في قطر

نور الصباح تسلل إلى داخل الغرفة ليعلن عن بدء يوم جديد، إلا أن هذا الذي يضطجع على سريره لم يذق النوم طوال الليل، ينهض ليقف في الشرفة التي تطل على حدائق خضراء مرتبة بعناية فائقة.

سكون تام يغلف المشهد لكن ما يضج بداخل الرجل على عكس المشهد تمامًا. صوت أفكاره يكاد يسمعه بأذنيه، هل سيظل في غربته للأبد؟ بين براءة لا تأتي وإدانة لا تثبت يتأرجح طوال سنوات ماضية. أُدرج على قوائم الإرهاب بتهمة تمويل جماعة إرهابية، ألغي الحكم في النقض بالفعل إلا أنه هناك حكم مماثل بنفس الشأن. يشعر بمحبة كل من حوله في غربته ولا ينكر المدد الذي يحصل عليه من مصر عبر وسائل التواصل الاجتماعي. إلا أنه اشتاق لسماع اسمه من هؤلاء البسطاء الذي أتي منهم وسطع نجمه بفضلهم حتى أصبح اسمه علامة مسجلة؛ محمد أبو تريكة.

يغلق هاتفه بعد أن يرتدي كامل ملابسه متوجهًا لمطار الدوحة دون أن يبلغ أحدًا حتى أهله في مصر، فدقيقة واحدة من نقاش منطقي قادرة أن تثنيه عن قراره المجنون، إلا أن صورة والده الذي مات ولم يدفنه لا تفارقه، وصورة ولده وهو يأخذ عزاء جده عوضًا عن أبيه تزيده حزنًا وجنونًا، هي العودة لمصر إذن وليكن ما يكون.


في مصر

يعود أبو تريكة لمصر التي تنقلب رأسًا على عقب لعودته. تقام محاكمة عاجلة فيتجمهر الآلاف خارج مبنى المحكمة، مما يصعب على القضاة دخول القاعة من الأساس فيلجأ النظام المصري إلى اقتباس نظام المحاكمة الأمريكي والإنجليزي الأصل الخاص بوجود هيئة من المحلفين وذلك لتهدئة الرأي العام ومشاركة الجماهير للاستماع لتفاصيل القضية التي تم حجب النشر عنها بالطبع بل والمشاركة في عملية تطبيق العدالة أيضًا.

اثنا عشر رجلًا يجلسون على يمين القاضي تم اختيارهم بالاقتراع السري يستمعون إلى وقائع القضية وفقًا لقواعد التفكير المنطقية والقانونية، ثم يتوصلون بالإجماع إلى نتيجة نهائية يقدمونها للقاضي ليحكم مستعينًا بها.

تبدأ هيئة الادعاء في تقديم الأدلة الواضحة لكون المتهم مذنبًا ويستحق العقوبة، بينما تمارس هيئة الدفاع دورها في دحض تلك الأدلة وينتهي الأمر باللجوء أخيرًا إلى هيئة المحلفين الذين إما سيقرون بإدانة المتهم أو سيبرئونه ثم يقدمون رأيهم الاستشاري فقط للقاضي المنوط بالحكم على الرجل.


داخل غرفة هيئة المحلفين

في غرفة ملحقة بقاعة المحاكمة يبدأ النقاش بين 12 رجلاً كالتالي..

المحلف رقم 1: باعتباري رئيس هيئة المحلفين فسأحاول أن أجعل الأمر أكثر تنظيمًا، أنتم تعرفون بالطبع أن قرارنا يجب أن يكون بالإجماع سواء كان القرار أن المتهم مذنب من عدمه. نحن نريد اثني عشر صوتًا مماثلًا لأي من الجانبين، كلنا نعرف أن القضية حساسة للغاية وأن المتهم لاعب كرة قدم مشهور وأننا أول هيئة محلفين في البلاد، ولكن دعونا نلقي بكل ذلك جانبًا ونصل لقرار.

