محمد السوربوني: هكذا تكلم مؤرخ الثورة العُرابية
الكاتب والصحفي المصري وديع فلسطين متحدثًا عن محمد صبري السوربوني
اشتُهر في تاريخنا المعاصر أعلام في الأدب والسياسة والتاريخ، وحفلت بهم كتب التاريخ حتى أصبحوا علامات وهامات يُشار إليها بالبنان، لكن شاءت الأقدار أن يُمحى آخرون من الذاكرة، ربما كانوا أعظم شأنا من أصحاب الذكر والشهرة.
ومن هؤلاء رجل يمكن وسمه بأنه من أصحاب النفوس الكبيرة، فقد أخذ بالعزيمة في كل مواقفه، وفي كل كتاباته، فحقق إنجازات كثيرة في عصر شهد نهضة واسعة في مصر والعالم العربي، وكَثُرَ فيه النوابغ من أقرانه.
نبوغ مبكر
ولد محمد صبري في مدينة المرج بالقليوبية سنة 1894م، وحفظ القرآن الكريم بالكتّاب وتعلم فيه القراءة والكتابة، ثم انتقل إلى القاهرة ليتلقى تعليمه الابتدائي في مدرسة النحاسين، ثم التحق بالمدرسة الخديوية الثانوية.
وفي تلك المرحلة انطلق في القراءة الحرة، فحُبب إليه الأدب، وحفظ من أشعار المتقدمين والمعاصرين ما صقل لغته وهذبها، وأعانه على قرض الشعر. وقد سعى يتعرف على كبار الكتاب والأدباء والشعراء في عصره، فكان يذهب إلى بيت الأديب الكبير مصطفى لطفي المنفلوطي، الذي كان يوجهه إلى قراءة أهم مصنف نشأ عليه أدباء عصره كالبارودي وشوقي وغيرهما، وهو كتاب «الوسيلة الأدبية»، ذلك الكتاب الذي وجد فيه السوربوني بُغيته، حتى إنه قال: إن الوسيلة أغنته عن كتب البلاغة كلها. وتعرّف أيضًا على الشاعر الشهير حافظ إبراهيم، وتوطدت علاقته به، والشاعرين العراقيين صدقي الزهاوي وعبد المحسن الكاظمي.
في سنة 1911 نشرت له جريدة الأهرام قصيدة بعنوان «يا بنت روما» يتحدث فيها عن الحرب التي كانت قائمة في طرابلُس، ولكن نشرتها الجريدة باسم الشاعر الكبير إسماعيل صبري، ثم صوبت نسبتها إلى صاحبنا في اليوم التالي مباشرة، ولم يكن التصويب كافيًا لتدارك الخطأ، وقد أعجب عموم القرّاء بالقصيدة حتى إن أمير الشعراء شوقي أرسل برقية تهنئة لإسماعيل صبري يهنئه فيها على القصيدة المنسوبة إليه؛ الأمر الذي استغلّه محمد صبري؛ حيث ذهب وقابل إسماعيل صبري بعد هذه الواقعة، فرحب به وقال له مشجّعًا: «مستقبلك واسع»، ومنذ ذلك الحين «كانت بيننا صلة الابن بالأب البار والتلميذ بأستاذه» كما يصف السوربوني.
في هذه المرحلة المبكرة من حياته أصدر الجزء الأول من كتابه «شعراء العصر» بتقديم أستاذه الأديب المنفلوطي، ثم ألحقه بإصدار الجزء الثاني عام 1912 بتقديم الزهاوي، ترجم فيه لعدد من شعراء عصره، وأثبتَ فيه قصائد غير موجودة في دواوينهم، وأرَّخ لكل قصيدة بتاريخ نشرها.
