الصعيد الحديث: تاريخ من الاستقلال والثورة والإخضاع
انعكست آثار الصراع الدامي إبان الحروب الصليبية على الصعيد، ربحًا واستقلالًا. فبعد توقف طريق الحج البري الذي يمر عبر مصر ثم منطقة الأردن إلى الأراضي الحجازية، تحول طريق الحج إلى الجنوب والموانئ المصرية المنتشرة على البحر الأحمر خاصة (القصير وقوص وعيذاب) التي نقلت حجيج الشمال الأفريقي والأندلس إلى ينبع بالحجاز.
استطاع الصعيد في تلك القرون أن يحقق ثروات ضخمة من حركة التجارة العالمية بين الهند والحجاز ومصر وأوروبا، ونمت فيه طبقة محلية استطاعت أن تحتفظ باستقلال واسع. وعرف الصعيد خاصة قنا كثيرًا من مظاهر التحضر والرقي. لكن مع عودة طريق الحج البري عبر الأردن للعمل مرة أخرى بعد انتصار الظاهر بيبرس على الصليبيين في القرن السابع الهجري، أخذ الصعيد يتراجع.
عند هذه النقطة، تبدأ حكاية كتاب «إمبراطوريات متخيلة: تاريخ الثورة في صعيد مصر» للدكتورة زينب أبو المجد، أستاذة التاريخ في جامعة أوبرلين الأميركية. والكتاب في الأصل رسالة حصلت بها الكاتبة على درجة الدكتوراه عام 2008، وصدرت الطبعة الأولى باللغة العربية عن المركز القومي للترجمة عام 2018 في 365 صفحة.
دولة الصعيد
عاش الصعيد قرونًا طويلة شبه مستقل، تكاد تنحصر علاقته بدولة المركز في توفير الغلال ودفع الضرائب المستحقة، أما تدبير أموره، فكان يخضع لتحالفات قبلية داخلية سيطرت عليها قبيلة هوارة العربية، وكان أبرزها تأسيس دولة استمرت قرابة الأربعين عامًا بقيادة الأمير همّام في القرن الثامن عشر الميلادي، وهو الذي استطاع نسج علاقات خاصة مع السلطان العثماني في الآستانة من خلال توفير الغلال والسكر إلى عاصمة الخلافة. ومع انهيار دولة الأمير همام، دخل الصعيد في طور التهميش المصحوب بالقمع والإخضاع والاستغلال.
تعامل الصعيد مع عدة إمبراطويات هي: المملوكية والعثمانية والفرنسية والمصرية والبريطانية، وتنوعت أساليبها في إخضاع الصعيد واستغلاله وقمعه. وقد ولد نظام الدولتين في مصر قبل استيلاء العثمانيين على الحكم في مصر عام 1517م، إذ كانت قبيلة هوارة تسيطر على الصعيد منذ عام 1380م بعد حروب طاحنة مع المماليك. ومع تلك السيطرة، أخذت هوارة تنشط في الزراعة والتجارة والصناعة خاصة السكر.
ومع دخول العثمانيين، تم إقرار الوضع القائم. صيغت العلاقة بين هوارة والعثمانيين على أساس الاستقلال الذاتي مقابل دفع الخراج والضرائب للباب العالي، وبذلك تم إقرار نظام الدولتين رسميًا في وثيقة قانونية أصدرها السلطان العثماني 1525م عرفت باسم «قانون نامة مصر» يتضمن الاستقلال الإداري للصعيد عن القاهرة، وكان الصعيد يتواصل مباشرة مع إسطنبول، ثم صدر قانون آخر يتعلق بملكية الأراضي الزراعية.
واستطاعت هوارة أن تحصل من السلطان العثماني على فرمان بأن يحتفظ أبناء هوارة بحق تحصيل ضرائب تلك الأراضي ووفق نظام سمي وقتها بـ«الالتزام». وتحكمت هوارة في أكثر من نصف الأراضي الزراعية في الصعيد. وفي نهاية القرن السابع عشر الميلادي، ظهر الأمير همام باعتباره الملتزم الوحيد للصعيد.
