محمد سالم: البهلوان الذي حرر الهند حافي القدمين
كرة القدم ساحة مُصَغرة للصراعات الكبرى التي تدور في العالم، تأكيدًا للذات القومية، ومحاولة للتعبير عن الهويات المختلفة، في عالم تُشكل الحروب جزءًا كبيرًا من أركانه.
تحولت نسبة من المبارايات إلى ميدان للصراع، ومنصة للتعبير عن حلم الحرية والانتصار، من خلال لاعبين انتموا إلى دول العالم الثالث، حيثُ تقبع أشباح الفقر والجهل والاستعباد. فسحة تتيح للوطن المفتت أن يلتئم ويلتف حول نور حلمٍ ما، كما يصفها درويش.
قصتنا عن شخص لم يملك من الأسلحة في التعبير عن قضيته، سوى مداعبة الكرة بقدميه. لاعب يركل الكرة وهو حافي القدمين، ليسجل أهداف حلمه وحلم بلاده في مرمى الخصوم، ربما لم يسمع عنه محمود درويش شاعر المقاومة الفلسطينية الشهير طيلة حياته، لكنه كتب في وصفه ما استهللنا به قصتنا، وما سنذكره لاحقًا.
من الطب إلى الطابة
«محمد سالم» طفلٌ ولد لأسرة هندية في كلكتا شمال شرقي الهند عام 1904. أسرة فقيرة تقتات على الزراعة، ويهتم الأبوان بتعليم الأبناء، وبخاصة العلوم الدينية. نبغ محمد في دروس العلم والدين؛ ما جعل والديه يحلمان بالهروب من تحت قبضة الفقر المدقع على يديه.
درس سالم الصيدلة، لكنه بجانبها لم ينسَ حلمه بممارسة كرة القدم، اللعبة التي عرفها منذ طفولته، ووقع في عشقها بسبب ممارسة الجنود الإنجليز لها. عاهد سالم نفسه منذ صغره بأن أول أهداف تحرر بلاده من قبضة الاحتلال البريطاني سيكون بقدميه.
في عام 1926، ترك سالم الصيدلة وتحول إلى كرة القدم عندما وجد فرصة في نادي شيتارانجان ومنه إلى نادي محمدان الرياضي. النادي الذي تأسس في السنوات الأولى لحركة استقلال الهند، وكان رمزًا للهوية الإسلامية التقدمية في البلاد.
طاف سالم على عدة أندية بعد نادي المحمدان، لكنه عام 1934 قرر العودة إليه، وكان وعيه قد تشكل، وأدرك أن هذا النادي ولا غيره هو من سيساعده في رحلة نضاله ضد الإنجليز.
من دون حذاء في مواجهة المدفع
لم تحرز حركة الاستقلال الهندية أي هدف يُذكر حتى عام 1934، حين قرر سالم أن يحرز أول أهداف الهند في مرمى الإنجليز. قاد سالم فريق المحمدان لأكبر إنجازاته وإنجازات كرة القدم الهندية حينها، حيث ساعدهم للفوز بأول دوريات كرة القدم في كلكتا، وبأقل الإمكانات مقارنة بالرفاهيات التي تمتعت بها الفرق الإنجليزية.
بأقدامٍ حافية خرج سالم ورفاقه من روتين الموت ولو قليلاً كما يقول درويش، وأحرزوا فوزًا عُدَّ بمثابة انتصار سياسي، حيثُ مثل نقطة انطلاق لتحرير الهند بأكملها من وطأة الإنجليز.
إلى وقت ظهور سالم لم يفز بدوري كلكتا سوى الفرق البريطانية، التي غالبًا ما تكونت من الجنود الإنجليز.
اختفاء مؤقت
في ظرف عامين حقق سالم رفقة المحمدان ثلاثة ألقاب رياضية. حقق كذلك رفقة حركة الاستقلال أهدافًا مؤثرة، حيثُ بات القاصي والداني في الهند ومحيطها يهتم لأمر الفريق الذي يناطح الفرق الإنجليزية، ولاعبوه حفاة الأقدام، وبالتبعية الاهتمام بوضع الهند تحت حكم المحتل البريطاني.
في عام 1936، تم اختيار سالم لتمثيل فريق الهند للعب مباراتين استعراضيتين ضد الفريق الأولمبي الصيني، الذي زار الهند قبل دورة الألعاب الأولمبية الصيفية في ذلك العام، التي عُقدت في برلين.
أشاد خصوم سالم الصينيون بأدائه في المباراة الأولى، لكن قبل المباراة الثانية اختفى في ظروف غامضة، مما دفع الاتحاد الهندي لكرة القدم إلى نشر إعلانات صحفية يطلب فيها معلومات عن مكان وجوده.