كان لاهتمامه وشغفه بالأدب والشعر تأثير سلبي على دراسته؛ فقد رسَب في السنة الثالثة من المرحلة الثانوية سنة 1912؛ الأمر الذي جعله يترك الانتظام في الدراسة، مختارًا الدراسة المنزلية التي وفرت له الوقت لقراءته الحرة واطلاعه على الآداب، فضلاً عن التواصل مع أدباء عصره، ونجح صبري في امتحان البكالوريا من المنزل في العام التالي 1913.
قرر محمد صبري السفر إلى فرنسا لاستكمال دراسته الجامعية على نفقته الخاصة، فنزل أولاً عند أسرة فرنسية في ليون، وتعلم منهم الفرنسية وأتقنها، ثم التحق بجامعة السوربون لدراسة الآداب، فتخصص في دارسة التاريخ الحديث، ودرس فيه على كبار الأساتذة مثل أولار، وويلموت، وهيج وغيرهم، وكان زميله في الدراسة الدكتور طه حسين، وقد تحدث عنه وعن جده في تحصيل اللاتينية في مذكراته الأيام، وتمكن السوربوني على الليسانس سنة 1919.
في ذلك العام سافر الوفد المصري إلى فرنسا برئاسة سعد زغلول فقرر صبري أن يكون في خدمتهم بكل طاقته ومواهبه، وقد عايش اضطرابات الوفد في فرنسا، واضطر للعودة إلى مصر ثم سافر إلى فرنسا مرة أخرى، فشغلته أحداث زيارة الوفد وثورة 19 عن دراسته.
قدم السوربوني عام 1923 رسالته للدكتوراه، كان عنوانها «نشأة الروح القومية في مصر»، ثم قدم «تقرير عرابي إلى المحامين» كرسالة تكميلية، وقد حصل على شهادة دكتوراه الدولة من السوربون في الآداب عام 1924، وكان صبري أول مصري يحصل على هذه الدرجة من هذه الجامعة الكبيرة، وهي أعلى من درجة الدكتوراه التي حصل عليها طه حسين وهي دكتوراه الجامعة، لذلك لُقِّبَ بالسوربوني نسبة إلى السوربون.
مؤرخ الثورة العرابية
كانت الثورة العُرابية تذكر في كتب التاريخ والأدب في ذلك الوقت بالسوء، وكان يُطلق عليها فتنة عرابي، وقد كتب شوقي في هجاء عرابي قصيدة يقول فيها:
حمل صاحبنا على عاتقه إظهار هذه الثورة في صورتها الحقيقية، لذلك اختارها موضوع رسالته للدكتوراه، ثم حين عاد إلى مصر بعد حصوله على الدكتوراه ترجم ملخصًا من رسالته قررته وزارة المعارف على المدارس، فكان أول كتاب يخالف رواية السلطة عن ثورة عرابي.
هذا التشويه الذي نال من شرف الثورة العرابية جعله يفطن لمكر المستعمر ومكر السلطة تجاه الثائرين عليهم، بفرض روايتهم عن واقع الثورة بالتشويه لتوجيه الرأي العام ضدها، ولتصبح رواية السلطة هذه فيما بعد التاريخ الرسمي، وما سواه أباطيل.
كانت مصر في هذه المدة التي يدرس فيها السوربوني في فرنسا تغلي ضد الاحتلال البريطاني، وكان المطلب الرئيس لهذه الثورة رفع الحماية عن مصر وإعلان الاستقلال، والسماح للوفد المصري برئاسة سعد زغلول بالسفر إلى فرنسا لحضور مؤتمر الصلح ليعرض عليه قضية استقلال مصر.
