«محمد توفيق»: استعادة أمجاد الصحافة الأدبية
شكّلت الصحافة والعمل الصحفي في العالم العربي رافدًا مهمًا ومنبعًا خصبًا لكثيرٍ من الكتّاب حوّلهم في وقت من الأوقات إلى روائيين مرموقين، أصحاب بصمة مميزة، وذلك منذ فترة مبكرة في حياتنا الأدبية والثقافية، لعلنا نذكر منهم مثلاً «مصطفى أمين»، و«فتحي غانم»، وغيرهما الكثير، وربما طغى الجانب الصحفي على بعضهم فعرفوا بكونهم كتابًا وصحفيين أكثر من كونهم أدباء، ولكنهم أثروا الحياة الأدبية بالعديد من الروايات والأعمال الأدبية المميزة.
ولكن ثمة فريقًا آخر من الصحفيين حملوا على عاتقهم همًا آخر؛ يتمثّل في الانطلاق من الصحافة إلى الأدب بكتابتهم دون أن يكونوا «روائيين»، أو يعرفوا «كأدباء»، وتمثل ذلك في كتابتهم الصحفية التي حملت الطابع الأدبي المميز، وإن ظلوا أوفياء للصحافة مهنة البحث عن الكنوز والجمال والتفرد، مع المتاعب أيضًا، لعل أبرز هؤلاء كان «أنيس منصور»، و«عبد الوهاب مطاوع» اللذان تركا تراثًا أدبيًا صحفيًا لا يستهان به، وكذلك «محمود عوض» الذي يعد علامة مهمة وفارقه في تاريخ الصحافة الأدبية في مصر، وغيرهم كثيرون أيضًا.
اقرأ أيضا:«فتحي غانم»: الروائي الثري متعدد الأوجه
وفي الوقت الذي يتهافت فيه الكثير من الكتّاب الشباب إلى كتابة الرواية بأنماطها المختلفة اختار الكاتب والصحفي «محمد توفيق» أن يجعل كل تركيزه في المواضيع الصحفية التي تخص الأدب، أو الجمع بذكاء بين الأدب والصحافة في مؤلفاته التي بلغت ثمانية كتب حتى الآن، يحمل كل منها طابعًا خاصًا ومميزًا ويحمل في كل منها مشروعًا صحفيًا خاصًا، يكتبه بأسلوبه الأدبي الجميل، ويقدّم فيه للقارئ مادةً ثقافية تجمع بين المتعة والفائدة.
كان أول تعرفي على كتابة «محمد توفيق» من خلال كتابٍ لم أكن أتوقع أن أهتم به أصلاً، ذلك أنه بعيد عن عالم الأدب، كتاب يحمل اسم «مصر بتلعب»، وعنوانه الجانبي «كيف تحوّل الشعب المصري إلى جمهور»، كان ظهور هذا الكتاب في 2010 هادئًا وربما يكون عابرًا، رغم أنه لفت نظر البعض، خاصة أنه كان غريبًا أن ينطلق أحد من الكرة إلى السياسة، ويتحدث بشكل مباشر عن الدور الذي تلعبه الدولة/النظام في تحويل الشعب «السياسي» إلى شعبٍ متفرج لا هم له إلا متابعة «مباريات كرة القدم» التي كانت المكان الوحيد الذي ترتفع فيه الأعلام ويهتف فيه المصريون باسم «مصر»!
وكانت المفاجأة أن هذا الكتاب لم يكن عن «كرة القدم» ودورها في إلهاء الشعوب فحسب، بل هو رصدٌ دقيق وتحليل موجز لأكثر العيوب والمشكلات الموجودة في الشعب المصري والتي سببها في الغالب نظام الحكم الذي لا يريد من الناس أن يكونوا «صانعين للأحداث» ومشاركين فيها، بل مجرد «متفرجين»!