كان الاستقرار السياسي في الصعيد قائمًا على «عقد اجتماعي» بين قبيلة هوارة الحاكمة، وفئات المجتمع الأخرى وأبرزها: الفلاحون والأقباط والعربان. كانت هوارة توفر للفلاحين الأمن من غارات العربان، في مقابل الحصول على الضرائب، ثم استطاعت هوارة أن تخطو خطوة سياسية كبيرة عندما أسندت للعربان المعروفين بالسطو، وأبرزهم قبيلة العبابدة، مهمة حراسة القوافل، وأشركتهم في التجارة.
كان صراع المماليك ينعكس على الصعيد، وفي بعض فترات الاضطراب كانت هوارة تتوقف عن إرسال الخراج للقاهرة، وتعرض الصعيد لوباء الطاعون حيث طال الموت كثيرًا من فقراء الصعيد الذين فرّوا إلى القاهرة.
وُلدت دولة الشيخ همام بن يوسف في الصعيد متمتعة بالحكم الذاتي، ونجح همام في استيعاب الغضب، واتخذ من قنا عاصمة له، واستمرت دولته أربعين سنة. كان همام يمتلك 12 ألفًا من المواشي مخصصة فقط لزراعة قصب السكر، ولك أن تتخيل ما تحتاجه تلك الثرورة الحيوانية من أراض زراعية لعلفها، وعمال لخدمتها.
لكن في عام 1773م، انهارت دولة همام، وخضع الصعيد للسيطرة العثمانية بعد ستة قرون من الحكم الذاتي. كيف حدث ذلك؟
كيف خضع الصعيد؟
اتبعت الإمبراطوريات التي حكمت الصعيد عدة وسائل وسياسات لإخضاعه، منها:
1. فرق تسد
عندما نزلت الحملة الفرنسية مصر 1798، كان الفرنسيون لديهم تصور عن الصعيد أن أهله أشبه بـ«البرابرة» الذين يسهل الاستحواذ عليهم بكلمات ساذجة، ورأوا أن أهم مجموعتين في الصعيد يمكن استقطابهما للفرنسيين هما: الأقباط والعربان، نظرًا لبعض المظالم التي تعرضوا لها، و للتقارب الديني بين الفرنسيين والأقباط.
هنا، نجد أن الفرنسيين صدّروا صورة زائفة عن أنفسم لأهل الصعيد بأنهم جاءوا لتحريرهم من المماليك، كما أن الصعيد صدر صورة زائفة عنه للفرنسيين بأنه يقبل التعاون معهم. وعندما انكشف الزيف، بدأ الصدام بين الجانبين في معارك عنيفة، وبدا الوجه الحقيقي للفرنسيين في مذابحهم المروعة ضد السكان، ونهب محاصيلهم ومواشيهم.
لكن الفرنسيين وجدوا أن سيطرتهم على القبائل العربية لا تتم إلا من خلال استدعاء الخلافات بين القبائل العربية، وهي سياسة اتبعها الجنرال بيير بوير، ويبدو أنها إحدى الأدوات التي استخدمت منذ تلك الفترة في إضعاف الصعيد وإخضاعه لتتحق هيمنة تلك الإمبراطوريات على الصعيد، لكنها أخذت أشكالًا متعددة منها إثارة الخلافات الطائفية، والخلافات بين العربان والفلاحين.
