أنين الناي الدائم؛ العاكوب مقدمًّا للتراث الصوفي
يبكي الناي وينوح ألمًا وحزنًا على غربته وانفصاله عن أصله الذي يحنّ إليه في كلّ لحظة، وتزداد الغربة أكثر حينما يظن أحدهم أنه يعبّر عن الناي بتعبير أبلغ، ويُحسن الشكاية عن حاله أفضل منه، من خلاصات البحوث التي أجراها عيسى علي العاكوب عن الترجمات الشعرية والنثرية لآثار مولانا جلال الدين نخرج بهذه النتيجة، وبخاصة عندما يقارن بين ترجمة الشاعر السوري الراحل محمد الفراتي، وترجمة الأستاذ محمد عبد السلام كفافي، في الأبيات التي تُعنون بأنين الناي، يعود العاكوب إلى النص الفارسي، ويقارن بدقّة ما جرى للنص من (خيانة) هنا وهناك، وأي الترجمات أقرب إلى المعنى الذي أراده الرومي، لتتفوق في نهاية الأمر ترجمة كفافي، مع التأكيد على أن نقل المعاني الشعرية من لغتها الأصلية أمر بالغ الصعوبة، في كافة لغات العالم.
من الجميل أن نعرف أن كفافي مارس الترجمة عبر نصائح أستاذه عبد الوهّاب عزّام، كما يحكي هو في مقدمته للمثنوي، وقد راقت الأبيات التي ترجمها كفافي لأستاذه عزّام بعد أن أطلعه عليها، لم يكن كفافي متماهيًا مع الطريق الصوفي أو مستغرقًا فيه، بل كان دارسًا من الدارسين المخلصين لمادته، سجّل فيها دراسات عدّة وقارن بين الأدب الفارسي والعربي والغربي، وخاض غمار تجربة ترجمة المثنوي على الرغم من صعوبتها، حتى بلغ المجلد الثالث، ولم ينشر في حياته إلا مجلدين من المجلدات الثلاثة، وإن كان قد أحال في دراساته عن الأدب المقارن على مسودة المجلد الثالث، إلا أنه لم يُنشر، تلت ترجمة المثنوي الجزئية كتاب كفافي عن جلال الدين الرومي وتصوفه، وهو الكتاب الذي نشره في بيروت بعد عودته من أمريكا كما نشر هناك أيضًا ترجمته للمثنوي، وكما اختار لنا من كتاب (نصيحة نامه) لفريد العطّار -وهو من آباء الرومي الروحيين- مختارات رائقة نشرها وهو في بيروت، مع زوجه السيدة زاهية قدّورة.
يقول كفافي في مقدمته للمثنوي: الكُتّاب من أبناء الشرق مولعون بأن ينسبوا إلى جلال الدين أنه عالج في ملحمته هذه جميع المعارف وتناول بالبحث كل العلوم، ولستُ أحبُّ أن أمضي في تلك السبيل [….] ولذلك فإني أميل إلى اعتبار المثنوي أثرًا فنيًّا قبل كل شيء، ومصدرًا للاطلاع على القيم الإنسانية والخُلقية التي انبثقت من الحضارة الإسلامية [1].
ترجم كفافي المثنوي وتحمل العناء لأنه رأى أننا في حاجة إلى شيء من التصوف البناء، الذي يعيد الحياة إلى الروح العربي الأصيل، ويكشف عن جوهره ما غشيه من غُبار السنين، حينذاك نبلغ القوة المنشودة، ولا تعصف بنا مخاوف الحرمان من تُرهات الترف الزائف، فمن التصوف أن يتغلب المرء على شهواته، ومن التصوف أن يستهين المرءُ بالحياة في سبيل أسمى الأهداف، ومن التصوف أن يكون المرء مثاليًا في ما يعتقد وما يقول ويعمل.
