في تقرير لقناة «Vox» على اليوتيوب، كان المراسل يعرض على المشاركين صورة للوحة يغلب عليها اللون الأبيض، ويسألهم عما يرونه. أطلق المشاركون العنان لمخيلاتهم، وبدؤوا في التخمين. أحدهم رأى أنها مجرد قطعة سجاد بيضاء اللون، ثم آخر اعتبرها مجموعة نقاط بيضاء. ثم تدخل العنصر النسائي بإجابات أكثر إبداعًا؛ حيث رأت إحداهن أن هذا الشيء يمكن الطبخ عليه، ورأت أخرى أنها تستطيع تغطية أرضية منزلها بهذا الشيء.

ثم أتت المفاجأة، هؤلاء كانوا يصفون لوحة الفنان «روبرت رايمان» المسماة بـ«Bridge»، والتي بيعت في معرض «Christie’s» في عام 2015 بـ20.6 مليون دولار. تعبر اللوحة عن اتجاه فني ظهر في أواخر الخمسينيات يسمى «Minimalism»، التقليل أو التبسيط بالمعنى الحرفي.

بعيدًا عن الصراع بين هذا الاتجاه واتجاه التعبيرية التجريدية «Abstract Expressionism»، فإن الارتباك الذي أصاب الناس في محاولة تعرفهم على اللوحة البيضاء هو بالضبط ما يصيبنا عندما نحاول تقييم لاعب الوسط المصري «محمد النني»، لأن اللحظة التي تقر فيها بأنه لا يقدم شيئًا، تعود وتتذكر أنه يلعب في أحد كبار الدوري الأقوى في العالم. وما بين التعاطف والإجحاف سنحاول الاستقرار إلى أحدهما.

الدنيا حظوظ

نسيت أن أخبرك أن عنوان التقرير السابق كان: «لماذا هذه اللوحات البيضاء في المتحف، ولو حتى لا؟». أو بمعنى آخر، لماذا يلعب طارق حامد في نادي الزمالك، والنني في أرسنال؟ هل هؤلاء المهرجون الذين ملئوا رءوسنا بضجيج العلم والإحصائيات وتقارير الـ«Scouting» يملكون نظرة أضيق منا جميعًا؟ هل يرون النني أفضل من طارق حامد بالفعل؟!

لنبدأ برحلة لاعب الوسط المدافع في قطاعات الناشئين المصرية. فبمراجعة معظم الأسماء التي أفرزتها هذه القطاعات، فإن الغالبية تتسم بالطابع البدني أكثر من المهاري، باستثناء الدوليين حسني عبدربه وحسام غالي. لأن أهم التعليمات التي يحصل عليها اللاعب تتعلق بعدم المخاطرة بفقد الكرة في مناطقه، وعليه أن يلعب المضمون فقط لا غير. فتم إهمال التكنيك تدريجيًا، والقضاء على بوادر الإبداع من جذورها.

لذلك فإن طارق حامد وحسام عاشور وغيرهما من الأساطير الجماهيرية تعتمد بشكل أساسي على المجهود، بجانب ارتكاب عدد لا نهائي من المخالفات تحت مسمى «فاول تكتيكي» أو «الجرينتا». أما الخروج بالكرة وجودة التمريرات ونوعيتها فهي أمور ثانوية يمكن التغاضي عنها. الرحلة التي مرت بها كرة القدم في التحول من «ماكيليلي» إلى «بوسكيتس» لم تمر من مصر.

محمد النني هو إفراز آخر لنفس قطاعات الناشئين، لكنه حصل على فرصة في سن مبكرة للذهاب إلى أوروبا لتجنب مسار من سبقوه. اختياره البدء في الدوري السويسري رفقة نادي بازل كان مناسبًا، لذا يمكننا القول إن لاعب نادي المقاولين العرب السابق حصل على حظه بيديه وليس صدفة.

مزيد من الحظ

أشارت صحيفة الجارديان البريطانية إلى بدايته الخجولة في سويسرا. فكما كان خجولاً خارج الملعب – بسبب عدم إتقانه الإنجليزية- كان خجولاً أيضًا داخله. تمريراته روتينية تخلو من المخاطرة – كما أشرنا سلفًا – أو كما وصفه التقرير «no-risk kind of player». لكن النني كان يتطور بهدوء حتى أصبح يجيد كل مهام لاعب الوسط حتى التمريرات الطويلة والتسديد، على حسب وصف المدرب الأمريكي السابق لمنتخب مصر «بوب برادلي».

عُرِف النني بمجهوده الجبار، فكان الأكثر قطعًا للكيلومترات في دور المجموعات من دوري أبطال أوروبا في موسم 2014/15، وأيضًا في الدوري الأوروبي في موسم 2015/16. ومع أرقامه الخزعبلية في دقة التمرير، كان المصريون لا يعيرونه اهتمامًا. قد يكون السبب هو انخفاض تفاعل الجماهير المصرية مع الكرة بشكل عام نظرًا للأحداث التي كانت تمر بها البلاد، بجانب دخول المنتخب المصري في مرحلة الغيبوبة، أو أننا بكل بساطة نهتم بالمهاجمين فقط.