المحلف رقم 3: بالطبع سنلقي كل ذلك جانبًا فنحن نختلف عن هؤلاء المتجمهرين حول المحكمة، لقد تم اختيارنا بعناية على ما يبدو.

ثم ينظر للجميع بما يشبه التهديد ثم يردف مخاطبًا المحلف رقم 1: لدي اقتراح، فلنقم بتصويت مباشر وننهي المسألة مبكرًا فالأمر لا يحتاج لكل هذا الوقت، الرجل مذنب وهذا واضح للجميع.

المحلف رقم1: حسنًا فلنقم بتصويت مباشر، من يرى المتهم مذنبًا فليرفع يده، ثم يبدأ بالعد وينتهي التصويت بنتيجة مثيرة بعض الشيء، 11 رجلاً قالوا مذنبًا مقابل رجل وحيد لم يرفع يده.

ينظر الجميع للرجل الذي يجد نفسه مطالبًا بتوضيح موقفه.

المحلف رقم 8: حسنًا، أنا لا أستطيع أن أقر بأن الرجل مذنب بهذه السرعة، على الأقل فلنتحدث عن الأمر.

المحلف رقم 7: علام نتحدث؟ لقد كنت معنا في قاعة المحكمة واستمعت لتفاصيل القضية، حتى المحامي لم يجد ما يقول للدفاع عن الرجل.

المحلف رقم 8: نعم، لكن القاضي ينتظر منا رأيًا نحو القضية، فلماذا لا نتحدث على الأقل لمدة ساعة؟

المحلف رقم 3 غاضبًا: هل تراه بريئًا بالفعل؟ لقد أثبتت جميع الأدلة أن الرجل يملك شركة بالفعل بالشراكة مع عناصر من خلية محظورة.

المحلف رقم 8: هي لم تكن محظورة حينئذ، والرجل يملك العديد من المواقف الإنسانية التي يصعب معها التصديق بكونه يريد الخراب للبلاد. كما أنه ساهم في فرحة الملايين خلال مشواره مع كرة القدم، اننا ندين له ببعض الكلمات على الأقل.

المحلف رقم 4: كرة القدم! نحن لا ندين للرجل بأي شيء، لقد لعب كرة القدم وتربح منها وانتهى الأمر. أرجو ألا تؤثر قيمته كلاعب كرة في الحكم، إنهم لم يختارونا كهيئة محلفين لنتحدث عن كرة القدم، أرجو أن تكونوا على قدر المسئولية ولنترك تفاهات كرة القدم للمقاهي.

المحلف رقم 5 محتدًا: تفاهات كرة القدم! أنت تخرج مع عائلتك لتحتفل طوال الليل بفوز فريقك ثم في الصباح تتحدث في العمل عن تفاهة كرة القدم، كرة القدم هي متنفس البسطاء وعشقهم وليست تفاهات، لقد لعبت كرة القدم حتى تركتها بعد إصابتي وما وجدت أصدق منها طوال حياتي.

المحلف رقم1: حسنًا، نقطة نظام من فضلكم، الأمر بسيط، فليتحدث كل منا لدقيقتين ويشرح للمحلف رقم 8 لماذا هو مقتنع بأن الرجل متهم.

لاقى اقتراح رئيسة المحلفين قبول الجميع وبدأ المحلف رقم 2 الحديث للمرة الأولى:

المحلف رقم 2: حسنًا هناك أوراق تدل على مشاركته عناصر ضد الدولة في نشاطات ربحية، مما يعني ببساطة أنه تمويل ضد الدولة

المحلف رقم 3: نحن في وضع خطير يا سادة، مصر تتعرض لمخططات عدة لدول لا تتمنى لها الاستقرار، لا تنخدعوا في ابتسامته الزائفة، هم هكذا أنا أعرفهم جيدًا يتخفون خلف آلاف الأقنعة، لا تكونوا بهذا القدر من السذاجة، فلا شيء أهم من الوطن.

