محمد بن السليم: «شيرلوك هولمز» الأندلس
الكل في قرطبة يضج بالشكوى، لا فرق بين غني يعيش في الرصافة، أو فقير رقيق الحال يسكن الأرباض. لا يستفيقون اليوم إلا على قتلى مجهولي القاتل، كُومت أجسادهم في الأزقة، أو أُلقيت فوق صفحة نهر الوادي الكبير. ولا يرتادون الأسواق إلا لتؤذيهم تعديات اللصوص، أو يضرهم غش المكاييل. لقد أضحت مدينتهم وكأنها تعرت من أسوارها الحجرية الغليظة، أو انخلعت عنها أبوابها الخشبية العملاقة. تلك التي طالما منحتهم الدفء، كما أعطتهم الأمان.
قلّب أهل قرطبة أكفهم عجبًا من منقلبهم الذين صاروا إليه، ثم تحول ضيقهم المكتوم إلى جهر علاني بالغضب. وفي مفخرة المدينة ورمزها الأهم، الجامع الكبير، اجتمع نفر من الأعيان والفقهاء تكللهم جماعة حاشدة من العوام، وأعلنوا رفع شكواهم إلى أمير الأندلس، الأمير الأموي عبد الرحمن بن الحكم (206-238 هـ/ 821-853 م، والمُلقَّب بعبد الرحمن الأوسط لتوسطه في الزمن بين الأمير عبد الرحمن الداخل، والخليفة عبد الرحمن الناصر)، مطالبين إياه بعزل صاحب المدينة -أي واليها- بعد أن اسُتبيحت قرطبة في أيامه وصارت مخوفة موحشة، وهي التي كانت منذ زمن قريب ملاذ كل عابر، وكهف كل مضطرب.
«ألم نبايع الأمير على الطاعة شرط أن يحمينا أسباب الشر والفساد؟ إذن فليصلح ما أفسده رجاله، وإلا فعلى قرطبتنا السلام، بل وعلى الإسلام في الجزيرة كلها». قالها أحدهم فأمّنوا وراءه، ثم تحرك وفد من أكابرهم إلى القصر -حيث الأمير- ليبلغوه ما بأنفسهم.
كهولة لم تنقص من ذهن
كان عبد الرحمن الأوسط قد كهل في تلك الأوقات التي اقتربت فيها ولايته من انتصاف عقدها الثالث. لم يعد هو نفسه الشاب دؤوب الحركة الذي بويع بالإمارة قبل سنوات طويلة، وقدر له نقل دولة آبائه من طور التكوين إلى طور الثبات والاستقرار، وكذلك إقحامها في المدنية والحضارة، بعد أن فتح أبواب الأندلس واسعة أمام ثقافة المشرق العباسي البعيد، متيحًا للكتب والمصنفات أن تتدفق من بغداد إلى عاصمته قرطبة، مؤسسة للفكر الأندلسي الذي سينتعش طوال القرون اللاحقة من حياة المسلمين في إسبانيا. ولم يكن رغم ذلك كله ليقصر عن قيادة الصوائف إلى أرض العدو في الشمال، بـ أشتوريس أو نبرة (نافار)، أو حتى عن إرسال التجريدات لمطاردة الخارجين عليه في أقاليم الأندلس.
ربما باتت حركات الأمير اليوم أبطأ، أو صارت نشاطاته أقل. ولكن شيئًا من ذلك لم ينقص من حدة ذهنه، أو حرصه على العناية بالدولة. تلك التي رآها أمانة الأجداد من بني أمية، إن هو ضيعها ضاعت على خلفائه بعده، وكفى بذلك أن يلصق به عار الأبد.
بان الغضب في وجه الأمير بعد أن سمع شكوى أكابر المدينة. وكان اختصاص الوالي تحديدًا بشكوى الناس، هو ما جعل غضبه مضاعفًا زائدًا. فقد كان عبد الرحمن الأوسط نفسه، هو الذي أقحم منصب «صاحب المدينة» على التراتبية الهرمية لإدارة قرطبة، بل وجعله فوق قمتها. حتى صار أصحاب الشرط الكبرى والوسطى والصغرى، وكذلك صاحب السوق كلهم تبعًا لرأيه، منفذين لأوامره.