قرر الحظ أن يتدخل لمكافأة النني، محاولاً إدخاله اهتمامات المصريين رغمًا عنهم، عندما قرر أرسنال دخول الانتقالات الشتوية مرغمًا – بسبب إصابة كل من فرانسيس كوكلين، وسانتي كازورلا – والتعاقد مع الدولي المصري في سن الـ23. أخبرنا أرسين فينجر حينها بأنه كان يتابع اللاعب منذ عام تقريبًا، ووفقًا لإمكانياته وسلوكه وتطوره الملحوظ فعلينا انتظار المزيد منه، لكن توقعات المدرب الفرنسي تحولت إلى العكس تمامًا.

متلازمة «أحمد عادل عبد المنعم»

كانت البداية مبشرة، فالنني وجد نفسه أساسيًا ولم يكتفِ بذلك فقط، بل أحرز هدفًا رائعًا أمام برشلونة في دوري أبطال أوروبا على ملعب الأخير. ورغم تجاهل المصريين، تعاطف معه مشجعو فريق المدفعجية منهم، حتى بدأ النني في الدخول في متلازمة أحمد عادل عبدالمنعم.

دون مقدمات، أصبح النني غير مبالٍ بدخول التشكيل الأساسي لفريقه. لا يهم إن كان ترتيبه الثالث أو الرابع أو الخامس في خط الوسط، أو أن لاعبًا شابًا بعمر الـ19 عامًا مثل ماتيو جندوزي يأتي من خارج البريميرليج ليلعب أساسيًا بدلاً عنه. طالما الفريق الإنجليزي يشارك في أربع بطولات في الموسم، فإن فرصة المشاركة ستأتي دون الذهاب إليها.

شهد الموسم الماضي 2017/18 أكثر عدد دقائق لعبها محمد النني في بطولة الدوري، بـ 870 دقيقة فقط في 13 مشاركة. فأصبح جمهور أرسنال معتادًا على رؤية اللاعب المصري في الفيديوهات الترفيهية لقناة النادي أكثر من رؤيته في الملعب. تراجعت أرقام الدولي المصري، وتوقف معدل تطوره، بل وعاد لتمريراته المضمونة وأضاف إليها رقمًا كارثيًا آخر، حيث سجل عدد 0.45 عرقلة ناجحة لكل 90 دقيقة.

إحصائيات محمد النني مقارنة بلاعبي وسط أرسنال في موسم 2017/18

وبالطبع كانت هذه النتيجة المنطقية عندما تصبح حالتك شبيهة بأحمد عادل عبد المنعم، الذي ظل حارسًا ثالثًا للنادي الأهلي لعدد لا نهائي من السنوات، تحت مسمى الالتزام وحب النادي. لكن حقيقة الأمر، أن عدم المنافسة والرضا بالدقائق القليلة يعجلان بانتهاء مسيرتك مبكرًا.

اللاطموح في سن الطموح

في حواره مع صحيفة الجارديان، تحدث النني عما مر به في صغره كي يصل إلى ما وصل إليه. دربه والده منذ سن الثالثة، وكان يصر أن يذهب إلى سريره مصطحبًا الكرة كي يزيد تواصله معها. اللعب في الشارع لعشر ساعات متواصلة جعل منه ذلك العدّاء الذي لا يتوقف عن الركض. رحلة طويلة قطعها حالة غير مبررة من اللا طموح.

أصبح النني هو الوجه الأكثر انتشارًا في الفيديوهات الترفيهية لقناة النادي. عندما كان أرسين فينجر يتحدث عنه قبل مباراة نصف نهائي الدوري الأوروبي ضد أتلتيكو مدريد وصفه بالمحبوب من الجميع قبل أن يتطرق لوصفه داخل الملعب. النني نفسه اندمج مع وضعه الجديد وأصبح مدمنًا للتغريدات الفكاهية. بالطبع المرح ليس أمرًا تافهًا لكن لا يجب أن تحصر نفسك فيه.

إلى هنا والأمر يخص فقط محمد النني، سواء أراد البقاء في أرسنال كموظف قنوع، أو قرر الرحيل نحو مزيد من مشاركة، من أجل مزيد من الأخطاء يقابلها مزيد من التعلم. لكن الأسوأ من ذلك هو ما يحدث في المنتخب المصري، فالنني يجد مكانه محجوزًا رغم تراجع مستواه، لأنه يتدرب جيدًا في أرسنال. وبما أن مكانه محجوز، فما الداعي للتعب والانتقال إلى نادٍ آخر؟

لمزيد من الفلسفة، يقول الرسام «فرانك ستيلا»: «ما تراه هو ما تراه». واللوحة البيضاء التي أشرنا لها في البداية ستظل تراها هكذا، حتى لو قمت بقلبها رأسًا على عقب كما فعل عادل إمام في فيلم «عريس من جهة أمنية». لا حاجة لـ«التزويق»، أو ادعاء رؤية ما ليس موجودًا لمجرد وجود النني في نادٍ بحجم أرسنال.

لا أحد يتحمل مسئولية السخط الذي يتعرض له النني من الجماهير المصرية سوى النني نفسه. بالطبع نحن لا نحتاج لتذكيرك بأن المقصود بالسخط هو الانتقاد وليس السب والتجريح. هو بمحض إرادته قرر أن يتوقف عن التطور، والاكتفاء بما هو ليس كافيًا من الأساس. ما زال بإمكان لاعب بازل السابق تصحيح المسار. لكن عليك أن تعلم أنه حتى لو لم يفعل، فإن تجربة محمد النني لا تعني أبدًا أن أقرانه من الدوري المصري يستحقون أيضًا رحلة إلى أوروبا.