مسلسل «Modern Love»: هل يجمع قصص الحب نمط واحد؟
في واحدة من أشهر رسائل الحب العالمية يكتب المعذب السوداوي كافكا لحبيبته ميلينا:
وفي رسائله لها يظهر كيف يعاني كافكا من الاكتئاب، الحياة والحب بالتأكيد، نتعرف كذلك على معاناة ميلينا في قصة حب محكوم عليها بالفشل من كل الجوانب. كما يظهر في رسائله لمحة تعبر عن شكل من أشكال الحب في أواخر القرن التاسع عشر. وإن شئت حصر قصص الحب المؤثرة على مر التاريخ فستحتاج لمجلدات ولن يمكن حصرها مع ذلك. وعليه يقدم لنا مسلسل حب عصري-Modern Love كبسولة سريعة عن قصص حب عصرية جدًّا، تتأثر بشكل مباشر بكل مميزات وعيوب العصر الحديث، عصر يقترن ذكره دائمًا بالسرعة والتطور المستمر.
المسلسل من إخراج وتأليف جون كارني وآخرون، تعتمد حبكة الحلقات الأساسية على قصص حب حقيقية نُشرت في مجلة نيويورك تايمز. شارك في بطولة كل حلقة العديد من النجوم المميزين مثل آنا هاثاوي، كاثرين كينر، أندرو سكوت، كيت هارينغتون، وصوفي أوكونيدو. يقدم لنا المسلسل في كل حلقة قصة جديدة على مدى ست عشرة حلقة مقسمة على جزأين، قصص تبدو في ظاهرها منفصلة تمامًا لأشخاص لن تتقاطع طرقهم أبدًا، لكن في الواقع هناك العديد من الترابطات بين تلك القصص، العديد من الثيمات المشتركة التي تجعل قصص الحب العصرية ما هي إلا أوجه متعددة لعدد قليل جدًّا من الأفكار والعقد.
إنه فقط مجرد سوء تفاهم
هل تعلم أنه في الأغلب المواد المخزنة في ذاكرتك تختلف بنسبة كبيرة عن المدخلات الفعلية التي رمزها المخ أثناء حدوثها، يقوم المخ بتعديل الذكريات وتشويهها، وأحيانًا الإضافة إليها بناء على العديد من العوامل التي من أهمها الألم النفسي، كردة فعل لتقليل هذا الألم. لذلك – وعند استعراضها على مسافة شارع – تختلف ذكريات كلٍّ من بن وروبي عن علاقتهما التي لم تمتد لأكثر من ثلاثة مواعيد غرامية، لتنتهي نهاية مأساوية في الأخير، فبتعديل بسيط في مجريات الأحداث والجمل التي يتذكرها كلٌّ منهما عن علاقتهما يرى كل طرف نفسه مجنيًّا عليه أكثر منه جانيًا.
إنها حقًّا لعبة «كيف تتذكرني»! وبالرغم من اختلاف ذكريات كلٍّ منهما عن علاقتهما، فإن هناك عاملًا مشتركًا بينهما، وهو يبدو أن هناك سوء تفاهم وتقدير من جانب كلٍّ منهما لشخصية الآخر. فبين الحماية المفرطة والخوف من الاهتمام، الاجتماعية واللباقة من جانب والخجل الاجتماعي والانطوائية من جانب، لم يتفهم كلٌّ من بن وروبي شخصية الآخر.
على نفس الغرار كانت علاقة سارا ودينيس في حلقة «السعي لإبقاء الأمور حية» على وشك التحطم بسبب سوء التفاهم وعدم التواصل بينهما، بالأخص من جانب سارا التي تحمل له الكثير من مشاعر الغضب بسبب تهميشه لها وتثبيتها في خلفية حياته التي يعيشها في مرح مستمر. فدينيس ممثل مشهور عاش عمره كله تحت الأضواء في حياة مليئة بكل مظاهر السعادة والانطلاق، على النقيض سارا التي زج بها في حرب المسئوليات الصعبة فيما يتعلق بالبيت والأطفال، ليتحول ذلك الغضب مع الوقت لحقد يدفعها لانتقاده والسخرية منه بشكل مستمر. لكن الزوجين سارا ودينيس كانا أكثر حظًّا من بن وروبي، لأن الإفصاح عن مشاعر كلٍّ منهما بعد جلسات العلاج النفسي ساعدهما على الوصول لنقطة جديدة مكنتهما من إعادة ترميم علاقتهما.
