفل على الانتقال من مرحلة الاتكال إلى الاستقلال، ففي أول حياته يعتمد عليها في استمداد الحب والأمان والطمأنينة، إلى جانب شعوره الأساسي بالأمان من قبل مقدمي الرعاية. [2]
عندما نعالج الأعراض ولا نفتش في الأسباب
الغريب في هذه الظاهرة أن يبحث مقدمو الرعاية لأطفالهم عن علاج نفسي، رغم أن المشكلة ليست عندهم! يقول أحد الأطباء النفسسيين [5] إنه يقابل أحيانًا زوجة تحضر زوجها ليتلقى العلاج النفسي، أو زوجًا يحضر زوجته أو أبًا أو أمًا يحضرون طفلهم، ليقولوا إنه مريض ونريد معالجته، فيرغب الطبيب أن يخبرهم بأن الأصح علاجهم هم أولاً؛ أنت من عجزت عن تقديم الحب والرعاية لهذا الشخص، أنت من أهملته ونبذته، حتى لاذ بالفرار نحو هذه اللعبة، يرى الطفل أمانصا في هذا الجماد الذي لا روح فيه، ولكن إن قلنا لهم هكذا ستكون هذه الزيارة الأولى هي نفسها الأخيرة، وربما لن يتلقى هذا المريض المسكين علاجه، ولكني أرغب في أن أقول لهم، أنتم من تعانون من اضطراب، لا الطفل.
لا شيء أبدًا يضاهي إحساس طفل بالرفض والإهمال؛ ستتغير حياته بأكملها وسيعاني حتى يتعافى. كثير منا ذاق مرارة الفراق بعد أن مر بكل مراحل التعلق، ابتداءً ببناء الآمال والتشبث بمصدر الأمان، ومن ثم الخوف المرير من الفقد وصولاً إلى ألم الفراق. وكم هو صعب على القلوب الصغيرة التي تلبث في الحياة كثيرًا أن تقوى على هذا الشعور، لذا على كل مربٍّ أن يعتني بأطفاله، وأن يقدم لهم كل ما لديه من حب واهتمام وتقدير.
في الختام..
إن لاحظت أن طفلك يمتلك لعبة قريبة جدًا منه، فقدر هذا الشعور لديه، ولا تستنكر شعوره أو تهمل اللعبة أو تكسرها، بل اقترب من الطفل وقدم له الحب والاطمئنان. هذه الكائنات الصغيرة في حاجة ماسة إلينا، نحن من نشكل حاضرهم ومستقبلهم، لا شيء آخر أهم منهم، وإن رأيت أنك عاجز عن هذا الدور، فاذهب أنت أولًا إلى الطبيب.