أغلب الذين يدعون أنهم أنصار الحداثة والعلمنة في بلادنا، وأغلب الذين يدعون التنور والتقدمية وينسبون أنفسهم إليها وإلى مناصرة الحداثة السياسية والديمقراطية في أوطاننا؛ هم في الواقع من الجناة الحقيقيين الذين صادروا الحريات وفتحوا المعتقلات.

وهم الذين دبَّجوا نصوص الدساتير المستبدة أو شاركوا في تدبيجها على الأقل، وزينوا للحكام سوء أعمالهم، وأعانوا أعداءنا في عدوانهم على استقلالنا الوطني، وهم الذين اضطهدوا المخالفين لهم في الرأي، ومارسوا أقسى أنواع الاضطهاد والإقصاء لمخالفيهم في الرأي، وخصوصًا إذا كان مخالفوهم من أنصار المرجعية الإسلامية والمستمسكين بالهوية الوطنية العربية الإسلامية.

وهم الذين أوصلوا بلادنا إلى حضيض التبعية والمهانة وفقدان الاستقلال الوطني؛ بعد أن سيطروا على السلطة ومقاليد الحكم، أو شاركوا فيها على الأقل منذ ما يقرب من قرن من الزمان.

لم تكن العلة في دعوى التحديث التي انتصروا لها، وإنما في دعوى الحداثة التي لم يفطنوا إلى خطرها على هوية الأمة واستقلالها ومستقبلها في آن واحد. وفصول قصة الجدل حول التحديث والحداثة طويلة ومتشعبة في تاريخنا الحديث والمعاصر. ولكن أكثر فصولها تعقيدًا وغموضًا هو الفصل الذي يسجل موقف الحداثوي مع «الفقيه» الشرعي من مزدوج «الحداثة والتحديث».

في رأيي أن ثمة أهمية معرفية كبيرة لتحديد مدلول صفة الحداثة وعملية التحديث وموقف كل من الفقيه والحداثوي منهما. معنى «الحداثة» يكاد يتطابق مع معنى «الثقافة»، وهذا التطابق بين الحداثة والثقافة نجده خاصة في التصور الأمريكي، الذي يقزم الحداثة إلى مستوى التجاذب الثقافي، وإلى الجانب الأداتي التقني للتواصل الاجتماعي، وهذا لا نجده في التصور الفرنسي مثلًا؛ إذ الحداثة عند الفرنسيين هي النقطة المفترض أن يعكس فيها المجتمع تصوره لذاته، ومحاولة حلحلة مشاكله عن طريق رؤية سياسية أساسها التفكر العقلاني، وليس تداخلات ثقافية يغيب فيها البعد السياسي والعقلاني للإنسان لتجعله نتاج تجاذبات قوى مختلفة، خاصة منها قوى السوق، وهما معًا يختلفان قطعًا عن معنى «التحديث»؛ على مستوى التعريف الاسمي لكل كلمة من تلك الكلمات.

التحديث هو عملية اقتباس لتقنيات جديدة في هذا المجال أو ذاك، وهي عملية غير محايدة ثقافيًا؛ ونقول أيضًا إن ميدانها الأساسي هو البنيات المادية. أما الحداثة فهي رؤية جديدة للعلاقة بين الماضي والحاضر والمجتمع والعصر والثابت والمتحول، لكن ليس هذا فقط، لأن الحداثة ليست أي رؤية جديدة للعلاقة بين الماضي والحاضر والمجتمع والعصر والثابت والمتحول، وإلا فإن ظهور الإسلام، طبقًا لهذا المعنى؛ يصبح حداثة.

الحداثويين، وأشباه الحداثويين في عموم بلادنا العربية والإسلامية، عندما يدعوننا لاتباع نهج «الحداثة الغربية»، فإنهم يدعون إلى النقل والتقليد، وتتعطل لديهم كل ملكات النقد والتفنيد، ولا تعمل إلا باتجاه أصولنا العقيدية والحضارية.