2. القوة والقهر
استخدمت القوة مع الصعيد في كل الإمبرطوريات، لكننا نتوقف عند سياسة محمد علي باشا، ونقف عند نص كتبه الجبرتي يقول فيه:
هذا وصف لما فعله إبراهيم بن محمد علي باشا، ذلك الشاب ابن العشرين عامًا، الذي أطلق والده يده في الصعيد ليخمد ثورتها ويستنزف ثروتها. ما قام به إبراهيم يدخل في إطار الجرائم ضد الإنسانية ويرقى إلى عمليات الإبادة. فعندما وصل محمد علي إلى السلطة 1805، لم يقترب من الصعيد إلا بعد ست سنوات. ومع سيطرته على الصعيد، توفرت له موارد ضخمة للغاية، إذ سيطر على تجارة الغلال والسكر، وهو ما وفر له قدرات مالية عالية استفاد منها في حروبه وتوسعاته، واقترن الاستغلال بالإذلال.
3. التلاعب بالتركيبة الاجتماعية
كان أول شيء فعله محمد علي هو أن يستولي على غلال الصعيد ليقوم بتصديرها إلى أوروبا ويجني من وراء ذلك مكاسب مهولة، فقد أصبح التاجر الأول في مصر بعدما احتكر غلال الصعيد وزراعة قصب السكر وتكريره، فكان القمح يُصدّر بخمسة أضعاف سعره في السوق المحلي.
بعد ذلك، قام محمد علي بالتلاعب بالتركيبة الاجتماعية والطبقية في الصعيد، فنشأت نخبتان جديدتان في الصعيد:
الأولى، هي المستوطنون الأتراك خاصة في قنا، الذين حازوا الإقطاعات وتولدت في أيديهم أموال ضخمة، وتلك أصبحت النخبة الأهم في الصعيد.
الثانية، هي بقايا النخبة الصعيدية القديمة التي أعادت تشكيل نفسها ودخلت في تحالف ومصاهرة مع نخبة المستوطنين الأتراك، وأسست تلك النخبة وكالات تجارية وإقطاعات، وتوسعت تحالفاتها مع القاهرة والخارج، وأصبح لمحمد علي باشا نخبة تدين له بالولاء تختلف عن النخبة من قبيلة هوارة التي كانت لها السيادة لقرون طويلة. ومن خلال تلك النخبة الجديدة، خضع الصعيد وأصبح أسهل انقيادًا للحكومة المركزية في القاهرة.
4. البيروقراطية
لعبت البيروقراطية دورًا مهمًا في إخضاع الصعيد، حيث طور إبراهيم باشا نظامًا إداريًا في الصعيد، ربط تلك البلاد بالقاهرة مباشرة، فأصبحت إدارة الصعيد تأتي بأوامر من القاهرة ولا تصنع القرارات في الصعيد، فتم تحطيم اللامركزية التي استفاد منها الصعيد في الحفاظ على استقلاله، بل أصبح تخطيط الاقتصاد في الصعيد مركزيًا خاصة في الجانب الزراعي، فتحددت نوعية الزراعات ومساحاتها حسب احتياجات الباشا في القاهرة وليس وفق مصالح الصعيد واحتياجاته.
صودرت كثير من الأراضي من الهوارة والملتزمين من المماليك، كما صودرت كثير من الأوقاف، وقام محمد علي بإعادة توزيعها على الفلاحين وفق شروط قاسية.
5. التهميش
كان التهميش إحدى الأدوات التي استخدمت لإخضاع الصعيد، وجاء التهميش بأوامر قانونية، وبدأ في اللحظة التي قرر فيها الخديو إسماعيل تأسيس البرلمان الذي عرف باسم «مجلس شورى النواب» عام 1866، حيث هيمن على البرلمان كبار ملاك الأراضي في الدلتا، أما الصعيد، فلم تنشأ فيه طبقة من ملاك الأراضي بسبب المصادرات والإقطاعات الواسعة التي سيطر عليها الأتراك ونخبة الدلتا، فلم تكن هناك عائلات ذات تأثير سياسي.
