تترات «محمد خان»: أن تشاهد الفيلم قبل أن تراه
منذ فيلمه الأول «ضربة شمس»، نجح «محمد خان» في فرض نفسه كمخرج يقدم أعمالًا مختلفة، ما جعله واحدًا من أهم مخرجي السينما المصرية على مدار تاريخها، وأحد مؤسسي الواقعية الجديدة.
واختلاف خان ليس فقط في محتوى أفلامه أو كادراتها، لكنه يبدأ من تتر البداية، فالتتر عند خان ليس لعرض أسماء صُنّاع الفيلم فقط، بل يتجاوز ذلك بوضع إهداءات في البداية، إهداءات حميمية ومقصودة، ليست كتلك الأعمال التي تُوجِّه شكرًا أو إهداءً لجهة سيادية، أو لفندق مثلًا، لكنه يهدي إلى منْ يحب ويتذكر.
وليس الاختلاف في الإهداءات فقط، بل إننا قد نجد أن تترات خان هي أفلام قصيرة، يمكن أن تعطي ملخصًا سريعًا للفيلم قبل بدايته.
موعد على العشاء
يبدأ التتر بإهداء إلى نوال.
بفستان فرح وعيون حزينة ووجه مضطرب وواجم، تقف سعاد حسني أو نوال وهي تأخذ صورة الزفاف مع زوجها حسين فهمي، تُلتقَط الصورة، يستمر التتر والصورة مُثبتة كخلفية لأسماء التتر، صورة بالأبيض والأسود، وبها تظهر ابتسامة باهتة وكاذبة من نوال بعين زائغة حزينة.
وبمرور الفيلم ندرك أن مصير نوال التعس بدأ من تلك الصورة، وأن الإهداء ليس لنوال بطلة الفيلم فقط، بل إلى كل نوال تعرضت لقهر وظلم وذل.
نوال نفسها شخصية حقيقية، إذ إنها فتاة لبنانية قرأ خان خبر انتحارها، لرفض والدتها تزويجها من حبيبها، فتأثر بها خان وأهدى لها الفيلم.
في الثمانينيات والتسعينيات انتشرت صورة لطفل صغير بعيون دامعة، كانت معلقة في كثير من البيوت، كانت صورة ركيكة ومبتذلة، لكنها كانت تعبيرًا ما لدى جموع الناس، لو أنهم كانوا التقطوا صورة سعاد هذه لربما كانت أكثر تعبيرًا.
الحريف
بأبيات شعر عن الشارع لـ«أمينة جاهين» بصوت «أحمد زكي»، يبدأ تتر الحريف، ثم لقطة أسفل كوبري، نسمع لهاثًا لشخص مجهول يركض، سنكتشف بعد ذلك أنه فارس أو عادل إمام، وهو اللهاث المستمر معنا في أحداث الفيلم، ثم تبدأ موسيقى «الشوارع حواديت» بمشاهد من أعلى بيت يطل على كوبري عبد المنعم رياض والمتحف المصري، ونبدأ في التعرّف على شخصيات وأحداث الفيلم.
ذلك كان التتر، وذلك كان الفيلم أيضًا.
بمرور الفيلم نجد أن لهاث فارس ليس محض لهاث ناتج عن ركض لاعب كرة هاوٍ ومدخن تجاوز الثلاثين من عمره، إنه يعبر عن صراعه الداخلي، بين ما يخبئ وما يظهر، بين الواقع والحلم.
إنه ليس لهاث فارس فقط، إنه لهاث مُهمَّشي الشارع؛ الجار الذي يزعق في امرأته لأنها تطالبه بالمال وتأكل هي وأطفالها بـ20 جنيهًا خبزًا في الشهر، العمال حول عربة الفول، عامل المصنع الذي لا يريد تفويت ثانية عمل ليوفر المال للزواج، المُطلقة التي تبحث عن الاحتواء، العجوز الذي ينتظر مكالمة من التلفزيون، سمسار المباريات الأعرج ونهمه للمال، كابتن مورو الذي أكل خروفًا كاملًا حينما كان الخروف بجنيه، ويدهن معدته الآن بالمكرونة ليسد جوعها. المجهول الذي يتغوط داخل أحد ممرات بناية في المدينة. المغترب الذي جاء ليدرس ويعمل.
كل ذلك يدور في شوارع المدينة، التي ستحدث فضيحة فيها إن «بوسنا بعض في الشارع».
خرج ولم يعد
يبدأ التتر بإهداء:
ثم لقطة من أعلى لبيوت القاهرة وأسطحها القذرة، ثم صوت آلة بناء تضرب بعنف، يستيقظ على دويها يحيى الفخراني قبل صوت المنبه. فيقوم ويغسل وجهه، تنزل المياه صدئة. الراديو يصدح بصوت أسمهان «يا حبيبي تعالى الحقني شوف اللي جرالي». يرتدي ملابسه يغلق الراديو وينزل.