وضع العاكوب هذه الكلمات نصب عينيه وهو يدخل عالم الرومي الرحب، الذي يمكن أن نقول أنه غرق فيه بكل ما تعنيه الكلمة، وسكر به، ومن الجميل أنه لم يشبع من خمرة الرومي الأزلية، فعبر باب الترجمة انفتح للعاكوب عالم كان مستغلقًا على القارئ باللسان العربي، فنقل جزءًا منه ليس باليسير حتى يتعرّف القارئ العربي على حضور الرومي هناك، وكيف يفكّر أهل الغرب في هذه الشخصية التي عاشت القرآن ونهلت من معينه وأضافت إلى بساتينه الكاشفة بستانًا تتجدد ثماره كل يوم .
وكما كان كفافي وعزّام مطّلعين على دراسات الغرب الكلاسيكية عن الرومي، كدراسات آربري، ونيكلسون، وكما كان الدسوقي شتا مطّلعًا على المحاضرات التي كانت تلقيها شيمل ودراساتها عن الرومي والمثنوي وغيرها من الأعمال الصوفية، تابع المطالعة بتوسّع العاكوب، ولاحظ حضور الرومي في أمريكا، وكان من ثمار الحديقة التي دخلها أن أخرج للقارئ العربي محاضرات عِنايت خان وترجمات كولمان باركس الإنجليزية للرومي، ثم انتقل بعدها لنقل ثمرة فرنسية بديعة كتبتها إيفا ميروفتش [2] التي حلّقت في عالم الرومي في الحياة والممات، وكما كان بابها للشيخ العظيم الرومي، محمد إقبال، كان الباب للعاكوب أيضًا كما يحكي في سيرته العلمية، ترجم العاكوب (جلال الدين الرومي والتصوف) لإيفا ترجمة نالت استحسان العرب والإيرانيين، وعرض لها أكثر من باحث وعرّف بها [3]، وإن كانت الدراسة نابعة من إيمان ومحبّة، لا من همٍّ أكاديمي فحسب، وظني أنه دون محبة وإيمان صادق لا يمكن ولوج هذه العوالم.
ومن فرنسا إلى ألمانيا لاقت كتابات المستشرقة الكبيرة أنّماري شيمل عناية تليق بها من العاكوب، فمحاضراتها التي كتبتها عن الأبعاد الصوفية في الإسلام وألقتها على طلاّبها في هارفارد باللغة الإنجليزية، وأهدتها إلى أولياء شيراز، رأى ضرورة نقلها العاكوب، وفعل ذلك مفتونًا بمدى موسوعية شيمل واطلاعها العريض على جغرافية الشعرء وخريطة العالم الإسلامي الروحي، وكما اهتم بهذا العمل اهتم بعملها عن تبجيل النبي في التراث الإسلامي، ونقله إلى العالم العربي، وإن طُبع في إيران، إلاّ أن عملها الضخم عن الرومي (الشمس المنتصرة أو الشمس الظافرة) هو ما عكف العاكوب على نقله استمرارًا لخطته المعرفية في إظهار عوالم الرومي، ونقل هذه الدراسة إلى العربية وكما نُشر غيرها في إيران نُشرت أيضًا، فأهل إيران هم من أحرص الناس وأدقهم في الحفاظ على تراث الرومي وما يُكتب عنه، ويكفي أن نشير إلى أن المتخصصون في التصوف من أهل الاستشراق، الغير معروفة أسماءهم عربيًا نُقلت أعمالهم بحوثًا وكتبًا إلى الفارسية منذ أعوام.