أحتاج أن يراني أحدهم، أبي على الأخص
وكما تتحكم رغبة الرؤية من الآخرين بأي شكل في كلٍّ من دينيس وسارا، تكون نفس الرغبة هي المحرك دائمًا لكل أفعال ياسمين من حلقة «فاصل من الوضوح في المستشفى» فياسمين شخص لطيف للغاية، مساعد، متفهم ومليء بالطاقة الإيجابية، كما أن ياسمين مدونة شهيرة على مواقع التواصل الاجتماعي تشارك أبسط تفاصيل حياتها مع متابعيها، وفي المقابل تنتظر دائمًا ردود أفعالهم سواء بالتفاعل أو التعليقات.
من الجانب الآخر وبسبب كل تلك المميزات يشعر روب الذي بدأ في مواعدتها حديثًا أنها “أكبر من قدراته” أو out of his league. وفي فاصل من الصراحة في المستشفى يعترف كلٌّ منهما بأكثر النقاط ظلامًا في شخصيته لتبوح أخيرًا ياسمين بسرها الأكبر الذي يطارد أفكارها عن نفسها دومًا، وهو أنها تسعد دومًا «للظهور»، فكل ما تفعله ما هو إلا محاولة مستمرة لأن تكون محط الأنظار من خلال كونها شخصًا جيدًا، وكأنها التطبيق العملي لجملة جوي الشهيرة من مسلسل فريندز: لا يوجد ما يسمى بفعل غير أناني تمامًا.
هي أيضًا نفس الرغبة التي تتحكم في مادي من حلقة «إنه يشبه الأب، وكان مجرد عشاء، أليس كذلك؟» التي تعاني من مشكلات تجاه الأب-daddy issues بسبب موت والدها في سن مبكرة؛ مما حرمها من الكثير من المشاعر الأبوية، يزداد الأمر سوءًا بعد حضورها عيد صديقتها التي مدحها والدها وأغدق عليها الكثير من الحب أمام مادي المسكينة المحرومة من هذه اللطافة. لذلك، ومع أول رجل – بيتر – يشبه الآباء تقابله في مقر عملها تضعه بكل صراحة في خانة الأب، وتبدأ في تعويض كل ما فاتها من مشاعر معه.
الحقيقة أن الفكرة في حد ذاتها كتعويض للأب من خلال علاقة مع رجل كبير في السن هي أمر متوقع ومتكرر في العديد من الأعمال العربية والأجنبية، ولكن يكمن الاختلاف إنها لم تسعَ لعلاقة عاطفية/جنسية كاملة – كأغلب الحالات من نفس النوع – هي فقط سعت لأن «تُرَى» من خلاله، فقط!
المرشد عنصر مهم في رحلة أي بطل
في كتابه البطل بألف وجه يذكر جوزيف كامبل شخصية مهمة في رحلة أي بطل، يقابلها في المرحلة الثانية من رحلته، وهي «المرشد-mentor». تتلخص مهمته في مساعدة البطل بحكم خبراته في رحلته أيًّا كان الغرض الذي يصبو إليه. ولو اعتبرنا بيتر هو المرشد لمادي الذي ساعدها بشكل أو بآخر في التخلص من عقدتها تجاه الأب، فبالتأكيد لا يخلو مسلسل حب عصري من تكرار نفس الثمية، ففي حلقة “عندما يكون حارس العقار هو رجلك” نجد أن مرشد ماجي هو غوزمان حارس العقار، ذلك العسكري السابق صاحب الملامح الجادة والطباع الحادة الذي يحمل كل الحب والتعاطف تجاه ماجي، تلك الفتاة المتخبطة التي تصارع من أجل الحصول على علاقة مستقرة، ومع انقلاب حياتها رأسًا على عقب بسبب حملها من حبيبها السابق تكتشف ماجي أن الداعم الوحيد لها بلا أي شروط هو غوزمان الذي بفضل دعمه تستطيع تأسيس عائلة سعيدة.
