محمد بن تومرت: مهدي المغرب الأقصى
في المقال الأول من السلسلة تناولنا مفهوم المنتظر الموعود في عدد من الأديان المشرقية والأساطير الغربية، وفي المقال الثاني سلطنا الضوء على مفهوم المهدي المنتظر في الدين الإسلامي على وجه الخصوص، حيث رأينا جدلية النزاع على ادعاء صفة المهدية بين أصحاب السلطة والحكم من جهة، وأعدائهم من الثوار وطالبي الملك من جهة أخرى، أما في المقال الثالث فقد عرضنا لنموذج محمد بن الحسن العسكري، الذي يمثل تجليًا واضحًا للاستجابة السلبية لفكرة المهدية، وفي هذا المقال نختتم السلسلة بتناول محمد بن تومرت مهدي المغرب الأقصى، والذي يمثل أحد أهم التجليات الإيجابية لفكرة المهدية عبر التاريخ الإسلامي كله.
الأصل والنشأة
كان القرن الخامس الهجري، بمثابة ميلاد حقيقي للشخصية السياسية المغربية بشكل واضح؛ فقد استطاع البربر أن يُشيّدوا دولة عظيمة ونقصد بها الدولة المرابطية الكبرى التي تمكنت من ضم معظم بلاد المغرب الأقصى والأوسط وبلاد الأندلس تحت سيادتها لفترة تقترب من المائة عام.
وفي حدود عام 473هـ/1080م([1]) على وجه التقريب، ولد محمد ابن تومرتفي قبيلة هرغة، وهي واحدة من أعظم قبائل المصامدة البربر التي كانت مستقرة في بلاد السوس الأقصى ([2]). وقد كان عبد الله تومرت – أبو المهدي المدعي- ذو حيثية دينية وعلمية في قريته، ويُعبر ابن خلدون عن ذلك عندما يصف المهدي قائلاً: «كان أهل بيته أهل نسك ورباط»([3]).
ومن ثم، كان لابد وأن يتأثر محمد بن تومرت بما وجده من إقبال عائلي على دراسة وتعلم العلوم الدينية والشرعية، فقد استطاع ابن تومرت في فترة تعليمه المبكرة أن يحفظ القرآن الكريم، ويتعلم بعض مبادئ الفقه والشريعة، حتى تمكن في سنه الصغيرة تلك على تحصيل قدر كبير من العلوم والمعارف، واجتاز مرحلة الطفولة والصبا «وشب قارئاً محبا للعلم».
رحلته إلى الأندلس والمشرق
لم يكن التعليم الذي حصل عليه ابن تومرت في قريته الصغيرة بالسوس الأقصى ليشبع غريزته الفطرية التي تتوق للمعرفة والتحصيل، ولذلك فقد توجّه إلى الأندلس التي كانت حواضرها ومدنها بمثابة مراكز علمية وثقافية ودينية مهمة يتطلع طلاب العلم المغاربة للدراسة في معاهدها ومدارسها الكبرى.
وكان من الطبيعي أن يتوجه ابن تومرت إلى قرطبة، حاضرة العلم والمعرفة والعاصمة القديمة للدولة الأموية، فقضى بها فترة من الزمن، ودرس على يد عدد من علمائها المعروفين المشهورين مثل القاضي ابن حمدين الذي كان من أكبر علماء الأندلس في ذلك الوقت.
وعقب خروج ابن تومرت من الأندلس يمّم وجهه تجاه المشرق، فسافر إلى مصر، واستقر في الإسكندرية حيث اعتاد على حضور دروس الإمام أبى بكر الطُّرطوشي، ثم توجّه لأرض الحجاز حيث أدى فريضة الحج، وبعدها نحو بلاد الشام متخذاً منها طريقاً للعراق. وفي بغداد، تلقى العلم على يد عدد من كبار علمائها، وقيل إن أهمهم كان أبو حامد الغزالي، وتذكر بعض المصادر التاريخية أن الغزالي، في أحد مجالسه توقع أن تنهار الدولة المرابطية، وأن ذلك سوف يحدث على يد تلميذه محمد بن تومرت ([4]).