وفي عام 2011صدرت في وزارة الثقافة السورية الترجمة العربية لكتاب Rumi – Past and Present, East and West: The Life, Teachings, and Poetry of Jalâl al-Din Rumi تحت عنوان: (الرومي ماضيًا وحاضرًا، شرقًا وغربًا- حياة جلال الدين الرومي وتعاليمه وشعره) وقد ترجم لنا هذا العمل العلاّمة العاشق للرومي العاكوب، وتأتي هذه الترجمة لهذا العمل كلبنة متممة للبناء الذي بدأه منذ سنوات خلت، وأعتبرُ هذا الكتاب الذي صدر في مجلدتين كبيرتين من أوفى المراجع العربية عن الرومي وتصوفه وحياته وثماره، فللمرة الأولى تُقدّم لنا في العربية معارف موثّقة بشكل علمي عن حياة آباء الرومي ومشايخه، من خلال كتاباتهم وما كُتب عنهم، فاطلاع لويس فرانلكين -الذي درس سنائي كما درس الرومي- كبير على المدونة الغربية والفارسية، وفي كتابه هذا تابع شيمل في عرضها لحضور الرومي غربيًا، وبشكل أكثر توسعًا فتتبع الآثار المكتوبة والمرئية الورقية والإلكترونية، وما ترك شيئًا يمكن الاستفادة منه إو يقترب من عالم الرومي إلا وحاول أن يستفيد منه ويعرّف القارئ به، فالكتابات الكلاسكية عن الرومي حاضرة، والأعمال الفنية من أزياء ورسم وأفلام سينمائية مغطّاة في الكتاب ومقروءة، وهو على وعي تام بحركة الإنتاج العلمي في إيران عن الرومي، سواء ما صدر من تحقيقات أو دراسات تقارب هذا العالم. وأظن أنه لو لم يترجم العاكوب سوى هذا الكتاب لكفاه من عمل جليل.
هذا جانب من اهتمام العاكوب بالرومي، أما عن الجانب الآخر الذي لا يقلّ أهمية عن سابقه إن لم يزد، فهو نقل المتن المولوي الفارسي إلى اللغة العربية، في لغة وبيان أحسن فيه النقل وعاد بجزالة عبارته وعزوبتها إلى المنبع الأرفع ، وهو ما سنتناوله في المقال القادم إن شاء الله.
———————
[1] : راجع مثنوي جلال الدين الرومي، شاعر الصوفية الأكبر، الكتاب الأول، ترجمة وشرح ودراسة، للدكتور محمد عبد السلام كفافي، نشرة المكتبة العصرية، صيدا-بيروت، 1966م، ص 13.[2] : مستشرقة فرنسية تخصصت في درس إقبال اللاهوري وترجمت الكثير من أشعاره، ومن أبرز الأعمال التي ترجمتها رحلة إقبال المعراجية، وقدّمها المستشرق الفرنسي الشهير لويس ماسنيون، ثم انتقل اهتمامها إلى عالم الرومي، فترجمت المثنوي، وكتبت عن تصوف مولانا جلال الدين، كما اهتمت بنقل سيرة مولانا جلال الدين عبر أهم المصادر التي أرخت له، وهو ابنه سلطان ولد، فترجمت كتابه إلى الفرنسية ودرسته تحت عنوان الشيخ والمريد. وقد عرف الدراسون العرب لإيفا مكانتها، فانتدبت للتدريس في جامعة الأزهر، وعقدت معها الحوارات وألقت الكثير من المحاضرات، وشاركت في المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية، وقامت بمهمة التعريف بالإسلام الروحاني في الغرب، ومما يحمد لأهل المغرب الذين يتقنون لغة إيفا أنهم ينقلون جزءًا من سيرتها وكتاباتها بشكل جزئي إلى اللغة العربية، أشير هنا إلى ما تقوم به الأستاذة عائشة موماد عبر موقعها الشخصي، وما تنشره في المواقع الثقافية.[3] : الإشارة إلى احتفاء مجلة التراث السورية بالكتاب وعرضه في أكثر من عشرين صفحة على الرغم من صغر حجم الكتاب، كذلك احتفاء بعض الدارسين بما كُتب عن الرومي في موقع معابر، وترجمة أخبار كتابات الرومي وما كُتب عنه في الدوريات الثقافية الإيرانية.