«بحر الحياة غدار»: محمد منير ومُعضلة الاغتراب
قد نختلف حول أفضل مُغنٍ في حقبة الثمانينيات والتسعينيات، فقد شهد العقدان صعود جيل من المُطربين، تميز كل منهم بلون التزم به طيلة حياته المهنية؛ مثل عليّ الحجار، ومحمد الحلو، وعمرو دياب. لكن أحدًا من هؤلاء لم يؤتَ ما أوتي محمد منير، فقد اتسمت مسيرته من البدايات حتى الآن بلون فلسفي جذّاب، لون يُحاكي الغربة وأوجاعها وألوانها؛ غربة المكان والزمان والنفس.
لا شك في أن كل من سمع أغاني محمد منير انتابه شعور متناقض حيال الكلمات واللحن، فأحيانًا ما تكون الألحان شجية، بها وصلة من الطرب والرقص، لكن الكلمات غير ذلك، فكلماته المُنتقاة لها أبعاد وما ورائيات أعمق مما يظن السامع والقارئ.
عُدت واستمعت لأغلب أغانيه، علِّ أجد مادة دسمة لعرضها وتحليلها، فوجدت– رغم تنوع محتواه– شيئًا واحدًا ثابتًا؛ الغربة، وهذا ليس بالشيء العجيب، لكنَّ أسلوبه في تناول الأمر- مع الشعراء الذين تعامل معهم- يُعد غريبًا علينا؛ فتناوله لمسألة الغربة، كأنها أمر وارد، عادي الحدوث، بل وحتمي الوقوع أيضًا، كان موضعَ اهتمامٍ لي.
مُتلازمتا اليأس والأمل
في جُل أغاني الكينج، نرى متلازمتين؛ الاستياء من الغربة، والدعوة نحو السعي ونبذ الحزن، أو بلغة أكثر دقة، متلازمتيْ اليأس والأمل. فإن كلَ غربة يصحبها يأس خانق، يلزمها أمل صادق، لعبور محنة الاغتراب. وفي السطور التالية سأحاول الإشارة للمتلازمتين.
في أُغنية «دوّر على الناس» تتلمس متلازمة الغربة بين الكلمات؛ غُربة الإنسان قبل الأوطان، فيقول: «حيران مش لاقي مرسيا»، مُشبهًا نفسه بسفينة لا تكاد ترسو إلا وتبحر مجددًا بحثًا عن شاطئ آخر؛ كذلك الإنسان في مرحلة من العمر يظل يُبحر في غربته الداخلية بحثًا عن ذاته. ثم ينتقل ليُناقش أزمة الشاب مع حلمه الخاص أثناء غربته الشعورية؛ فمحاولاتنا نحن الشباب أحيانًا أو غالبًا ما تبوء بالفشل، ونشعر مع كل خطوة نخطوها- بمفردنا– أننا متجهون نحو المجهول:
فذلك السطر البسيط، يُصوِّر لنا قسوة الحياة على كل حالم، فمصير الحالمين الغربة، وإن لم تكن عن أوطانهم، فعن ذواتهم. وفي نفس الأغنية يبدأ بمسألة حلمه قائلًا:
ليأتي رد الحُلم عليه:
كأن الغربة حتمية الوقوع عنده.
ولو أردت مثالًا صارخًا على ضياع الأحلام وغربة السنين، إليك أغنية «يا حمام» وهي من كلمات الخال «عبد الرحمن الأبنودي»؛ يبدأ فيها بمحاججة الحمام، بل وعتابه على صياحه، فقد ذكّره بالأحباب وهو في غربته. ثم ينتقل ليصف العمر كأنه أسرع من الثانية، والأحلام فيه فانية:
أمّا عن متلازمة الأمل، فلعل من أشهر أغاني الكينج التي تناولت تلك المُتلازمة الواجبة في مواجهة الغربة، أغنية «بحر الحياة»؛ كانت كلمات «أمير طعيمة» مصداقًا لوحشة الغربة داخل النفس البشرية، ومقاومة الأمل لها، فحين يقول: «حاول تتغير ومسيرك تقدر… وبلاش نستسلم يوم للحزن ما دام عايشين»، ترى دعوة صريحة للسعي من دون استسلام في تلك الحياة.
