محمد أسد و«الإسلام على مفترق الطرق»
إنه العام 1926، في أقدم مساجد ألمانيا يجلس ليوبولد فايس بين يدي إمام المسجد ليلقنه الشهادة التي سمعها كثيراً في أثناء جولاته في العالم الإسلامي بحكم عمله الصحفي، يعلن إسلامه ويغير اسمه إلى محمد أسد، وبعد شهور قليلة يذهب لأداء فريضة الحج ويقرر البقاء لبعض الوقت في المدينة المنورة.
قرار مهم اتخذه بعد كثير من الترحال والطواف بالبلدان الإسلامية والعربية، سمع عن الإسلام فأعجب به وتعجب من تخلي قومه عن مبادئه، وبعد إسلامه تولى العديد من المناصب مثل سفير دولة باكستان لدى الأمم المتحدة بعد ما ساعد على استقلالها عن الهند ومنحته جنسيتها، قام بتأليف العديد من الكتب، أشهرها «الطريق إلى مكة» و«الإسلام على مفترق الطرق».
صدر كتاب «الإسلام على مفترق الطرق» عام 1934 والعالم الإسلامي كله تقريباً يرزح تحت الاحتلال، حالة خمول تسود الدول المسلمة، وكلها يتطلع للنجاة في النماذج الغربية، الرأسمالية أو الماركسية البلشفية، تخاذل ونفور من الدين كأنه هو العائق في سبيل التحرر والمدنية، تشابه كبير بين الوضع حينها ووضعنا الآن؛ لذا يقرر محمد أسد وضع هذا الكتاب الذي يوضح فيه ببساطة الفارق الخطير بين الإسلام وبين ما تدعو إليه المدنية الغربية الحديثة.
الإسلام والمسيحية
ينقسم الكتاب إلى سبعة فصول، أولها بعنوان «سبيل الإسلام» وأبرز ما يتناوله في هذا الفصل هي فكرة التبادل الاقتصادي والتبادل الثقافي: ففي النوع الأول هناك دوماً تبادل في الأدوار بين المعطي والمستقبل، أما في النوع الثاني وفي عصرنا الحالي صار الغرب هو المعطي الثقافي الوحيد ونحن فقط نأخذ عنه ونتعلم، أو الأصح نقلد بلا وعي أو إدراك.
كما يقوم أسد بعقد مقارنة مهمة بين الإسلام والمسيحية واختياراتهما لحياة الإنسان، فبينما يعطي الإسلام المرء حرية اختياره لطريقة عيشه ما لم يقترف حراماً ويفترض فيه الخير دوماً، فإن المسيحية تثقل كاهله بحمل الخطيئة الأولى ولا ترى له طريقة للتحرر سوى إلقائه كل المظاهر الدنيوية خلف ظهره.
وفي الفصل التالي بعنوان «روح الغرب»، يتعرض لإشكالية الدين والعلم وإذا كان من الصحيح القول إن أوروبا لم تدرك نهضتها إلا بعد أن نبذت الدين؛ فإن أسد يرى أنها إنما تخلصت من تحكم الكنيسة وتسلطها على الأفكار، وأنها بالأساس لم تسعَ لتشكيل دولة تقوم على النصرانية؛ وإنما دعت لنفسها باعتبارها وريثاً للإمبراطورية الرومانية والتي كما كانت لها أوثانها وآلهتها التي لا تفعل شيئاً فإن المدنية الغربية الحديثة حجمت الدين وجعلته إلهاً كآلهة أجدادها واضطرت الكنائس بمختلف مذاهبها لتوفيق أوضاعها ومواقفها لتتناسب ومكانتها الجديدة بدلاً من أن تفقد كل شيء.
يتخذ أسد من هذا ركيزة لنفي أن يكون الصراع الدائر الآن بين ثقافة الشرق والغرب أساسه صراع بين الإسلام والمسيحية؛ فبرأيه، إذا كانت ثقافة الشرق إسلامية، فإن الثقافية الغربية ما هي إلا رومانية وثنية تعترضها المسيحية كما يعترض عليها الإسلام.