تعرفت على «محمد توفيق» إذن واستعدت معه هذا العالم المميز من الكتابة، وأدركت أن هناك صحفيًا مختلفًا يكتب بدقة وعناية فائقتين، وربما كاد اسمه يغيب عن ناظري، حتى عاد للواجهة مرة أخرى بكتابه الذي أعتقد أنه عرف الكثيرين به، وسلّط عليه الأضواء لفترة طويلة لاسيما وقد صدر بعد ثورة 2011 وهو كتاب «الغباء السياسي» وعنوانه الجانبي «كيف يصل الغبي إلى الحكم في مصر»، بل واعتقد البعض أن في العنوان إشارة إلى «محمد مرسي» بعد وصوله إلى الحكم. ولكن الكتاب كان دراسة أعم وأشمل من الرؤساء الحاليين، وإن كان ـ لسوء الحظ ـ ينطبق على كثيرين منهم، ربما بمن فيهم الرئيس الحالي.
في «الغباء السياسي» يرصد «توفيق» أشهر الطرق التي يصل بها «الغبي» للحكم في مصر، مثل «التوريث» أو وفاة رئيس سابق وتولي «نائب الرئيس» الذي لم يكن معدًا لذلك الدور أصلاً، أو وصول حاكم بعد ثورة لم تكتمل، بعد انتشار الفوضى والشعور بالإحباط مما يدفع الناس للقبول بأي حاكم حتى لو كان مستبدًا أو غبيًا!
كما يتناول الكتاب أمراض «الغباء السياسي» المتمثلة في سيطرة الهاجس الأمني على الحاكم، والاستبداد والطغيان بغير حدود، وقمع كل أصوات المعارضة بشكل سافر، ولاحقًا سيتحدث «محمد توفيق» عن الرئيس الذي وصل إلى مصر بمحض الصدفة، أو بضربة حظٍ لم يحسب لها حسابًا، ولكن يبدو أن «النحس» لازمه، فعيّن وزيرًا للدفاع انقلب عليه وأخذ منه ومن جماعته حكم مصر! جاء ذلك في كتابه «النحس» الذي تناول بشكلٍ طريف وذكي، وبرصدٍ لعدد من المفارقات التاريخية، الحظ ودوره في الحياة السياسية أو الفنية في مصر!
وإذا كانت هذه الكتب قد عرّفتنا على جوانب مهمة من كتابة «محمد توفيق» ودراسته الصحفية حول مواضيع سياسية وتاريخية شائكة بعينها، إلا أن «توفيق» قد اهتم أيضًا بجوانب خاصة في حياة عدد من مبدعينا الكبار، فقرر أن يكتب عنهم كتابة أقرب ما تكون إلى سيرة ذاتية خاصة جدًا تحمل طابعًا مميزًا، ولا تقتصر على المعروف والشائع من سيرة هؤلاء المبدعين ومسيرتهم، بل حرص على مقابلة من كان منهم حيًا أو الاقتراب من عوالمهم بالقدر الكافي والتواصل مع أبنائهم.
ولذا أخرج لنا كتابًا مهمًا عن العبقري الراحل «صلاح جاهين» سرد فيه فصولاً مهمة من علاقته بالفن والشعب المصري، وكيف استطاع أن يكون صوتًا جماهيريًا حقيقيًا يعكس آمال الشعب وأحلامه وطموحاته، وقد أضاف توفيق في الكتاب عددًا من الوثائق النادرة والصور الشخصية «لصلاح جاهين» التي تنشر لأول مرة.
وحرص «محمد توفيق» أيضًا على لقاء «أحمد رجب» قبل وفاته، ذلك الكاتب الاستثنائي الذي يجمع بين الجدية وخفة الدم، واستطاع أن يحصل منه على أسرار ومقالات ينشرها في كتابه «أحمد رجب ..ضحكة مصر»، كما كان لقاؤه مع الشاعر المصري الكبير «عبد الرحمن الأبنودي» علامة فارقة في مشوار حياته في الكتابة والصحافة، أصدر على إثره كتابه «الخال»، الذي لم يكن مجرد سرد لسيرة الأبنودي الشخصية فحسب، وإنما الإطلال على مصر وحكامها من خلال شعر الأبنودي وعلاقته بكبار الشخصيات في السياسية والفن والأدب، كل ذلك من خلال مواقف وقصص يرويها «محمد توفيق» وينقلها عن الأبنودي بسلاسة وتفرد.
وإذا كانت هذه الكتب الثلاثة تتناول بالتفصيل سيرة وحياة هؤلاء المبدعين بأسلوبه الشيق الممتع، فقد رأى أيضًا أن من واجبه أن يعرّف الأجيال الجديدة على عددٍ ممن سماهم «أولياء الكتابة الصالحين» في كتابه الذي يحمل نفس العنوان ويطوف به على سيرة ومسيرة ثلاثين كاتبًا من أهم كتابنا المعاصرين، سواء من معلمي الصحافة أو الأدب والشعر.