وتُحاذي تلك الأغنية في أملها رغم الأحزان أغنية «عليَّ صوتك» من فيلم «المصير»، الذي أخرجه يوسف شاهين. ففي أغنية الفيلم، والتي بحسب رأيي، أفضل أغاني منير على الإطلاق، يقول:
فلو تتبعت مسار الأغنية ستجد أنها تسليم مُطلق لإرادة الله في الأرض، هناك أحزان؛ وغربة؛ وجهل؛ وفقر؛ وانتصار لقوى الشر، لكن، يوجد أيضًا فرح وحبور وأمل، ما دام هناك نهار يخلف الليل.
فلا عجب أن تأتي بعد ذلك أغلب أغاني منير، كأغنية «بكار»، بدعوة صريحة للتمسّك بالأمل في مواجهة الحياة:
فلو دقّقت مُستمعًا للأغنية، بخاصة إن كنت من جيل التسعينيات الذي صُدم بواقع الحياة، ستتفهّم البيت الثالث (هذا بعد طرحك للنوستالجيا جانبًا، وقراءة كلمات الأغنية بعقل حر)؛ فالكون مفتوح فعليًا أمام الصغار، مثل عقولهم التي أطلقوا فيها العنان لأحلامهم، فتبدأ أحلامهم بالدوران في ذلك الكون، حتى ترتطم بأرض الواقع في الأخير.
غُربة الحُب
وفي اغتراب منير، تجد غربة من نوع آخر، غربة رومانسية، لا تنفك تسمعها حتى تعرف أسمى معاني الحُب؛ حب الوطن، فمنير ينتقي الكلمات التي تعكس وطنية الحُب، فيصير هو الغريب وهي الوطن، والعكس صحيح. ففي أغنية «صوتِك» يُناشد الحبيبة بمدّ اليد، لتعبر به الزمان، وتُسكنه على شط النجاة:
وفي أغنية «علموني عينيك أسافر»، وهي بحسب كلام بلال فضل، تُعد أفضل أغنية على الإطلاق، لِمَا فيها من جذوة حب مُشتعلة وامتنان للمحبوب، كما أنك سترى الغربة وحتمية السفر فيها، كقوله:
فنٌ رواقيٌ خالص
رغم ما سبق، لن أُبالغ إذا قُلت إن لمنير نظرة رواقية في أغانيه، ولا أعرف هل يُدرِك ذلك الأمر أم لا، لكن ما أعرفه أن بعض تلك الأغاني تحمل في كلماتها تسليمًا تامًا، وحين أقول تسليمًا لا أقصد استسلامًا، فهناك فارقًا بين الاثنين؛ فالأول يعني القبول والتنازل التام رغم المحاولات المُتكررة، وترك ذاتك في بحر الحياة تتلقفك الأمواج حتى ترسو بك على البر، أمّا الثانية فتعني يأس الضعيف وتنازله من دون محاولة أو استبسال.
فمن الأغاني الرواقية الداعية لحُب الحياة وقبولها كما هي– وإن كانت أغلب أغانيه تدعو لذلك– أغنية «الكون كله بيدور»، فكل مصطلحات ومعاني الرواقية تجتمع في تلك الأغنية، وأحسب أنه لو بُعث سينيكا (الفيلسوف الرواقي) وتُرجمت له تلك الأغنية، علّه يتخذها شعارًا له في الحياة، لِمَا فيها من دعوة للتسليم المُطلق للقدر، بجانب التفاؤل في وجه الحياة، واعتبار الدنيا كما الرحلة، ولا بد من نهاية لها:
كما قرأت، وأحسبك قرأتها بصوت منير، مُتذكرًا الألحان، رغم أني أحاول فصلك عن أي لحنٍ، حتى تشعر بالكلمات منفردة عارية من دون مكياج لها؛ لو عُدت للقراءة مرة أُخرى، ستلاحظ سعيًا نحو السلام النفسي، ودعوة إلى تقديس الحُب، والقبول بحتمية النهاية والتكيف معها، وبالتالي، إن أردنا تلخيص الفلسفة الرواقية في شيء، سنلخصها في تلك الأغنية؛ فالعالم تصيرُ مالكًا له إن رضيت به، ولكل رحلة نهاية وإن طالت.