الحداثة في أوضح معانيها هي «رؤية جديدة للعالم»؛ أي أن ميدان عملها الأساسي هو «البنيات العقلية والوجدانية». ولكنها إذا كانت كذلك، ألا نكون قد أزلنا الحد بينها وبين مفهوم «الثقافة»، وجعلناهما شيئًا واحدًا؟

أليست الثقافة هي رؤية عامة، وطريقة نظر للحياة، وحالة فكرية تشمل المجمتع كله (مع بعض التباينات)، أو هي إجابة على سؤال مركزي هو: «لماذا نعيش»؟ وإذا كانت كذلك، وهي في رأينا كذلك، فهل يصح أن نطابقها مع «الحداثة» المرتبطة بتجربة المجتمعات الأوروبية/ الغربية وبما أجابت به على ذلك السؤال المركزي «لماذا نعيش»؟ إن الثقافة توجد، ووجدت قبل الحداثة وستوجد بعد الحداثة. ولذلك فإن الأصح هو أن نتكلم على «ثقافة حداثية»، لا عن ثقافة مطلقة، ونحن نبحث مواقف الفقيه والحداثوي من هذه المسألة.

والمقصود بالثقافة الحداثية هو ما سوف تكرسه الحداثة ودعاتها من رؤى وأفكار وتصورات، وهي مبنية من جهة على القطيعة مع التصور الغيبي الديني ومع الثقافة التقليدية، ومبنية من جهة أخرى على تصور يرى تحقق الإنسان في الحاضر والمستقبل، ويرى أن كل شيء يجب أن يُتَجَاوز، بما أن كل تحقق للشيء يجعله يدخل في الماضي الذي ترفضه الحداثة. هذا هو لب لباب مفهوم الحداثة الوافد من التجربة الغربية، وفيه أصل أصول جناية الحداثيين العرب على حرية مجتمعاتنا واستقلالها الحضاري وثقافتها الذاتية.

الثقافة الحداثية هي ثقافة غير ثابتة بالضرورة، وغير مستقرة. هي تريد تحقق الشيء وتجاوزه في الوقت نفسه، ولذلك فإنها سوف تعيد صياغة رؤيتنا للزمان والمكان بطريقة أفقية تطورية مما سوف يكرس ثقافة ملاحقة الزمان والهيمنة على كل المكان بدون جدوى.

ويتجلى هذا اليوم في عملية الاستهلاك؛ حيث تغزو كل مادة استهلاكية كل مكان في العالم في وقت متزامن تقريبًا، وفي نفس الوقت تدخل مواد أخرى السوق في سباق مطرد لا آخر له. إذن: الثقافة طبقًا للتصور الحداثوي نتاج لفعل الإنسان في الأرض متأتٍ من تصوراته واعتقاداته، وهي مرحلة معينة ظهرت في مكان معين تعطي تصورًا معينًا لثقافة موجودة. وهذا التصور يضع الثقافات الأخرى (غير الحداثية) في موضع رد الفعل الدائم عن طريق التكيف أو عن طريق الاقتباس، أو الرفض مثلًا.

بمعايير المثقف الحداثي في بلادنا، توجد «حداثة واحدة»، ومن ثم «ثقافة واحدة». وهذه هي نقطة الفراق الكبرى بينه وبين «الفقيه»، حتى ولو كان الفقيه مستجمعًا لشروط الاجتهاد وقادرًا عليه، وحتى لو «كان خبيرًا بشئون قومه ومطلعًا على أحوال زمانه» كما قال المالكية قديمًا.

والسؤال الآن هو: كيف تتم عمليةُ «التقدم الثقافي»؛ كي لا يكون التحديث مؤديًا فقط إلى التبعية والاستهلاك؟ يجيب بعض أولئك الحداثويين بأن هذا التقدم الثقافي يتم عبر «تعديل آليات الاجتهاد» التي درج عليها العقل الاجتهادي المسلم عبر العصور؛ بحيث يصبح «الاجتهاد النوعي» أكثر من «الاجتهاد الفرعي»، بحسب المدلول الذي يعنيه كل منهما.