كانت نية الأمير أن يسهم استحداث المنصب في ضبط الأمن بحاضرة الدولة والزيادة في أمانها، وهو ما كان فعلاً في مبدأ الأمر، حين اختار للمدينة الأكفاء من رجاله. أما وقد انخرم هذا النظام بشهادة أهل قرطبة عن تعدد الجرائم وتكرار السرقات دون رادع، فإن على الأوسط إعادة النظر فيمن يختاره لتلك المهمة الكبرى.
نعزل «مولى» ونُولّي «مولى»
لا ينبئنا المؤرخ الأديب ابن القوطية في كتابه «تاريخ افتتاح الأندلس» باسم أول معزول عن ولاية المدينة، أو أسماء كل من تعاقبوا عليها بعده. ولكنه يخبرنا بتقديم الأعيان والأهالي الشكاوى المستمرة إلى الأمير في كل هؤلاء الواحد تلو الآخر، حتى كان مصير جميعهم العزل. وبلغ انزعاج الأوسط في النهاية أن أقسم على ألا يولي المدينة أحدًا من القرطبيين، معلنًا نيته إسناد المنصب إلى مولى من موالي الأمويين ممن يسكنون مدن وكور الأندلس الأخرى (والكور هي جمع كورة، وهو التقسيم الإداري للأندلس).
هكذا، أمر عبد الرحمن الأوسط بعزل صاحب المدينة الذي قُدِّمت فيه الشكوى فورًا. واطمأن أهل قرطبة ظنًا بأنه الختام لمعاناتهم. ولكن الرجال الذين اُختيروا لخلافة المعزول لم يفلحوا في انتشال المدينة من الفوضى التي واصلت ضرب أركانها بعنف.
حتى وهو في فورة الغضب الشديد، ظل عبد الرحمن الأوسط مخلصًا بعمق لسياسة أسلافه التي قامت على حصر مناصب الدولة الكبرى في مواليهم. كان أولئك الموالي أخلاطًا شتى من عناصر غير عربية، رومية وفارسية. دخلوا الإسلام في زمن الخلافة الأموية القديمة في الشرق، وربطهم ببني أمية «الولاء»، الرابطة الاجتماعية الأبرز بين العرب والشعوب التي غلبوها، والتي فرضت على أفراد تلك الأخيرة خدمة السلالة العربية الحاكمة في شئون الإدارة كما في الحرب.
طبقًا للمؤرخ المقري التلمساني في كتابه «نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب»، فإن مجموعة كبيرة من موالي الأمويين اقتحموا أرض الأندلس قرب نهاية الربع الأول من القرن الثاني للهجرة/ منتصف القرن الثامن للميلاد. وقد فرضوا أنفسهم عليها سريعًا بقدراتهم العسكرية البارزة. حتى أن عبد الرحمن الداخل عندما عبر من المغرب إلى الأندلس بعد هروبه الشهير من الشرق على إثر سقوط دولة آبائه في دمشق، كان أولئك الموالي هم من رفعوا راياته، ونصروه على العصبية العربية التي سيطرت على الأندلس في تلك الأوقات.
ونتيجة لهذا، فإن عبد الرحمن الداخل اعتبر الموالي عصبيته البديلة، واتكأ عليهم في إقامة دولته بالأندلس. ولم تكن سوى أعوام قلائل حتى تكونت من موالي الأمويين ما عرف في تاريخ الأندلس باسم «البيوتات المولوية»، من أمثال آل شهيد وآل أبي عبدة وآل خالد وآل مغيث وغيرهم. احتكر أفرادها مناصب الدولة كـ الحجابة والوزارة وديوان الإنشاء وقيادة الجيوش. ولم يزاحمهم فيها غير الخصيان والفحول من الصقالبة، والذين أطلق عليهم أمويو الأندلس اسم «الفتيان».
إذن، فعبد الرحمن الأوسط عندما عزل ولاته على قرطبة، إنما كان يعزل أفرادًا من مواليه. وعندما أراد استبدالهم بآخر من خارج أسوار المدينة، كان أيضًا يختار من مواليه.
محمد بن السليم: السمعة الطيبة
لم تمر سوى أيام قلائل حتى رشح للأمير عبد الرحمن الأوسط اسم واحد من مواليه يسكن في كورة شذونة جنوبي الأندلس. واسمه «محمد بن السليم بن أبي عكرمة جعفر بن يزيد بن عبد الله مولى سليمان بن عبد الملك». ونسبه على تلك الصورة يشير إلى أن جده الأعلى عبد الله كان أول من أسلم من ذلك البيت في الشرق، مع دخوله في ولاء الخليفة الأموي سليمان عبد الملك. أما في الأندلس، فيشير المؤرخ ابن حيان القرطبي في كتابه «المقتبس من أنباء أهل الأندلس» إلى أن أول من اشتهر من ذلك البيت كان «أبو عكرمة جعفر بن يزيد»، والذي عقد بقناته -أي رمحه- لواء عبد الرحمن الداخل قبل موقعة المصارة الفاصلة 138 هـ/ 756 م، والتي دارت بين الأخير وبين آخر ولاة الأندلس من العرب يوسف بن عبد الرحمن الفهري.