وقد كان الاحتلال والسلطة يسعيان لرمي ثورة 19 بالطائفية، وبالعنف والشغب، فسخرت السلطة الصحافة التابعة لها لنشر هذه التهم في الداخل، وسعى الاحتلال لنشرها في أوروبا، وإن لم يكن في ذلك الوقت صحافة وطنية تعبر عن حال الثورة داخل مصر، فإن هذا الأمر كان شبه معدوم في أوروبا. لقد أحسّ محمد صبري السوربوني بأن ما حدث لتاريخ الثورة العرابية يمكن أن يتكرر مع ثورة 1919م، لذلك حرص أثناء عمله سكرتيرًا لسعد زغلول -وكان ذلك أثناء دراسته بالسوربون- أن ينبهه إلى هذا الأمر، يقول: «لقد قلتُ لسعد زغلول سنة 1919 وأنا سكرتير صغير له: إذا كنتَ تريد الثورة أن تستمر فلا بد قبل السلاح أو الحماسة أن تكتب تاريخ مصر، وفهمها سعد ولم يسخر، ولكنه قال لي: ما تكتبه أنت يا فالح، هاكتبه أنا؟»، وقد كان.
فقد نشر في العام نفسه الجزء الأول من كتابه «الثورة المصرية» الذي كتبه باللغة الفرنسية، وكتب له أستاذه أولار أستاذ الثورة الفرنسية بالسوربون مقدمة إضافية، وقد نشر في هذا الكتاب للمرة الأولى صور جرائم الإنجليز في مصر، ونشر حقائق الثورة كاملة، ودور كل فئة من فئات المصريين فيها، وأصدر الجزء الثاني سنة ١٩٢١م. وقد كتبت الصحافة الأوربية عن هذا الكتاب الذي كان له صدى جيد فيها، أما في مصر فقد صُودر الكتاب؛ لأنه هاجم فيه الملك فؤاد قائلاً بأنه ملك لا شعبية له.
ثم أصدر بالفرنسية أيضًا كتابًا سماه «المسألة المصرية» سنة 1920م، فكسر بهذين الكتابين سياج الأكاذيب الذي كان قد أحاط به الإنجليز الرأيَ العام الأوروبي، ومن ثم فرض عليهم رواية أخرى غير الرواية الواحدة الرسمية التي لم يعرفوا غيرها.
ثم لم يكتفِ بهذا الأمر، بل حمل على عاتقه نقل تجارب الثورات الأخرى لأبناء وطنه ليعرفوا كيف تقوم الثورات وكيف تحقق أهدافها، كيف يحتويها أعداؤها، ويلتفون حولها ويجهضونها وينكلون بقادتها، فأرّخ للثورة الإيطالية سنة 1922 في كتاب «الحركة الاستقلالية في إيطاليا» وكان في أصله محاضرات ألقاها في الجامعة المصرية، ثم نشرتها جريدة الاستقلال، ونشر في هذا الكتاب فصلاً عن الثورة الأمريكية، وأرخ للثورة العرابية في رسالته للدكتوراه سنة 1924، ثم أرّخ للثورة الفرنسية وسيرة نابليون سنة 1927.
في تلك المصنفات الدليل القويم في نجاح الثورات، تلكم الثورات التي حققت الاستقلال لمن قاموا بها، وكيف صارت دولهم في مصاف الدول العظمى، ثم قدّم أيضًا تجارب الثورات التي فشلت والتف عليها أعداؤها. وقد سعى السوربوني في نشر هذه التجارب بين النخبة التي كان لها الرأي، فضلاً عن حرصه على نشرها في أوساط الشباب والمثقفين.
راوية الشعر وعاقبة النبوغ
كانت مرحلة ظهور السوربوني تشهد نهضة أدبية واسعة، فظهر من الشعراء البارودي، وشوقي، وحافظ، وقد تمكن من الاتصال بهم، ومعرفتهم عن قرب. لقد كان هدفه من ذلك أبعد من التلمذة عليهم، والإفادة منهم، لقد كان يريد التأريخ لهذه النهضة الأدبية بدراسة هؤلاء الشعراء.