وأول ما نلاحظه في هذا السياق هو أنهم يصنفون علم «أصول الفقه» برمته ضمن «الاجتهاد الفرعي». ونحن نعلم أن العلماء تكلموا في تصنيف أنواع الاجتهاد، وأنهم أكثروا منها. ومنها «الاجتهاد النوعي» و«الاجتهاد الفرعي». قالوا: إن الاجتهاد النوعي هو الذي يعنى بالكشف عن أدلة الفقه، ويعرضها عرضًا نسقيًا منظمًا لكي تكون أساسًا لبناء الفهم السليم والتقدير المنضبط للأحكام وللمصالح والمفاسد. هو عمل يتعلق بتأصيل أدلة النظر في المطالب الكلية والمصالح العامة، وهذا هو موضوع «علم أصول الفقه». أما «الاجتهاد الفرعي» فهو يُعنى باستنباط الأحكام الشرعية العملية من أدلتها التفصيلية بإعمال تلك الأدلة. وهذا هو «موضوع علم الفقه».

ولكن الحداثويين المغرمين بتقليد أفكار الآخرين يقولون إن علم أصول الفقه هو علم الاجتهاد بالمعنى الفرعي الذي يتمثل في طلب العلم بأحكام فروع من النوع نفسه؛ فهي إما أن تكون مشمولة بالدلالة العامة للفظ، أو تأتي نتيجة قياس، أو نتيجة تطبيق الكلي على الجزئي.

ويعتبرون أن «الاجتهاد النوعيَّ» هو بالمعنى الذي يُستفاد من مثال قيام عمر بن الخطاب بوقْف «سواد العراق»، وينتهون بهذا التحليل إلى أن من قام باتخاذ قرار التصرف بوقف سواد العراق: الخليفة، وقادة الجيش، ومجموعة الشورى؛ وأنهم لم يتخذوا القرار بصفتهم «فقهاء»، وإنما «بصفتهم الهيئة المستأمنة على المصلحة العليا للمجتمع». ثم ينتقلون إلى الواقع اليوم ليسقطوا عليه هذا التحليل، ويفترضون أن مسألة سواد العراق لو تكررت في عصرنا لدار التداول فيها في مؤسسة تسمى اليوم «السلطةُ التشريعيةُ».

النتيجةُ من هذا التحليل الحداثوي هي: أن الاجتهاد النوعي المعاصر ساحته هي المجالس التشريعية، (مثلًا) أو ما شابهها، وبعيدًا عن آليات أصول الفقه، سواء كانت نصية، أو قياسية كما فعل عمر بن الخطاب ومن كان معه من أهل الحل والعقد مثلًا . ويزعم هؤلاء الحداثويون أننا إذا أفلحنا في ذلك؛ أمكننا إنجاز مهمة التقدم الثقافي المطلوبة لإنجاز مهمة الحداثة والاستقلال في واقعنا.

نتيجةٌ كهذه تعني فيما تعني نقل الاجتهاد في القضايا والمصالح العامة من زمام «الاجتهاد الفقهي» برمته إلى زمام «جهة مستأمنة على المصلحة العليا» كما يقول بعضهم. وهذا الزمام هو عينه زمام «السياسةِ الشرعيةِ» بتعريفات فقهائها القدامى والمحدثين، وهي تعريفات متعددة الصياغات متوحدة المعنى حول تفويض ولي الأمر في تقدير المصلحة بالتشاور مع أركان حكمه. أو هي «التصرف في عموم مصالح الأمة مما زاد على القضاء والفتيا» كما قال القرافي، وبمعناه قال آخرون مثل ابن نجيم وابن عقيل والطرابلسي قديمًا، وعبد الوهاب خلاف وعبد الرحمن تاج وغيرهم حديثًا.