أما محمد بن السليم، والذي رُشح لعبد الرحمن الأوسط كي يتولى مدينة قرطبة، فقد وُصف أمام الأمير بـ «الحج وحُسن العقل والتواضع». وهي الخلال التي ضمت حسن الدين إلى الذكاء، واحتاجها الأمير بشدة لعلاج عاصمته المأزومة. وبالتالي فإنه بعث فورًا في طلب ابن السليم لتسلم المنصب، واختبار صحة ما قاله الرجال فيه من حسن الصفات.
أيام قليلة أعقبت ذلك، ظهر في نهايتها أخيراً محمد بن السليم بقرطبة. وبعد حديث قصير بينه وبين عبد الرحمن الأوسط، خرج الأول متعجلاً إلى «كرسي المدينة»، وهو بناء ملحق بالقصر الأموي الكبير، كان صاحب المدينة يباشر منه مهام منصبه.
لا تسترح… هناك جريمة
ما إن استقر ابن السليم في كرسيه، حتى أظهرت المدينة نيتها اختباره بسرعة أثارت العجب في النفوس. فقد اقتحم مجلسه فرد من الشرطة وهو يصيح: «يا سيدي. قتيل بحي القصابين (القصاب=الجزار) في شيرة!» والشيرة تعني السلة الكبيرة ذات اليدين أو القفة، وهي في الأصل الكلمة الإسبانية «سيرا»، أدخلها مسلمو الأندلس إلى معاجمهم بعد قلب السين إلى شين كما جرت العادة.
«يا له من استقبال مبشر!» لا بد أن ابن السليم قالها في نفسه وهو يسمع الشرطي. ولكنه كان ثابت الجنان صلبًا، لم تهزه المفاجأة أو تُربكه. بل أمر فورًا بعرض جثة القتيل على أهل المدينة، عل أحدهم يتعرف على هوية صاحبها، ثم طلب الشيرة نفسها -حيث عثروا على القتيل- كي يتفحصها.
لما أتت ابن السليم الشيرة، نظر إليها مليًا فوجدها حديثة الصناعة. إذن القاتل اشتراها قريبًا ليخفي بها القتيل. نظر ابن السليم إلى رجال الشرطة قائلاً لهم: «عليّ بـ الحصارين (صانعو الحصر) كلهم… تجارهم وعمال الأيدي». وعندما أتوه، أمر بتقديم مشايخ طائفة الحصارين إليه، وراح يسألهم: «عمل الشيرات والقفاف مشتبه، أو يعرف بعضهم عمل بعض؟» قالوا: «بل يعرف بعضنا أعمال بعض».
لدينا قاتل
حينذاك أخرج ابن السليم إليهم الشيرة، وسألهم عن صانعها. فقالوا: «هذه من عمل فلان، وهو في الجماعة (أي جماعة صانعي الحصر) واقف». فأمر ابن السليم بتقديم العامل المذكور إليه وعرض عليه الشيرة ثم سأله: «هل تذكر من ابتاعها منك؟». قال العامل: «نعم. اشتراها مني بالأمس فتى عليه هيئة خدمة السلطان. ووصفه كذا». هنا تدخل الشرط والتجار وقالوا: «يا سيدي هذه صفة فلان الأخرس الساكن بحي الرصافة».
