حداثة بلا إنسان: إنجازات محمد علي باشا في عيون الفلاحين
تقول الأسطورة إن من «إنجازات» محمد عليّ باشا «خلق» دولة حديثة، وحفر الترع، وبناء المصانع، وإدخال الزراعات الحديثة. تستبعد هذه الرؤية ما فعله محمد عليّ في أهل مصر، فقد كان يختطفهم من قراهم مثلما يختطف تجار الرقيق الزنوج من أفريقيا، ثم يرسلونهم عبر رحلة رهيبة عبر المحيط الأطلسي ليباعوا عبيدًا يعملون ويكدون في مزارع البيض بالأمريكيتين.
حينما أراد محمد عليّ إعادة شق «ترعة المحمودية»، باقتراح من مستر Briggs، أحد التجار الإنجليز بالإسكندرية [1]، ليحمل مجراها الماء العذب إلى الإسكندرية، وتصبح طريقًا تجاريًا بين عاصمة مصر ومينائها على البحر المتوسط، كلّف الباشا زبانيته، فجاسوا خلال الديار، وساقوا أمامهم بالسياط أكثر من 300 ألف فلاح، مُكبلين في الأغلال. لم يوفر لهم الباشا حتى أدوات للحفر، فاضطروا إلى الحفر بأيديهم، يقتاتون على أقل الطعام، تحرق حلوقهم حرارة الصيف، ويُجمِّد أطرافهم برد الليل، وعلى ظهورهم تنطبع آثار سياط تنبئهم أن الجلاد لا يرحم.
وفي مدة 10 أشهر فقط سقط 12 ألف شهيد، دُفنوا على ضفتي الترعة، قتلهم محمد عليّ بقلة الزاد وشح الماء العذب، والإعنات في العمل بلا رحمة، من طلوع الفجر وحتى غروب الشمس. [2]
يصف الجبرتي مآسي فلاحي مصر على ضفتي المحمودية، قائلًا:
أرى بعين الخيال أحد أجدادي الفلاحين، وهو في حقله الصغير، وقريته الوادعة، فإذا بالسكون والهدوء يتبدد مع صخب الجنود، يهجمون عليه، ينتزعونه من أرضه، يُكبلونه بالسلاسل، يسوقونه كالماشية، ينظر بعين دامعة إلى زرعه وولده، منْ يعنى بهما من بعده؟ ومن يسد رمق أسرته؟ وهل يكتب له القدر أن يراهما مرة أخرى، أم يكون قبره تحت ركام طين يحمله إخوانه ممن يشاركونه نفس المصير؟
صحيح أن السخرة كانت قائمة قبل محمد عليّ، إلا أنها كانت تتم محليًا، أي أن كل فلاح يعمل في المنطقة التي توجد فيها أرضه الزراعية، وفي ذلك نوع من العدل، لأن حقول الفلاحين تستفيد من مشروعات الري.
الجديد الذي استحدثه الباشا هو نقل السخرة إلى أي مكان في مصر، وفي هذه الحالة كان المستفيدون هم كبار الحائزين على الأراضي من أعوانه، الذين يستخدمون سلطانهم لإعفاء فلاحيهم من السخرة. [4]
الجديد من مظالم محمد عليّ، أن السخرة جرت في أسوأ الظروف، بما فيها نقص الغذاء وأدوات الحفر، فتساقط آلاف الفلاحين موتى أو مرضى. يعلق أحد المراقبين الأجانب على حفر ترعة المحمودية بأن 50 رجلًا في إنجلترا يستخدمون الأدوات الملائمة يمكنهم أن يؤدوا عمل 500 رجل يعملون في حفر المحمودية. [5]
لو كان محمد عليّ عبقريًا اقتصاديًا ما تكبد الاقتصاد المصري سوء سياسته من ضعف حالة الفلاحين الصحية وحرمان الأراضي من سواعدهم، مما أدى إلى تراكم الضرائب عليهم، وبالتالي حرمان ميزانية الدولة منها، وفقدان مساحات زراعية لم تعد تجد من يزرعها. تُقدر الباحثة «هيلين ريفلين» مساحة الأراضي التي لم تعد تُزرع في الصعيد وحده جرّاء السخرة بربع أراضيه. [6]
منْ المستفيد؟
إذا اعترض مُعترض بأنه لا يجوز تعميم الأحكام التي سطّرها الجبرتي في كتابه من منظور إسلامي عن الفترة الأولى من حكم محمد عليّ، حيث كان فيها الباشا «عصجبي»، يقوم فيها بإعداد البلاد لما قام به من إصلاحات لاحقة، كبناء القناطر وشق الترع وتشييد المنشآت والاهتمام بالتعليم. [7]
أو القول بأن محمد عليّ كان مُجبرًا على استخدام السخرة لعاملين: الأول جهالة الشعب آنذاك، والثاني خلو الخزانة. فدفعه هذان العاملان إلى تسخير الجماهير من العمال بلا أجر، متسائلًا: ومن أين يجلب ذلك الأجر والخزانة خاوية على عروشها؟ [8]
الرد على هذه الاعتراضات، أن الوظيفة الأولى للدولة الراشدة أن تقوم على تنمية الإنسان وإسعاده، لا على تسمين النخبة الحاكمة، فالإنسان هو مصدر التنمية وهو هدفها، وقد كرّمه الله، وصان الإسلام حقوقه.