ولم يكن بابُ «السياسة الشرعية» الذي فتحه الفقهاء قديمًا سوى الباب الملكي لما سيعرف في تاريخنا الحديث باسم الأحكام العرفية وقوانين الطوارئ، ومن ثم تجذير السلطة الاستبدادية وإضفاء «الشرعية» عليها، وحصر اختصاص الاجتهاد الفقهي بمعناه الأصولي في مسائل العبادات والمعاملات الفردية؛ لا الجماعية التي يعج بها واقعنا.

ثم إن الحداثويين يدعون أيضًا إلى تجديد آليات «الاجتهاد» بإعمال «نظريات الخطاب»، وما بات يعرف حديثًا بعلم «التأويل» وطرائق التحليل الدلالي واللسانيات… إلخ. وحجتهم في ذلك «فعل القدماء» الذين اشترطوا فيمن يتصدى للنص بالتفسير أو الاجتهاد أن يكون عالمًا باللغة، بمعنى التفكير اللغوي؛ ومن ثمّ يكون منطقيًا أن يُشترط في المعاصرين العلمُ بالقضايا اللسانية والدلالية الحديثة، وبما يسمى علم التأويل الحديث وفلسفاته المختلفة.

مثل هذه الدعوة مفيدة، وإن كانت ليست جديدة. ولكنها تثير كثيرًا من الإشكالات المتعلقة بحدود الإفادة من تلك المعارف، وبخاصة «الهيرمينوطيقا» أو علم تأويل الخطاب. وهل كل ما يوصي به هذا العلم قابل للتطبيق على النص القرآني والحديثي؟

بينما يزعم الحداثويون وأشباه الحداثويين في عموم بلادنا العربية والإسلامية أنهم يدعون للتحرر والاستقلال، إذا هم في الواقع ونفس الأمر يرسخون التبعية والاستذلال.

ما أود التأكيد عليه هنا هو: أن فتح النص القرآني والحديثي للمعارف الحديثة ولعلم تأويل الخطاب سوف يتمخض عنه انزياح شبه كامل باتجاه الرؤية الحداثوية السابق بيانها، وهي التي تأتي على آليات الفهم والتأويل الأصولي للنصوص المنزلة (القرآن والسنة)، بل تأتي على تلك النصوص ذاتها. وهو ما يظهر بين الحين والآخر في دعاوى إنكار السنة والاكتفاء بالقرآن الكريم.

ولا أرى أن هذا ممكن. كما لا أرى أن فيه فائدة تجتنى. وأرى أن الأجدى هو الاجتهاد من أجل بناء تصور معرفي منهجي أصولي بالدرجة الأولى؛ أي يحترم أصول قراءة النص القرآني والحديثي ويلتزم بها، مع الانفتاح على منجزات العلوم الحديثة وآلياتها باعتبارها أدوات مكملة، لا باعتبارها آليات للفهم والتفسير والتأويل؛ بحيث يصبح همنا هو محاولة تأسيس ثقافة جديدة تحتوي على تصور واضح للإنسان والكون والدين والعمران، وقبل كل هذا: للحرية والاستقلال الحضاري.

ولكن الحداثويين، وأشباه الحداثويين في عموم بلادنا العربية والإسلامية، عندما يدعوننا لاتباع نهج «الحداثة الغربية»، فإنهم يدعون إلى النقل والتقليد، وتتعطل لديهم كل ملكات النقد والتفنيد، ولا تعمل إلا باتجاه أصولنا العقيدية والحضارية. وبينما يزعمون أنهم يدعون للتحرر والاستقلال، إذا هم في الواقع ونفس الأمر يرسخون التبعية والاستذلال.

وعندما يصرون على تعريف ذاتهم من خلال «الغير»، فإنهم في الحقيقة يخرجون عن مقتضيات العقل والنقل معًا. وصنيعهم هذا هو أعظم جناية على الحرية والاستقلال والثقافة. وهم بذلك خطر على حاضر مجتمعاتنا ومستقبلها.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.