ومن المهم أن نلاحظ أن محمد بن تومرت أثناء تجواله ببلاد وأقاليم المشرق الإسلامي، قد لمس حالة الضعف الشديدة التي أصابت المسلمين، سواء في أراضي الخلافة العباسية أو الأقاليم التابعة للدولة الفاطمية، كما أنه عاصر اجتياح الحملات الصليبية الأولى لبلاد الشام، وتأسيسهم لعدد من الإمارات الصليبية في بيت المقدس والرها وأنطاكية وطرابلس.
أدى ذلك كله لحدوث هزة روحية كبرى في نفس ابن تومرت، نتج عنها تبنيه لمنهج اصلاحي، يقوم على التعليم والشرح والإرشاد الذي يتطور إلى حد استخدام الأساليب العنيفة للأمر بالمعروف والنهى عن المنكر([5])، وكان الهدف الذي ينشده ابن تومرت من كل ذلك الوصول لإقامة خلافة إسلامية كبرى تضم جميع بلاد وأقاليم العالم الإسلامي؛ لتستطيع مواجهة القوى الصليبية شرقاً وغرباً.
وفي أثناء رحلة عودته إلى السوس الأقصى في المغرب، بدأ ابن تومرت في الدعوة لمنهجه في جميع المدن والقرى التي مر بها، وكان من الطبيعي أن تُحدث دعوة ابن تومرت دويًا هائلاً في أوساط المجتمع المغربي، نظراً لما كان يميز تلك الدعوة من صدام مع الأنظمة الحاكمة، فلم يلبث أن وصلت أخباره إلى مسامع أمير المسلمين المرابطي علي بن يوسف بن تاشفين، الذي استدعاه، وتم عقد بعض المناظرات بينه وبين فقهاء الدولة المرابطية، واستطاع الفقيه السوسي أن يهزمهم جميعاً، فأطلقه علي بن يوسف، وسمح له بمواصلة الرحلة إلى السوس الأقصى، ولم يلتفت للخطر الذي يمكن أن يترتب على تلك الدعوة في المستقبل القريب.
إعلان المهدية وتنظيم الحركة
عقب رجوعه إلى مسقط رأسه في السوس الأقصى، استطاع ابن تومرت أن يجمع الكثير من الأنصار والأتباع الذين اقتنعوا بدعوته وانخرطوا بسرعة في حركته، وعمل على التمهيد لإعلان مهديته عبر إذاعة ونشر أحاديث المهدي وأوصافه، كما أنه ادعى أنه علوي النسب، وأنه من سلالة أبناء الحسن بن علي بن أبي طالب [6].
وبعدما تأكد من تهيئة أتباعه لقبول فكرة المهدية واستقرارها وثباتها في وعيهم الجمعي، قام في رمضان 515هـ/ ديسمبر1121م، بأهم خطوة في حركته عندما أعلن أمام أصحابه وأتباعه أنه هو نفسه «المهدي المنتظر» الذي بشرت به الأحاديث النبوية الشريفة.
ومما جاء في خطبة ابن تومرت في ادعائه المهدية:
يمكن أن نعتبر اليوم الذي أعلن فيه ابن تومرت أنه المهدي المنتظر يومًا فاصلاً وحاسمًا في تاريخ الحركة التومرتية خصوصاً وتاريخ المغرب الإسلامي عموماً، فمنذ ذلك اليوم ارتدى ابن تومرت «الثوب الروحي الذي اتشح به لتأييد شرعية إمامته وقدسيتها».
ولم يكتفِ ابن تومرت بأخذ البيعة من القبائل الموالية له، بل بدأ يتحرك بسرعة في سبيل إعداد أنصاره للمواجهة العسكرية المرتقبة ضد السلطة المرابطية، فانتقل إلى «تينملل» وهي إحدى المدن الجبلية الحصينة، بحيث يستطيع أن يجهز قواته دون أن يخشى هجوم المرابطين.
وفي الوقت نفسه، فرض على أتباعه – الذين سماهم باسم الموحدين – نظامًا تعليميًا وتربويًا دقيقًا، فكان يُلزمهم بحضور دروس العلم، وألف في سبيل ذلك بعض الكتب لتدريسها لهم، ولعل من أشهرها كتابي «المرشدة» و«أعز ما يُطلب».