مُخاطبًا خيال الشعوب
بعد عدة أيام أتت الأخبار عن سالم، الذي كان في طريقه إلى مدينة غلاسكو الإسكتلندية؛ لسببٍ ظاهري وهو تجربة فرصته مع البطل حامل اللقب الأسكتلندي سلتيك، وسببٍ خفي، وهو الترويج للقضية الهندية أمام العالم أجمع.
تعتقد «بوريا ماجومدار» مؤرخة هندية، أن هاشم شقيق سالم كان السبب وراء هذه الرحلة. وهو صاحب متجر في سكوتستون غربي غلاسكو، كان يقضي إجازة في كلكتا في ذلك الوقت، وبعد رؤية أداء شقيقه ضد الصينيين، أقنع سالم بركوب باخرة بريطانية والعودة معه إلى أسكتلندا.
أُعجب مسؤولو فريق سيلتك بسالم، لكنهم كانوا أمام معضلة، ألا وهي إقناع الاتحاد الأسكتلندي لكرة القدم أن يلعب سالم حافي القدمين في مباراة رسمية. وافق الاتحاد الاسكتلندي بالفكرة على مضض، لكنه اشترط أن ينجح سالم وإلا سيعاقب سيلتك.
في 28 أغسطس/آب 1936، لعب سالم مع نادي سلتيك ضد نادي غالستون (Galston F.C) في مباراة أمام 7 آلاف مشجع. على الرغم من كونه اللاعب الوحيد على أرض الملعب من دون حذاء، فإن سالم اجتذب الجماهير بمهاراته وأسهم بـ3 تمريرات حاسمة في الفوز العريض بنتيجة 7-1.
أصبح حديث الجميع بفضل مباراة واحدة، ووجَّهَ أنظار العالم كله تجاه قضية اللاعب الهندي الذي يلعب في أوروبا حافي القدمين، للتنديد بالاحتلال البريطاني. وبالطبع استفاد ذلك من كل هذا الزخم الذي أحاط سالم.
أعطِ الكرة لسالم
أحدث سالم ضجة واسعة المدى، وأصبحت مباراته القادمة محط انتظار الجميع. صحيفة «ذا ريكورد» البريطانية العريقة كتبت: «كان سالم بلا شك نجم الجمهور في مباراة سلتيك بارك الليلة الماضية. جاء معظم الحشد بدافع الفضول أكثر من أي شيء آخر».
في صحيفة ديلي إكسبريس البريطانية، نُشر عنوان رئيسي: «البهلوان الهندي .. أسلوب. إنه يوازن الكرة على إصبع قدمه الكبير، ويسمح لها بالجري إلى إصبع قدمه الصغير، ثم يقوم بتدويرها، ويقفز على قدم واحدة حول المدافع».
بعد أسبوعين كان الجميع يتوق شوقًا لرؤية فتى الهند. اجتذب سالم حشدًا من 5 آلاف شخص لمشاهدة مباراة فريق سيلتيك الاحتياطي ضد هاميلتون أكاديميكالز. «اعطِ الكرة لسالم» كان شعار الجماهير.
شعر مسؤلوو سيلتك بالسعادة بسبب الإيرادات التي حققهوها بسبب سالم، فعرضوا عليه الحصول على 5% من أرباح البوابة؛ لإقناعه بالبقاء معهم لموسم 1936-1937، لكن سالم شعر أنه أدى رسالته، وأنه لم يكن هنا للعب كرة القدم في المقام الأول، بل لتوعية العالم بقضية بلاده؛ فقرر العودة مرة أخرى للهند.
تُنسى كأنك لم تكن
عاد سالم إلى كلكتا، وبالتحديد إلى ناديه المفضل-نادي المحمدان الرياضي-حيث فاز بلقبين آخرين في عامي 1937 1938.
في 15 أغسطس/ آب 1947 نالت الهند استقلالها عن الحكم البريطاني، وانطوت صفحة سالم التي على الرغم من عظمتها، فإنها ضاعت في غياهب النسيان. عاش سالم أيامه الأخيرة حبيس سرير المرض، لا يملك حق علاجه، ويأبى أن يتذلل لطلب المساعدة من أحد.
لكن ما إن وصلت القصة لمسؤولي نادي سيلتك، حتى قاموا على الفور بإرسال مساعدات مالية لراشد نجل سالم لمساعدة لاعبهم السابق في تلقي الرعاية الطبية. تُوفيَّ سالم عام 1980، تاركًا خلفه سيرة عظيمة، ورسالة لكل رياضي العالم مفادها؛ أن الرياضة لا تنفصل بتاتًا عن الواقع الذي يحياه الناس، بل مرآة تصوره وتعُبر عنه.