ولنأتِ إلى التُحفة الرواقية الأفضل، بحسب رأيي، أغنية «الدُنيا ريشة في هوا»، فأتمنى منك عزيزي القارئ أن تسمع الأغنية بعد انتهائك من القراءة مُباشرة لتفهم ما سأقوله الآن، ففي كلماتها خلاصة الفكر الرواقي كله؛ الحياة فيها الشقاء والراحة، الحزن والسعادة، التعاسة والحبور، فيها كل التناقضات، وما عليك أيها الإنسان، سوى القبول، والتسليم المُطلق، فيومًا ستسعد وآخر ستحزن، فدوام الحال من المُحال، فكأنها ريشة في مهب الريح:
لذا، فعليك اغتنام اللحظة، من دون إرهاق نفسك بالتفكير في المستقبل، فهو ليس بين يديك.
كُلنا يونس
وما دُمنا نتحدث عن الاغتراب والأمل، فلا نستطيع أن ننسى السيرة الهلالية، والتي قضى الأبنودي دهرًا، يربو على الثلاثين عامًا، يجمع فيه مقتطفات السيرة، حتى أنهاها عام 1981، وفيها يعرض الخال تغريبة بني هلال وحروبهم مع الزناتي خليفة.
ولكن وسط الحروب والصراعات، كان هناك حب ينبت في سجن الزناتي خليفة، ما بين يونس الهلالي وعزيزة بنت السلطان، فقد اجتمعت على يونس كل عوامل ومآسي الغربة؛ الغربة عن الوطن والذات، وغربة الحب أيضًا، فصار مُغتربًا، فحين يقول: «أنا يونس ونسيت مين يونس والدنيا مالت عليا»، فهي جملة مصدّاقة لحالته اليائسة، والتي حاول بها مُصارحة ابنة السلطان الزناتي قائلًا:
فمن مِنا ليس كيونس، وإن كان يونس أصعب حال، إلا أن لنا نصيبًا مما أصابه؛ غربة وطن أو نفس أو حب، والأخيرة أقساهم!
خاتمة المطاف
دعني أُخبّرك شيئًا: لا يروق لي سماع منير إلا وقت السفر، هنا أستطيع الشعور بالكلمات، والانسجام معها، وعلَّ السبب الرئيس وراء انتقاء منير لمثل تلك الكلمات ليُغنيها، هو الهجرة التي تعرّض لها أهل النوبة، فمنير كان صغيرًا وقت تهجير أهالي النوبة لتنفيذ مشروع «بحيرة ناصر»، فنما في داخله شعورُ الاغتراب صغيرًا، فمنذ الصغر يبحث دائمًا عن وطنه؛ وإنه لمن المؤسف أن نعرف أن منير يُعد آخر أبناء جيله المُتقنين للغة النوبية.
وفي الأخير، محمد منير، أو حنجرة مصر الذهبية- كما يُسميه البعض– ليس مجرد ظاهرة أو حالة انفعالية على المسرح، تتمثل في إشارة الأصابع الثلاثة، وانثناء الساقين، مع إحناء الرأس إلى اليمين قليلًا، فيقلده الشباب وهو على تلك الحالة.
لا أستطيع تأطير منير في تلك الهيئة، فمنير عندي يحمل فلسفة يعجز أبناء جيله على حملها، فلسفة نمت في داخله منذ الصغر، منذ أن هُجر تاركًا أرضه باحثًا عن غيرها، وهو يعلم أن أرضه لم تعد موجودة. فقد حلّ محلها مشروع قومي. ولا أحسب أننا قد نتفهّم ذلك الشعور أبدًا، فلم نمر بمثله، فأنت لو هُجِّرت من أرضك، تعلم أنك ستعود إليها يومًا ما، لأنها موجودة، أمّا منير، فعلى العكس تمامًا، فلم يعد لأرضه وجود.