عمل ابن تومرت على تجنيد عدد من الجواسيس من أفراد الدعوة ليكونوا عيوناً له، وبذلك أصبح مطلعاً على كل ما يدور في القواعد العريضة لدعوته، كما قام بقتال القبائل التي خالفت دعوته من المصامدة حتى انضموا إليه واستقاموا له، وظل ابن تومرت على ذلك الحال من الشك في أفراد دعوته والمحيطين بها، حتى قام بأكبر حركة تطهير لدعوته وهي الحركة التي عُرفت بـ «التمييز» عندما قتل الآلاف من أنصاره الذي كان يشك في ولائهم المطلق له.
الصراع مع المرابطين
بعد كل تلك التحضيرات، دخل ابن تومرت في عدد من المصادمات المتتالية ضد الدولة المرابطية، واستطاعت جيوشه أن تحقق الكثير من الانتصارات، حتى انهزمت في النهاية أمام أسوار مراكش –عاصمة الدولة المرابطية – في عام 524هـ، في المعركة التي عُرفت بمعركة «البحيرة الساحقة»، وبعد فترة زمنية قصيرة من تلك الهزيمة، توفي المهدي بن تومرت ليخلفه في قيادة حركته تلميذه عبد المؤمن بن علي، الذي استطاع أن يحولها لدولة عظيمة ضمت المغرب والأندلس.
لماذا تختلف مهدية ابن تومرت عن باقي النماذج الأخرى؟
إن حركة ابن تومرت لم تستند إلى مذهب موجود وقائم من قبلها كما هو حال باقي النماذج التي تعرضنا لها، بل إننا نجد أن ابن تومرت قد قام باختلاق مذهب سياسي – ديني جديد وهو ما عرف بـ «المذهب الموحدي» وكان هذا المذهب يقوم على عدد من الاختيارات المعينة من المذاهب الإسلامية المشهورة، فقد أخذ ابن تومرت من الشيعة الإمامية فكرة العصمة المطلقة للإمام، واقتبس من الخوارج اعتقادهم بحتمية قتال مخالفيهم وضرورة الثورة على الحكم الجائر، وبطّن ذلك كله بخلفية عقائدية أشعرية تقترب في الكثير من أبعادها من فكر شيخه الروحي أبي حامد الغزالي.
ولكن بعد وفاة ابن تومرت وتشييد الدولة الموحدية على يد خليفته عبد المؤمن بن على نجد أن تلك المبادئ التي قام عليها المذهب الموحدي قد توارت وانزوت جانباً؛ لأن الشعارات التي رُفعت في حياة المهدي إبان فترة الدعوة لم تعد صالحة للتطبيق بعد قيام الدولة، وبدأ المذهب الموحدي في التآكل والضمور ولم تبقَ منه سوى كتابات ابن تومرت التي لا يمكن فهمها أو استيعابها إلا بعد الإيمان المطلق بفكرة عصمة ابن تومرت ومهديته، وهي تلك الأفكار التي أصبحت محل شك وخلاف كبيرين عندما تمت مناقشتها ومراجعتها في عهد الخليفة الموحدي الثالث أبو يوسف يعقوب المنصور فيما يشبه الردة الفكرية لأهم مبادئ ومعتقدات الحركة الموحدية التومرتية.
ومع ذلك كله يبقى ابن تومرت نموذجاً فريداً وملهماً للثورات القائمة على أسس دينية ومذهبية، ويظل أحد أهم تجليات الاستجابة الانبساطية لفكرة المهدي المنتظر عبر التاريخ الإسلامي الطويل([8]).
([1])عبد المجيد النجار، تجربة الإصلاح في حركة المهدي بن تومرت، ص57 ([2]) السوس الأقصى، هي منطقة جغرافية تقع في جنوب دولة المغرب، وتقع ما بين سلسلة جبال الأطلس والمحيط الأطلسي (الباحث)([3]) ابن خلدون تاريخ ابن خلدون، ج6، ص301 ([4]) ابن أبي زرع، روض القرطاس، ص110 ([5])موسى لقبال، الحسبة المذهبية في بلاد المغرب العربي (نشأتها وتطورها)، ص50 [6] البيذق، المقتبس من كتاب الأنساب في معرفة الأصحاب، ص12 ([7]) ابن القطان، نظم الجمان، ص124-125 ([8]) محمد يسري أبو هدور، الحشيشية والمهدية التومرتية، ص205