تبدأ الموسيقى التصويرية الحزينة لـ«كمال بكير» عند خروج البطل إلى الشارع الضيق المفعم بالأتربة، المحاصر بالبيوت الصغيرة المبنية من الطوب فقط على غير هدى، وترتفع الكاميرا بشكل تدريجي، تتخطى البيوت، لنرى العمائر الشاهقة، عمائر المسلح والانفتاح وهي تنظر على البيوت القديمة العشوائية.
ويأخذنا مسير البطل بوجهه المتجهم من شارع ضيق لآخر وسط القمامة والخرائب.
تظل تصحبنا الموسيقى حتى يصل البطل لمكان عمله، كأنها رثاء لموظفي القاهرة وساكني القاهرة وكل من يستقبل الصباح في القاهرة.
يُجيب التتر عن سؤال: لماذا يمكن أن تكون شخصيات الفيلم خيالية؟ فثمة رابط ما يربطنا بالقاهرة رغم كل شيء. البطل نفسه خرج ولم يعد بصعوبة، كان دائمًا يريد العودة، فنرى كيف يمكن أن يخرج المرء ولا يعود.
نص أرنب
بينما يبدأ التتر بظهور الأسماء بلون وردي وخلفية سوداء، يأتينا صوت مبهم، ثم يأتي صوت «محمود عبد العزيز» مُضطربًا، كأنه في تحقيق، يسأله المحقق:
ثم تبدأ الموسيقى التصويرية للفيلم مصاحبة لبقية أسامي صُنّاعه.
بمشهد كأنه قادم من الإذاعة، تعرّفنا على شخصية يوسف المُشتتة والمُضطربة، والتي كذلك كانت في الفيلم؛ يرفض زواج أخته من ميكانيكي رغم نقوده، يتوافق مع أبيه على عدم هدم البيت وبناء عمارة مكانه تجلب النقود الكثيرة، لكنه في نهاية المطاف يقع فريسة الطمع، لكنه يلقي- في نهاية الفيلم- بحقيبة النقود في البحر.
ندرك من تتر البداية عنصر التشتت، لكن ينجح خان في التلاعب بالمُشاهِد أثناء الفيلم، رغم رتم الأحداث الهادئ نسبيًا، فتارةً ينسى عنصر التشتت، وتارة يتذكره.
زوجة رجل مهم
يبدأ بإهداء إلى زمن وصوت عبد الحليم حافظ.
للوهلة الأولى إذا كنت لأول مرة تشاهد الفيلم، ستتعجب: منْ أتى بعبد الحليم إلى هنا؟!
تتر الفيلم واسمه وبطله والأفيش مظاهر لا توحي بذلك، سيستمر تعجبك لثوانٍ حتى يأتي مشهد مُؤرَّخ بشتاء 1962 تسير فيه فتاة مراهقة بملابس المدرسة ثم يظهر رجل يقرأ جريدة وفي الخلفية صوت عبد الحليم في فيلم «بنات اليوم» مع لقطة من الفيلم نفسه، ثم قطع على الفتاة المراهقة وهي تشاهد الفيلم داخل السينما وحليم يغني أهواك، ويستمر القطع بينهما حتى تأتي لقطة من حفلة لحليم وهو كبير يغني نفس الأغنية وأسفلها مكتوب ربيع 1975، ينتهي التتر باسم خان ثم يبدأ مشهد تطل منه ميرفت أمين.
الدهشة التي أصابتك من الإهداء الأول ستستمر وتمتلكك الحيرة، حيرة ستبدأ تُمحى رويدًا رويدًا مع مرور الفيلم.
فالفيلم ليس سياسيًا فقط أو عن رجل المباحث الصلب وعلاقته بزوجته التي تسمع عبد الحليم. إنه كما جاء في الإهداء، إنه رثاء لزمنٍ كان صوت حليم يوِّنسه ويُحييه، ولناس لم يعودوا موجودين، إنه رثاء الماضي وبكاء من زمن الانفتاح والسلطوية، إنه فيلم عن الحب.
أحلام هند وكاميليا
التتر كالآتي:
ثلاثة مشاهد لثلاث شخصيات، وأغنية.
- الأول: للخادمة هند وهي تذهب بابن ساداتها لكي يلعب في الملاهي وتنظر له وهو ينزلق وتقول يا بختك.
- الثاني: لكاميليا وهي تتشاجر مع شقيقها وزوجته.
- الثالث لشاب- أحمد زكي- ينجح بالاشتراك مع زميل له في سرقة حقيبة من سيارة.