لذا، أخرج كتابه «شعراء العصر»، ثم أخرج كتابًا آخر عن البارودي، قارن فيه بين رواية الديوان ورواية أستاذه البارودي وصديقه الشيخ حسين المرصفي في كتاب «الوسيلة الأدبية»، وأثبت خطأ رواية الديوان في مواضع مختلفة، ثم تمكن من إخراج كتاب آخر عن أستاذه إسماعيل صبري الذي صار مرجعًا لكل من يريد الكتابة عنه؛ فقد كتبه قبل أن يُجمَع ديوان صبري بعشر سنوات، وصنف السوربوني كتابًا آخر جمع فيه مختارات من ديوان خليل مطران عنوانه «خليل مطران أروع ما كتب».
وكان أجلُّ ما حفظه للأدب جمعه لقصائد أحمد شوقي التي لم تُنشر في ديوانه، فجمعها السوربوني في كتابه «شوقيات مجهولة»، صحح في مقدمته تاريخ بعض القصائد المنشورة في ديوانه المطبوع في حياة شوقي والمجموع بعد وفاته، وحرص على تأريخ القصائد التي جمعها حسب نشرها في الصحف، وأخرج المجلد الأول سنة ١٩٦١، والمجلد الثاني سنة ١٩٦٢.
لقد امتاز السوربوني بالدأب والنشاط، وكان هذا ديدنه في كل ما كتب من كتب وأبحاث ومقالات. يقول الأديب وديع فلسطين: «كان الدكتور السوربوني مشدودًا إلى كبار الأعمال الأدبية والأحداث التاريخية، فهو يؤلف عن «الشوامخ»، وعن «أروع» ما كتب خليل مطران، وعن «المجهول» من شعر شوقي، وعن «شعراء العصر»، وعن «حضارة العرب»، وعن «أسرار» تدويل قناة السويس، وعن «الإمبراطورية» المصرية، و«الإمبراطورية» السودانية، وكلها عناوين تشي بالرغبة الكامنة في صدره؛ وهي ألا يكتب إلا عن الكبار من الحادثات والشخصيات».
لكن للأسف الشديد كان المقابل لكل هذا المجهود الكبير في حفظ تاريخ الأمة وتاريخ أدبها المعاصر، هو الجحود من أهل عصره ومن بعدهم، فقد كلفه النقراشي سنة ١٩٤٦ بكتابة مذكرة ليقدمها النقراشي لمجلس الأمن حول القضية السودانية، ففعل، وعندما طالب بتعويض مادي عنها؛ لأنه كان يطبع كتبه -وهذه المذكرة منها- على نفقته، رُفِض طلبه؛ لأن ما قام به لم يكن عن تكليف من الحكومة، لكنه كان عملاً طوعيًا منه!.
عين السوربوني مديرًا لمعهد الوثائق والمكتبات التابع للجامعة المصرية، وكان في مرحلة الإنشاء، فكلفه ذلك وقتًا ومجهودًا كبيرين، فلما قامت حركة الجيش في يوليو/تموز ١٩٥٢ شكلت الحكومة لجنة لتطهير أجهزة الحكومة، وكان بين السوربوني وبين بعض أعضائها خلاف سابق فتعسّفوا معه لإزاحته من وظيفته، وصدر مرسوم بفصله من وظيفته في ديسمبر/كانون الأول ١٩٥٢م.
وظل السربوني خامل الذكر منذ ذلك الحين، بل وأكثر من ذلك، فحين وافته المنية في 18 يناير/كانون الثاني 1978م، لم يمشِ في جنازته أكثر من عشرة أشخاص، وتلك عاقبة النبوغ وأصحابه في الشرق عامة وفي مصر خاصة، أن ينالهم الشقاء والحسد!.
- ببليوغرافيا محمد صبري السوربوني لأحمد حسين الطماوي – المجلس الأعلى للثقافة ٢٠٠٣م.
- صبري السربوني، سيرة تاريخية وصورة حياة لأحمد حسين الطماوي – الهيئة العامة للكتاب – سلسلة أعلام العرب العدد ١٢٣ – القاهرة 1986م.
- وديع فلسطين: "سيرة محمد صبري السوربوني: صعود وهبوط مثقف مصري حديث"، مجلة الحياة، 21 سبتمبر 1999م.