ورغم حضور أهل الصعيد كأعضاء في البرلمان، فإنهم لم يكونوا من ذوي المناصب القيادية، وهو ما تكرر في ظل الاستعمار البريطاني، لذا لم يكن غريبًا أن تقتصر مشاريع التنمية خاصة في الري على ما يخدم الأراضي الخديوية أو الممتلكات الواسعة للإقطاعيين، أي أن التنمية انصرفت إلى ما يدعم قوة الأقوياء، ويضعف المهمشين، فعانى الصعيد من سياسة تمييزية في مجال التنمية.
كيف قاوم الصعيد؟
لم يقف الصعيد على مدى قرونه الخمسة صامتًا أمام تدمير هويته ونهب ثروته والعبث بتركيبته الاجتماعية والطبقية، فعرف أشكالًا من المقاومة، منها:
1. التسحب
كانت الضغوط والضرائب والمظالم في ازدياد على فلاحي الصعيد، ولم يجدوا أمامها إلا التسحب فارّين من الضرائب والتجنيد الإجباري، أي ترك الأرض والهروب إلى القرى المجاورة، وكانت السلطة تجد قرى بأكملها بلا سكان، فتصادرها وتعيد توزيعها، فإذا عاد الفلاح يجد أنه خسر كل شيء، لذا كان التسحب وبالًا على كثير من أهل الصعيد، خاصة بعدما كلفت السلطة العُمد ومشايخ البلد بالقبض على المتسحبين والإبلاغ عنهم.
2. الثورة
شهد الصعيد ثلاث ثورات ضد حكم محمد علي باشا خلال الفترة من 1820 حتى 1824، وقد كانت قنا مركز تلك الثورات.
الثورة الأولى، قادها شخص يدعي الشيخ أحمد، ادعى أنه المهدي المنتظر، وحشد فيها أربعين ألفًا من مؤيديه، ونجح في الاستيلاء على قنا لمدة شهرين، وعيّن موظفين له، وتمتع بقدرة على بناء تحالفات سياسية محلية، لكن سرعان ما أخمدت الثورة التي قتل فيها أكثر من أربعة آلاف شخص. والغريب أن بعض الجنود الذين ارتكبوا المذابح ضد القرى في الصعيد كانوا ينتمون إلى تلك القرى ذاتها، وهو ما عمّق ثقة محمد علي في بناء جيش من المصريين لا يدين بالولاء إلا لأوامره فقط.
كما نشب عقب تلك الثورة تمردان آخران في قنا، لكن تم إخمادهما بنفس الوحشية. ومن الغريب أن الدولة أغرت العربان بمكافأة مجزية عن كل رأس متمرد يقطعونه، فطاف العربان الجبال، وقطعوا رؤوس كثير من الثوار، فخلا الصعيد من الثورة.
لكن في سنة 1864، قامت ثورة أخرى في الصعيد بزعامة الشيخ أحمد الطيب، وقاد عشرات الآلاف من الفلاحين الغاضبين، واستهدفت حركته مراكب التجار الأوروبيين في النيل وأبعديات الأتراك وأثرياء الأقباط، لكنها أُخمدت.
3. الفلاتية: الجريمة بطعم السياسة
«الفلاتية» هم العصابات المنظمة أو مطاريد الجبل. شكّل هؤلاء إزعاجًا دائمًا للسلطة، خاصة وأن الجبال الوعرة كانت مصدر حماية كبيرة لهم، لكن أصبح الانضمام لـ«الفلاتية» طريقًا للغاضبين والهاربين من السلطة الذين ليس لهم أي علاقة بعالم الجريمة والسطو.
من هؤلاء هريدي الرُجيل الذي كانت عصابته تهاجم أملاك الأترك. وكان هريدي يستقطب بعض العمال العاملين في السخرة إلى عصابته ويسلحهم بالبنادق. والغريب أن نساء انضمت إلى «الفلاتية»، فقد شكلت سيدتان هما «وصفة» و«ولقان» عصابة، وهما في السبعين من عمرهما، ولم يُعرف عنهما ارتكاب جريمة قبل ذلك التاريخ.