وبينما يحتفل مع زميله الذي يقود دراجة، وهو ينظر له عبر نافذة ترام مصر الجديدة تبدأ أغنية تقول:
كأنه تتر لمسلسل، لا لفيلم، نادر ما يبدأ فيلم بأغنية تحكي عن أبطاله أو محتواه، هذا أسلوب تترات المسلسلات حيث الأحداث الكثيرة، ومنطقية الأسلوب المباشر في المعالجة، ولنعطي مثالًا بسيطًا إذا كان يمكن تشبيه الفيلم والمسلسل بالأدب، فالفيلم أقرب للقصة أو الرواية القصيرة من كونه لا يبوح بكل شيء من خلال الحوار، لا يقدم وعظًا أو إرشادًا بشكل مباشر، أمّا المسلسل فيمكن أن يكون كنص مسرحي يقبل نوعًا من الوعظ أو تقديم مونولوجات طويلة أو أحداثًا بشكل مباشر وواضح.
لكن خان في تتر أحلام هند وكاميليا كان بالوضوح الممكن، والتشويق أيضًا، وضوح بتفسير اسم الفيلم وتحديد أبطاله ومواقعهم بدايةً من التتر، تشويق كما جاء في تساؤلات الأغنية. ليجعلنا نتلهف لأحداث الفيلم: هل هي أحلامهم فقط أم أحلامنا أيضًا؟
تفرد تام من خان هنا، لذلك يسطر أحلام هند وكاميليا نفسه كواحد من أفضل 100 فيلم مصري.
سوبر ماركت
يبدأ التتر بأحد إهداءات خان الخالدة:
ثم لقطات خالية للقاهرة وشوارعها.
يتبعها ممدوح عبد العليم وهو يعزف على البيانو، بالتوازي مع قيام عادل أدهم– كجرّاح- بإجراء عملية جراحية، يستمر القطع بينهما، كلٌ مستمتع بما يعمل، حتى أن أدهم يُحرِّك يديه كمايسترو.
يجعلك التتر تشعر أن ثمة رابطًا ما بين الشخصيتين.
بمرور أحداث الفيلم، ستكتشف ذلك الرابط، وستكتشف أن إهداء البداية ليس محض إهداء من خان الفنان الغاضب، بل كأنه أول جملة حوار قالها ممدوح عبد العليم حتى قبل أن يتحدث، وليس عبد العليم فقط (أو رمزي في الفيلم)، بل هو إهداء من كل من يُقدِّس قيم الجمال والإنسانية والذوق إلى كل العابثين بها، منْ يحسبونها حسبة الأخذ دون العطاء، منْ يتعاملون مع الحياة من منطلق الصفقة التي يجنون من ورائها المال والنفوذ.
في شقة مصر الجديدة
بموسيقى أغنية «أنا قلبي دليلي» يبدأ التتر، يظهر اسم الفيلم وفي آخره رمز تعبيري عبارة عن قلب أحمر صغير، ثم مشهد مُدرِّسة تُردِّد كلمات «أنا قلبي دليلي»، تقاطعها طالبة اسمها نجوى سائلة عن معنى «حبوبي معايا من قبل ما أشوفه».
تطلب المُدرِّسة من طلابها البنات أن يُغمِضن أعينهن وتحكي لهن حكاية تختتمها بـ«ولذلك كل واحد منّا يسير يبحث عن نصفه الثاني»، ثم يغنون معًا أنا قلبي دليلي.
ينتهي المشهد، ويبدأ آخر، وفيه يتم إعفاء المُدرِّسة من منصبها ونقلها وينتهي بلقطة لنجوى، تطل من شباك حديد عالٍ، تنظر حزينة ثم تتبدل، وتكون هي غادة عادل، إشارةً إلى مرور السنوات، ونجوى ما تزال تنظر نفس النظرة، تتذكر أستاذتها وترسل لها جوابًا.
كان التتر بسيط وجميل وهادئ، وكذلك كان الفيلم، وكذلك كانت نجوى، التي ظلت تستمع إلى ليلى مراد وتأخذنا في رحلة للبحث عن أستاذتها، وعن حبيبها الذي لم تره بعد.
إنه فيلم عن الحب فقط، عن لقاء كل واحد بحبيبه قبل أن يراه. فإذا كان فيلم «زوجة رجل مهم» رثاءً للحب، فهنا هو تمجيد له وإحياءً وتحيةً له وأملًا فيه.
وليس أجمل من قلبي دليلي ليبدأ الفيلم بها، الفيلم نفسه مُهدَى إلى ليلى مراد. هذه سينما «محمد خان»… سينما الشخصيات والإهداءات والتترات… سينما حقيقية.