وفي شكل آخر من المرشد نجد في حلقة «عندما يكون كيوبيد صحفيًّا متطفلًا» علاقة متبادلة المنفعة بين الصحفية جولي ورجل الأعمال جشوا، فيقوم كلٌّ منهما بدور المرشد للآخر بدون أي تعمد في ذلك. بسبب اللقاء الصحفي بينهما يحل كلٌّ منهما مشكلته العاطفية، فيقرر جشوا بناءً على تجربة شخصية شاركتها جولي معه حدثت في شبابها، أن يعطي حبيبته السابقة فرصة أخرى. ومن جانب آخر تستخدم جولي طريقة جشوا العصرية لاستكمال حياتها العاطفية من حيث توقفت لتبدأ في المواعدة عن طريق التطبيق الخاص به. وأخيرًا، يظهر المرشد بشكل مميز في حلقة «اقبلني كما أنا، أيًّا ما كنت» في هيئة الصديقة والزميلة سيلفيا التي بفعل بسيط جدًّا – تخصيص وقت لليكسي – قد ساعدتها نفسيًّا بشكل كبير.
أتمنى أن يقبلوني كما أنا!
في إحدى خطاباته لأخيه ثيو يسطر فنسنت فان جوخ هذه الجملة المؤثرة بعد تعرضه للاضطهاد بسبب اختلافه، فقط يتمنى أن يتم تقبله كما هو بلا أي انتقادات. يبدو أن التقبل هو أمنية مصابي اضطراب ثنائي القطب في كل زمان ومكان، الاضطراب الذي تعاني ليكسي بسببه من تخبط مستمر في علاقاتها العاطفية. التأرجح المستمر بين قمة السعادة وهاوية الاكتئاب يجعل فهمها وفهم الدوافع وراء تصرفاتها – وبالتالي تقبلها – أمرًا صعبًا للغاية، ومع أداء آنا المبهر لهذا التأرجح تستطيع على الأقل كمتلقٍ أن تفهم جزءًا من معاناتها. ويمكن تطبيق نفس المبدأ على حياة كارلا من حلقة «عالمها كان عالم فرد واحد فقط»، فبعد معاناة طويلة مع الزوجين أندي وتوبين اللذين يسعيان لتبني طفلتها القادمة، وبسبب عدم تقبل الأخير لها ولنمط حياتها تعيد كارلا النظر في أمر إعطائهما الطفلة برمته. في النهاية وبعد التورط معًا في العديد من مواقف الحياة الشاقة يتقبلها توبين، وفي المقابل تقرر أنهما الزوجان المثليان لتربية ابنتها.
وفي قمة هرم الرغبة في الحصول على التقبل غير المشروط تقبع زوي من حلقة «فتاة ليلية تجد فتًى صباحيًّا». تعاني زوي من متلازمة تأخر النوم مما يجعل يومها يبدأ وينتهي في أوقات لا تعد طبيعية بالنسبة للعامة، بالتالي يؤثر ذلك على علاقاتها العاطفية. بعد أن تقابل جوردن الذي ينبهر في البداية بشخصيتها وحياتها. تنقلب الأمور رأسًا على عقب بعد أن يختبر تلك الحياة بشكل فعلي، ليقرر الانفصال عنها. الحقيقة أن ما تعاني منه زوي بالأخص شيء لا يمكن تغييره حتى بالحب والتقبل، فحالتها الطبية خارج إرادتها؛ لذلك لا يمكن إلا أن تتقبل كما هي دون أي محاولة لتغييرها أو لومها. وهو ما حدث في النهاية بالفعل، حيث يقرر جوردن أنه بالتأكيد هناك طريقة يمكن من خلالها الحصول على علاقة متوازنة.
وأخيرًا، إذا حاولنا إيجاد فكرة واحدة تجمع كل الحكايات في عقد واحد يمكن أن نطلق عليها أنها الفكرة الأساسية التي تحكم الحب العصري، ستكون بالتأكيد أن «الحب يكفل لك فرصة جديدة»، فتقريبًا في كل حلقة من حلقات الموسمين يتم التأكيد على أن عنصر الحب هو الأهم في كل الحكايات، وما يتبعه من أفعال كالاهتمام والتقبل والمراعاة، كلها أمور تساعد الفرد على تخطي الكثير من العقبات، تساعد العلاقات على أن تكون أفضل للطرفين.