قبل المضي في تفاصيل التحقيق الذي كان ابن السليم يجريه، لا بد من التنويه إلى أن لفظ «الأخرس»، والذي نعت به الواقفون المشتبه به، إنما يشير إلى أن صاحبه كان من طائفة «الخرس». وهم مجموعة من المماليك المرتزقة انتسب أغلبهم إلى إقليم أربونة جنوب بلاد الغال (فرنسا حاليًا). استكثر من شرائهم الأمير الحكم بن هشام، والد عبد الرحمن الأوسط، وجعلهم حرسه الخاص. واستعان بهم في القضاء على الثورة الشعبية التي أشعلها ضده عوام قرطبة من أهل الربض الغربي في العام 202هـ/ 818 م، واشتهر بسببها باسم «الحكم الربضي». ونظرًا لعجمة لسانهم وعدم معرفتهم العربية، فقد أطلق الأندلسيون على أولئك المرتزقة الإفرنج اسم «الخرس»، نتيجة انعدام التواصل اللفظي بينهم وبين العرب. وقد نقل الأمير عبد الرحمن الأوسط ملكية الخرس إلى نفسه بعد وفاة أبيه الحكم، وجعلهم أيضًا حرسه الخاص. واستمر سكناهم في الحي الأرستقراطي بالرصافة، حتى خرج من بين صفوفهم ذاك القاتل الذي كاد محققنا ابن السليم أن يكشف عنه.
بعد أن استمع محمد بن السليم إلى كلام المتحلقين حوله. خرج بنفسه على رأس قوة من الشرطة إلى دار المملوك الأخرس. وعندما اقتحم الدار، فتشها ووجد ثياب القتيل فيها، ما كان دليلاً كافيًا وحاسمًا على ارتكاب الإفرنجي للجريمة. وعلى الفور، أمر ابن السليم بالقبض على القاتل وتسليمه للمحاكمة أمام قاضي الجماعة.
المدينة تعود إلى أهلها
طار نبأ القبض على القاتل في شوارع قرطبة. وألهج أهلها بالكلام عن صاحب المدينة الجديد الذي كشف القاتل بفطنته وذكائه. ولما بلغ الخبر مسامع عبد الرحمن الأوسط، أمر بإحضار محمد بن السليم إلى نفسه، ومنحه رتبة الوزارة إلى جانب ولاية المدينة، آمرًا جميع الوزراء في دولته بأن يكونوا تبعًا لرأيه، ليؤسس ابن السليم منذ ذلك الحين بيتًا مولويًا كاملاً باسمه: «آل السليم»، سوف ينجب جيلين أو ثلاثة أجيال من المتقلدين لمناصب الدولة الأموية المختلفة حتى النصف الثاني من القرن الرابع الهجري/العاشر الميلادي.
وبينما اهتمت المصادر التاريخية براتب ابن السليم الضخم الذي بلغ ثلاثمائة دينار شهريًا. ومكانته الإقطاعية الكبيرة في مسقط رأسه بـ شذونة، إلى حد أطلق على مدينة شذونة كلها اسم «مدينة ابن السليم» كما أورد الجغرافي محمد بن عبد المنعم الحميري في كتابه «صفة جزيرة الأندلس، والمنتخبة من كتاب الروض المعطار في خبر الأقطار»، فإن تلك المصادر كلها لم تعتنِ بالقدر نفسه بتتبع التحقيقات البوليسية التي من المؤكد أن ابن السليم قد خاضها من جديد في قرطبة.
بل إن تلك المصادر لم تنبئنا حتى بالتاريخ الدقيق لحادث تولي ابن السليم للمدينة، وإن كانت إشارة عند الفقيه ابن حارث الخشني في كتابه «قضاة قرطبة» حول مشاركة محمد بن السليم في محاكمة ابن أخت «عجب» بالزندقة (وعجب هي محظية الأمير عبد الرحمن الأوسط)، تؤكد على أن ابن السليم قد عين في المنصب الذي منحه الشهرة خلال السنوات الأخيرة من حكم عبد الرحمن الأوسط الطويل. وعلى سبيل التدقيق أكثر، فإن تاريخ ذلك التعيين ربما ينحصر تحديدًا في السنوات الممتدة من العام 233هـ إلى العام 238هـ، والأخير هو تاريخ وفاة الأمير عبد الرحمن الأوسط.
على أي حال، فبجهود محمد بن السليم استرجعت قرطبة عافيتها من جديد. الأمن عاد يظلل شوارعها في الليل والنهار، وأسواقها لم تعد تشكو غش المكاييل أو تعديات اللصوص. أما أهلها، الأغنياء في الرصافة أو الفقراء في الأرباض (كان الرحالة ابن حوقل هو من احتفظ لنا بالتقسيم الطبقي لساكني قرطبة في كتابه «صورة الأرض»)، فقد استعادوا أخيرًا الدفء داخل أسوار المدينة الحجرية، ووراء أبوابها الخشبية العملاقة. والفضل يرجع إلى محققهم البوليسي ابن السليم، صاحب العقل النابه، والذهن المتوقد.