ولماذا لم يستغل الباشا موارد مصر المالية في استيراد آلات الحفر بدلًا من السخرة والجلد بالسياط؟ وأين ذهبت عوائد التجارة التي هيمن عليها؟ وكيف دبّر النفقات الباهظة لصناعة آلة حربية خاض بها حروبًا ضد الدولة العثمانية في الشام ولا يستطيع تدبير ثمن آلات الحفر؟
ولأن العبرة بالنتائج، نقول إن أهل مصر لم يستفيدوا من كل الأعمال التي شيّدوها بالسخرة، وقد ظل محمد عليّ يمارس اختطاف الفلاحين من قراهم وإلحاقهم بالتجنيد القسري إلى نهاية حياته، وحتى عندما حددت معاهدة لندن 1840 وفرمانات 1841 عدد الجيش بـ 18 ألف جندي، رفض الباشا تسريح العدد الفائض، واستغلهم، ضباطًا وجنودًا، كعمال في السخرة.
الاحتكار: جنون وفنون
في المجال الزراعي، عاش الفلاح المصري، مع نظام الاحتكار، عيشة سيئة، فقد كان الباشا هو المالك لجميع الأراضي، صحيح أنه أعاد توزيع الأراضي على الأسر المنتفعة من 3 إلى 5 أفدنة، إلا أنه اعتصر الفلاح كما يعتصر الشربتلي الليمون، وذلك من خلال فرض مزيد من الضرائب على الفلاحين، وفرض سياسة الاحتكار.
احتكر الباشا التجارة، فكان يستولي على المحاصيل، ولا يعطي الفلاح نقودًا، بل صكوكًا بما ورده بعد خصم ثمن المواشي والبذور والسماد. ولم يكن المبلغ المُدوَّن في الصك يُدفع في العادة، وإنما يبقى في ذمة الحكومة وذلك للأغراض التالية:
- تسديد ما قد يتأخر من حساب السنة المقبلة.
- دفع الضرائب التي لا يستطيع إخوانه الفلاحون سدادها للحكومة، فسكان القرية مسئولون (مسئولية تضامنية) في دفع الضرائب المفروضة على كل أراضيها.
- شراء الحاجات الفائضة عن حاجة الجيش من منتجات المصانع. الشراء جبرًا، ولو لم يكن الفلاح في حاجة إليها. [9]
بعد خصم هذه البنود، يستخدم الفلاح ما يتبقى له -إن تبقى شيء- في الشراء من الحكومة، ما يسد رمقه ويدفع عنه شبح الموت جوعًا. وقد تفنّنت الحكومة في شراء محصولات الفلاح بثمن بخس وبيعها له بسعر باهظ.