المحلف رقم 4: حسنًا الأمر بسيط، الرجل يمتلك قدرًا كبيرًا من الجماهيرية وهو ما يؤثر على قرار البعض، لكن بالنظر لتفاصيل القضايا فالرجل لديه مشكلة مع الضرائب مما يعني أنه لا يتسم بالوطنية كما يبدو عليه، ثم هناك مسألة الشركة تلك. كما أن روايته الخاصة بأن تلك الشركة لا تتعدى نشاطًا تجاريًا عاديًا هو ليس بالمنطقي، أنا أؤمن بالمنطق ولا أجده في حديث ذلك الرجل.

المحلف رقم 5: أرجو تجاوزي ليرد عليه رئيس هيئة المحلفين بالموافقة.

المحلف رقم 6: أنا أعرف بعضًا ممن ينتمون لقرية هذا الرجل، إنهم يؤكدون أنه يميل للتدين منذ الصغر وهكذا هي عائلته بالكامل، الأمر منطقي ولا أري فيه شكًا. كما أنه لديه من الدراويش الذين يحاولون لصق صفات النبوة به، صدقني كل هذا هراء، أنا اؤكد لك أنه مثل باقي لاعبي كرة القدم يجيد التمثيل والادعاء.

المحلف رقم 7: نعم كما أنه هناك أقاويل بدعمه اعتصام الجماعات المحظورة ماديًا.

المحلف رقم 8: يا إلهي هل تصوتون في صف اتهام الرجل لأنه لاعب كرة يجيد التمثيل، متدين تكاثرت حوله الأقاويل؟ حسنًا إذا كنتم مقتنعين بالمسألة فأنا لن أكون عائقًا دون جدوى فلنعد التصويت، إذا امتلكتم 11 صوتًا بذنب الرجل فسأوافق لكن ليكن تصويتًا سريًا.

يوافق الجميع ويكتب كل رجل قراره في ورقة ويسلمها لرئيس الهيئة لينهي فرزها معلنًا النتيجة 10 أصوات “مذنب” مقابل اثنين “غير مذنب”، حسنًا الأمر يبدو غير مفهوم.

يتهم الجميع المحلف رقم 5 والذي من المؤكد أنه تأثر بكونه لاعب كرة قدم سابق، إلا أن المحلف رقم 9 يعلن أنه هو من صوت بقرار “غير مذنب” لاحتياجه وقتًا أكثر ليتحدث عن القضية.

يبدو بعضًا من علامات الارتياح على وجه المحلف رقم 8 ثم يبدأ في الحديث:

حسنًا أنا لا أقول إن الرجل غير مذنب، حقيقة الأمر أنا لا أعرف كونه مذنبًا أم لا، لكني لدي شك معقول نحو ما تتحدثون به.

أنتم تتحدثون عن إرهابي خطر على المجتمع رغم أن المجتمع أعظمه يؤيده، الأمر لا علاقة له بكونه كان داعمًا لجماعة تم حظرها من قبل الدولة في الانتخابات الرئاسية، كم واحدًا منكم يملك من معارفه من قام بانتخاب ممثل تلك الجماعة بدافع أنه يتحدث باسم الدين او كرهًا في الوجوه القديمة؟ كم منكم قام بذلك بنفسه!

يرفع ثلاثة أشخاص أيديهم ثم يكمل الرجل: هل تتحدثون عن أقاويل تتهمه؟ ألم ترد إليكم أقاويل تؤيد صحة موقفه أو حتى مواقف إنسانية له مع فقراء؟

المحلف رقم 10: نحن لا نتحدث عن الإنسانيات هنا.