فتحدث عن (أحمد بهاء الدين، ومصطفى أمين، وكامل الشناوي، وأمل دنقل، ومحمود درويش، وجلال عامر، وفتحي غانم، ويحيى الطاهر عبد الله) وغيرهم الكثير، عارضًا في كل مرة نبذة موجزة عن حياته وأكثر ما يميز مسيرته الأدبية أو الفنية، وهو في عرضه لتلك الشخصيات المهمة إنما يفعل ذلك بدافعٍ من الواجب وكنوعٍ من رد الجميل لهؤلاء الكتّاب الذين أثروا حياتنا الثقافية والأدبية، وبقي أثرهم حتى اللحظة الحالية وربما يمتد لأجيالٍ تالية.
اقرأ أيضا:بديلًا عن الانتحار: ملامسة روح «أمل دنقل» في ذكراه
فكرةٌ أخرى لمعت في ذهن «محمد توفيق»، وربما يكون كتاب «أولياء الكتابة» هو الذي أوحى له بكتابتها، أو التفكير في رصدها، وهو الحديث عن عدد أكبر من المبدعين الذين أسعدونا بطريقة أخرى ليس بالكتابة فحسب، وإنما ربما بالتمثيل والغناء والإخراج أيضًا، فكتب لذلك كتابه الأخير «صنّاع البهجة» الذي ضم فيه إطلالات موجزة وسريعة لخمسين شخصية من الممثلين المحترفين منذ أفلام الأبيض والأسود (مثل ماري منيب، وإسماعيل يس).
حتى نجوم الصف الأول في أيامنا الحالية مثل عادل إمام، ومحمد هنيدي، وعلاء ولي الدين، وغيرهم، ولكنه لم يقصر كتابه على «المضحكين» بل رأى قدرًا من البهجة الخاصة الخالصة تشع من أغنيات «ماجدة الرومي» مثلاً، و«فيروز» وكلمات «نزار قبّاني» وسخرية «عمر طاهر» و«باسم يوسف» مثلاً، كما رصد بهجة خاصة تحملها أقدام «محمد أبو تريكة»، و«رونالدو»، و«حازم إمام»، وغيرهم.
يذكرنا «محمد توفيق» في هذا الكتاب مع كل شخصية بذلك الأثر الباقي من كلٍ منهم، وتلك اللحظات السعيدة التي قضيناها معهم، حتى لو تغيّر بنا وبهم الزمان، إلا أننا في النهاية قادرون على أن نتوقف ولو للحظة لاستدراك هذه البهجة الاستثنائية التي صنعها هؤلاء، كل بطريقته الخاصة.
والقارئ لمحمد توفيق يجد متعة خاصة في كتابته وطريقة حكايته للمواقف وعرضه للمعلومات التي ترد في كتبه، والتي تأتي كلها بطريقة سلسلة لا يشعرك فيها بثقل أو جفاف المعلومة التاريخية بل يقدمها لك على أنها حكاية تحمل الطرافة والفائدة في الوقت نفسه، وتجد نفسك قد خرجت من كتاباته بقدرٍ كبير من المعلومات وبمتعة فنية وأدبية كبرى في الوقت نفسه، كما أنه يحرص على توثيق قراءاته بذكر عدد من المراجع أو الكتب المهمة التي استند إليها واطلع عليها أثناء كتابة كل كتابٍ من كتبه.
الجميل بعد هذا كله أن الكتابة عن «محمد توفيق» وإصداراته لا توفيه حقه، فنحن إزاء كاتب متحدث لبق من طراز خاص، ليس ممتعًا في كتابته ومؤلفاته فحسب، وإنما يجيد أيضًا عرض موضوعه بنفس الأسلوب الشيق الذي يكتب به وربما بشكل أكبر، تجدر الإشارة في النهاية إلى أن محمد توفيق يُعد الآن كتابًا بعنوان «ملك وكتابة» يتحدث فيه عن السلطة والصحافة في مصر، ويتناول فيه تاريخ الصحافة المصرية وعلاقة الحكّام بها في كل فترة، وسيكون من ثلاثة أجزاء.