ما هو إذن الصراع الذي يقوم على أساس الدين؟ هذا ما نجد إجابته في الفصل الثالث تحت عنوان «شبح الحروب الصليبية»، ومن خلال جولاته التي قام بها في الشرق والغرب لاحظ أسد أن هناك عداءً غير مبرر من الغرب ومبالغاً فيه تجاه الإسلام تحديداً بوصفه ديناً وثقافة، وكان تعجبه أن ثقافات كالبوذية أو الهندوسية التي لا تلقى قبولًا في الغرب تقابل بالاحترام والتعامل الموضوعي على الأقل ويرجع سبب هذا الرفض في رأيه لأيام الحروب الصليبية التي أعلنها ملوك أوروبا ضد الإسلام والمسلمين وأن شبح هذه الحروب ما زال يلوح في الأفق حتى الآن، وهو سبب هذا التعصب الشديد.
الإسلام والمركزية الأوروبية
بهذه الكلمات يفتتح أسد فصله الرابع «في التربية». كيف تهزم عدوك وأنت مؤمن أنه خير منك ويستحق الانتصار؟! كيف تتعلم على يدي رجل وتنتظر مواجهته في ساحة فكر أو جهاد؟! ربما لو تأخر صدور الكتاب بضعة عقود لوجدنا سؤال كيف نملأ بطوننا بالوجبات السريعة وننتقد الفلسفة التي صنعتها؟! في هذا الفصل يوضح الكاتب رأيه في أن الاضمحلال الفكري والانحطاط الذي وصل إليه المسلمون الآن إنما هو بسبب أولئك «المتنورين» كما يصفهم، الذين يعلمون أبناءهم تعليماً غربياً متذرعين بأن هذا هو العلم الحديث، فكأننا نلقي نباتاً في بيئة غير بيئته وموسم غير موسمه ثم نطلب منه أن ينمو ونطالبه بالثمار، هنا يعود أسد إلى فكرته الرئيسية التي يعرضها وهو أن كل تخلف أو تراجع لحق بالمسلمين إنما سببه تخليهم عن تعاليم الإسلام والتزامهم بمظهر الدين ورسمه بدلًا من جوهره.
ربما يتشابه الفصل الآتي «في التقليد» مع سابقه قليلاً. يهاجم فيه أسد أيضاً فكر «المتنورين» الذين يقلدون الطريقة الغربية في كل شيء، الملبس وطريقة الحديث والمسكن، ثم يدعون أنه لا سبيل للتفوق على الغرب إلا بإتقان أساليبه ثم التغلب عليها، يرى الكاتب أن التشبه بالحياة الغربية وممارستها على مدار الساعة لا بد أنه سيغير الفكر أيضاً ويقسم مواقف المتنورين إلى قسمين، أحدهما يهاجم الإسلام بشراسة ويراه عائق التقدم في حين يكون النوع الآخر أهدأ منه نبرة ويزعم أن الإسلام قادر على احتواء قيم المدنية الغربية بداخله، وكلاهما يرفضه أسد ويراه سبباً لاستمرار هذا الانحدار؛ ففي هذا الفصل يكتسب الكتاب اسمه حيث يضع الكاتب مثاله الأشهر:
منزلة السنة في الإسلام
في فصليه الأخيرين «الحديث والسنة» و«روح السنة»، يتناول محمد أسد قضية السنة النبوية وكيف أنها المفتاح لفهم النهضة الإسلامية، وأن كل محاولات الإصلاح من دونها عبث لا طائل منه، إذ هي المصدر الثاني للتشريع الإسلامي، ويعني بهذا السنة بمعناها الشامل من قول وفعل بل حياة الرسول كاملة، ويرد كذلك على المستشرقين وغيرهم ممن يشكك في صحة السنة ويجد أن قيام علم إسلامي كامل هدفه حفظ الأحاديث والتحقق منها رد كافٍ.
إننا نلتزم بالسنة لإيماننا بأن محمد هو النبي الحق وأن حياته وأفعاله هَدي من السماء، وحينما نفعل هذا فإننا نعيد الإسلام مرة أخرى لمنطقة الفعل ونستعيد حيوته وحينها لا يصبح التقدم حلمًا بعيد المنال.
رحالة، مترجم، صحفي، مفكر، وناقد ينتهي به المطاف شيخًا في غرناطة وقد ساهمت مؤلفاته في إثراء أجيال عديدة، حتى إنه يُعد أحد أكثر المسلمين تأثيرًا في العالم، رحل محمد أسد عن عمر الثانية والتسعين وما زالت كلماته حية هنا، وما زال «الإسلام على مفترق الطرق».