المحلف رقم 8 مقاطعًا: أنتم تتحدثون عن أقاويل وأخبار وانتماءات عائلته. كل تلك ليست حقائق، فلماذا تصر أن تغفل الإنسانيات؟

المحلف رقم 11: أنا أعرف أكثر من أسرة تعيش على مساعدات الرجل، أعرف ذلك بشكل مباشر ولا أصدق كونه إرهابيًا، ربما أخطأ بتلك الشراكة، ربما تم استغلاله لكنه ليس إرهابيًا بالطبع.

المحلف رقم 8: هذا ما يسمى بالشك المعقول.

المحلف رقم 11: أنا أريد تصويتًا جديدًا، لقد غيرت رأيي.

يقر رئيس هيئة المحلفين بتصويت جديد ويعلن النتيجة ستة أصوات مقابل ستة أصوات.

يندفع بعدها المحلف رقم 3 نحو المحلف رقم8: أنت تلوي الحقائق، أنت وأمثالك من المغفلين هم الوقود الذي يمكنهم من الاستمرار. لماذا لم يخرج الرجل ويتحدث مباشرة للجميع ويتنصل من كل تلك التهم؟ لقد عاد لاستغلال أمثالكم في الحصول على البراءة.

المحلف رقم 8: تلومون الرجل على التحدث في السياسة من قبل، ثم تستنكرون صمته الآن، الرجل قال إنه صمت احترامًا للقضاء، هل ذلك يعيبه؟

المحلف رقم 2: كما أنه أوضح أ ن تلك الشركة قد خرج منها الشريك المنتمي للجماعة، كما أنها قامت بتنظيم رحلات لأسر شهداء الجيش والشرطة، لماذا لا نطلب مراجعة سجلات تلك الشركة؟

المحلف رقم4: هذا الرجل يجيد التلاعب جيدًا، من قبل أيضًا وقف في صف ما يسمى بالألتراس ضد موقف ناديه.

المحلف رقم5: هل تحاسبون الرجل على كونه صاحب رأي، ربما تتفق معه أو تختلف ولكن هل تمسكه برأيه يعد عامل اتهام له؟

المحلف رقم4: يبدو أنكم تتبنون فكرة المصالحة مع أعداء الوطن.

المحلف رقم 8: أرجوك لا تستخدم هذا الأسلوب. الرجل أنكر أنه تواجد في الاعتصام، كما أنكر أنه قام بإمداده بأية مساعدات، كما أنكر معرفته بأقارب أحد المتهمين في قضية كرداسة، الرجل أوضح منك في دفاعه عن اتهامك له.

المحلف رقم4: وأنا لا أصدقه!

المحلف رقم8: حسنًا فلنطلب تحريات أكثر عن كل شيء ولكن لا نقر باتهامه لظن منا.

المحلف رقم1 يدعو لتصويت جديد، النتيجة تشير لـ 11صوتًا غير مذنب وصوت واحد مذنب، إنه المحلف رقم 3 الذي يصيح غاضبًا.

أنتم لا تدرون شيئًا عن الوطن، أنتم ستغرقوننا، سنتحول إلى أشلاء دولة بسبب تلك الإنسانية الخرقاء، هؤلاء يجب أن يبادوا، لو كان الأمر في يدي لأمرت بإعدامه دون محاكمة، نحن من نصنع مجد هذه الأمة وليس هؤلاء، أنا أفضل منه، قضيت حياتي كلها في خدمة ها الوطن ثم ماذا؟ لا يعرفني أحد لا أحصل على تعاطف أحد.

المحلف رقم 8: هل بناء على كل ما سمعته أنت تثق تمام الثقة بأن الرجل مذنب؟

المحلف رقم3: لا ثم يصمت.

ينتهي الأمر بمشهد للقاضي على وشك النطق بالحكم بعد أن استمع لرأي هيئة المحلفين الاستشاري دون أن تبدو على وجهه علامات الاهتمام.

هذا النص تخيلي مبني على محاكاة الفيلم الأمريكي 12 رجلاً غاضبًا للكاتب ريجنالد روز والذي تم إنتاجه عام 1957.