أردب القمح تشتريه الحكومة من الفلاح بمبلغ 27 قرشًا، وتبيعه له بمبلغ 56 قرشًا. الذرة، الغذاء الرئيسي للفلاح، تشتري الأردب منه بـ 26 قرشًا وتبيعه بـ 27 قرشًا. الأرز تشتري الحكومة الأردب منه بـ 90 قرشًا ثم تبيعه للفلاح بـ 140 قرشًا. أي أنه بخلاف الذرة، باعت الحكومة الغلات للفلاحين بضعف الثمن الذي أخذتها به منهم [10]. أمّا الفول، الطعام الرئيسي للمصريين، فكان الباشا يشتري المحصول كاملًا من الفلاحين، ثم يُعيد بيعه لهم بسعر أعلى، بل وأصدر أمرًا عام 1816 بمنع الفلاحين من أكل الفول والحلبة. [11]
يُقرِّر معاصر لعهد محمد عليّ أنه لم يسبق في تاريخ البشرية أن وجُد نظام اقتصادي، سواء كان إقطاعيًا أو عبوديًّا، وصل به المدى إلى حد حرمان عماله من الطعام الذي يأكلونه. [12]
حداثة بلا إنسان
ظل الفلاح يئن من السخرة طوال العهد الكبيس للباشا، إلى أن وافاه الأجل المحتوم.
لم يُشيِّد محمد عليّ دولة حديثة، وإنما شيّد آلة مراقبة عملاقة ليُحكِم بها سيطرته على حركة المجتمع. استفاد من هذه الآلة العملاقة الباشا وأسرته والموظفون الطفيليون الذين امتصوا دماء الفلاحين. لم يعرف أهل مصر «دولة» في عهد محمد عليّ، ولم يعرفوها فيما تلاه من سنوات، حتى اليوم.
والسؤال الجدير بالدراسة، ليس ما الذي شيده محمد عليّ من مؤسسات الدولة العصرية؟ وإنما ما هي وظائف تلك المؤسسات؟ وكيف تقوم بها؟ المقياس الصحيح ليس «الهيكل»، وإنما «الوظيفة»، وكيفية أداء الوظيفة.
أقل ما يقال عن دولة محمد عليّ أنها «دولة حداثة بلا إنسان»، دولة مخلوقة ومستوردة على النمط الأوروبي، خُلقت لكي تخدم الباشا والغرب الذي خلقها. وقد دفع أهل مصر ثمنًا باهظًا لإصلاحات محمد عليّ، ليس فقط في السخرة والبؤس والفقر، وإنما تحطيم هويتهم الحضارية التي صقلها الإسلام طوال قرون طويلة.
- أحمد رشدي صالح، دراسات في تاريخ مصر الاجتماعي، سلسلة تاريخ المصريين، العدد 144. طلعت حرب، قناة السويس، دار الكتب والوثائق القومية، الطبعة الثالثة، 2008، ص 13.
- عبد الرحمن الرافعي، عصر محمد عليّ، دار المعارف، الطبعة الخامسة، 1989، ص 489. هيلين ريفلين، الاقتصاد والإدارة في مصر في مستهل القرن التاسع عشر، ترجمة أحمد عبد الرحيم مصطفي، مصطفي الحسيني، دار المعارف، يوليو 1967، ص 319، وتقول إن أعداد قتلي حفر المحمودية خلال 10 شهور فقط يتراوح ما بين 12 ألفا و100 ألف.
- الجبرتي، عجائب الآثار في التراجم والأخبار، طبعة مكتبة الأسرة، تحقيق عبد الرحيم عبد الرحمن، الجزء الثامن، ص 471، حوادث شهر شوال 1234 / أغسطس 1819.
- عليّ بركات، تطور الملكية الزراعية في مصر وأثره على الحركة السياسية 1813-1914، دار الثقافة الجديدة، ص 43.
- هيلين ريفلين، مرجع سابق، ص 352.
- عليّ بركات، مرجع سابق، ص 44.
- انظر هذا الرأي في تقدمة الدكتور عبد الرحيم عبد الرحمن للجزء السابع من كتاب الجبرتي، عجائب الآثار، مكتبة الأسرة، 2003، ص: ح، ط.
- يوسف نحاس، الفلاح حالته الاقتصادية والاجتماعية، مطبعة المقتطف والمقطم، 1926، ص 23.
- محمد فهمي لهيطه، تاريخ مصر الاقتصادي في العصور الحديثة، ص 118. أحمد الحته، دراسات في تاريخ مصر في القرن التاسع عشر، دار الكتب والوثائق القومية، 2012، ص 27. هيلين ريفلين، مرجع سابق، ص 164.
- محمد فهي لهيطه، مرجع سابق، ص 118. أحمد الحته، مرجع سابق، ص 30.
- هيلين ريفلين، مرجع سابق، ص 162.
- المرجع نفسه، ص 197.