«مصر القوية»: بوصلة صحيحة وأداء تائه
لا شك أن التجارب لا تُصقَل إلا من خلال النقد ثم التصحيح والتقويم أو التغيير، ولا شك كذلك أن مؤسساتنا الأهلية المصرية – بل والعربية – تفتقد بشكل كبير إلى ذلك النوع من النقد الموضوعي الذي يُبَصِّر تلك المؤسسات بعيوبها ويرشدها إلى نقاط ضعفها حتى تستطيع أن تصحح أخطاءها وأن تُقوِّم مساراتها إذا ما أرادت استمرارًا أو تصويبًا.
لذا فقد اعتبرت – بصفتي أحد مؤسسي تجربة حزب مصر القوية – أن مقال «مصر القوية في متاهته: لماذا وئدت التجربة في مهدها» المنشور على موقع إضاءات، للباحث علاء جمال الدين، يُعد إضافة نقدية يستحق صاحبها الشكر والتقدير حتى لو اختلفت معه جزئيًا في بعض وجهات نقده القَيِّم.
(1)
أتفق بداية مع باحثنا الكريم حول حكمه على نشأة حزب مصر القوية بأنها كانت نشأة متسرِّعة، فلقد أشرت إلى ذلك بشكل صريح في مقالين سابقين لي منذ عامين تقريبا تحت عنوان «سنتان مصر القوية» (1، 2) حيث ذكرت بشكل صريح أنه قد «كانت هناك عجلة غير مبررة في تحويل الحملة (الرئاسية) إلى حزب سياسي».
رغم الاتفاق على وصف نشأة الحزب بأنها كانت متسرعة، ورغم الاتفاق كذلك على أن اختيار «مصر القوية» كاسم للحزب لم يكن موفقا، إلا أنني أختلف مع باحثنا الكريم في حيثيات حكم التسرع.
(2)
يرى د. علاء جمال الدين في مقاله أن التسرع قد ظهر في صياغة برنامج الحزب وانحيازاته، وهنا تظهر نقطة اختلاف أساسية بين حكمينا حول التسرع، فلقد كانت صياغة برنامج الحزب وانحيازاته منسجمة تمامًا – أو منبثقة بمعنى أدق – مع البرنامج الرئاسي للدكتور عبد المنعم أبو الفتوح، ولم يُعددْ على عجل – كما أشار صاحب الدراسة النقدية – بل أخذ وقته في العرض على خبراء ومتخصصين، ومن ثَمَّ التنقيح والتعديل، وكان يعد في ذات الوقت معبِّرًا عن نظرة معظم الأعضاء المؤسسين للحملة الرئاسية للعلاقة بين الإسلام والدولة من جهة، والنظرة للعدالة الاجتماعية من جهة ثانية، والتمتع بالحريات المدنية والسياسية من جهة ثالثة، وتوسيع قاعدة الديمقراطية التشاركية في العلاقة بين الدولة والمجتمع من جهة رابعة.
لم يكن هناك تسرع في صياغة برنامج الحزب من وجهة نظري، ولكن التسرع كان من زاوية أخرى؛ حيث كانت هناك حاجة ماسة لتبنٍ راسخ لأعضاء الحزب المؤسسين لذلك البرنامج ولتلك الانحيازات، وكذلك لتفصيلها بشكل أعمق وأوسع، قبل التعجُّل في تجميع التوكيلات والذهاب بها إلى لجنة شؤون الأحزاب.
لقد أعلن برنامج الحزب – على سبيل المثال – ابتعادًا كبيرًا عن توجهات الأحزاب الإسلامية الأخرى في النظرة إلى العلاقة بين الدين والدولة، إلا أن عدم رسوخ تلك الأفكار عند كثير من أعضاء الحزب جعلت بعضًا منهم أميل إلى مواقف «الإسلاميين» من دستور 2012 لمجرد أنهم كانوا يظنون أن الحزب يقف على نفس الأرضية الفكرية «الإسلامية» المشتركة، وفي المقابل، فقد حدث نقيض ذلك الموقف تمامًا مع أعضاء آخرين في الحزب عند التعامل مع مواقف مثل الانضمام إلى جبهة الإنقاذ أو الموقف من انقلاب «3 يوليو» ظنًا من أولئك الأعضاء أن الحزب قد أُنشأ ليكون مكانه الطبيعي في الصف المعادي للتيارات الإسلامية كافة، وهو ما أجهد قيادة الحزب وجعلها في حالة ارتباك شديد للتعامل مع مثل ذلك التباين في الأفكار والمواقف بين أعضاء الحزب المختلفين، وهو ما أدى بدوره إلى استقالة كثير من أولئك الأعضاء وإلى بعض تردد في مواقف الحزب المختلفة!
(3)
يغالي د. علاء جمال الدين في مقاله، في التحقير من شأن البيئة الاجتماعية في مصر معتبرًا إياها – بصورة ضمنية – أم الخبائث التي لا يمكن لفرد أو مؤسسة أو كيان أن ينجو من مناخها الملوَّث أو السام!
تقف تلك المغالاة في تحقير البيئة الاجتماعية المصرية عائقًا أمام أي أمل في تغيير تلك البيئة في المستقبل القريب، فليس من المنطق إذن أن يخرج من ثنايا تلك البيئة الملوثة أو السامة – وفقًا لرأي الباحث الكريم – من يستطيع أن يغير تلك البيئة وهو مبتلى بتلوثها ومتشرب لسمومها؛ فالدائرة ستظل بذلك مغلقة ولا أمل في النجاة منها إلا بتركها والابتعاد عنها!
في المقابل، لا أستطيع أن أزعم أن البيئة الاجتماعية والسياسية المصرية متميزة، أو حتى جيدة؛ فهي لا شك تعاني من سنوات طوال من القهر الاجتماعي والسياسي ومن الجمود الفكري؛ إلا أنني أرى في ذات الوقت أن ذلك ليس عيبًا في كينونة المجتمع ذاته، ولكن العيب في الأساس في نخبة ذلك المجتمع (ومن بينها الأحزاب السياسية) التي لم تستطع أن تتجاوز جمود أفكارها أو خلافاتها البينية، والتي لم تستطع أن تقوم بدورها في انتشال المجتمع من براثن القهر والتخلف الذي يرسف في قيوده منذ مئات السنين.
(4)
هنا يتضح اختلاف كبير في النظرة لدور الحزب – أي حزب – في تغيير تلك البيئة الاجتماعية والسياسية، ففي حين يرى الباحث الكريم أن الحزب ما كان ينبغي له أن ينشغل بـ «تبني المطالب السياسية والاقتصادية للفئات الاجتماعية الأفقر والأكثر تهميشًا» على اعتبار أن كتلة الحزب الأساسية ليست منتمية لتلك الفئات الاجتماعية، أو بسبب ما يراه من أن تلك الفئات هي الأَوْلى بالمطالبة بتلك المطالب التي تتقاعس عن طلبها، فإني أرى – مع قادة الحزب السابقين على الأقل – أن دور الحزب الأساس هو أن يدافع عن حقوق الفئات الأضعف في المجتمع سواء كانت فقيرة اقتصاديًا أو مهمشة اجتماعيًا أو مضطهدة سياسيًا على اعتبار أن أي حياة سياسية واجتماعية سليمة لن تنشأ إلا بتحقيق العدالة بين فئات المجتمع كافة، وأن دور الأحزاب أن تكون في الطليعة المساهمة بدور فعال في جبر القصور السياسي الذي يعلي من نفوذ فئة على حساب فئات أخرى.
الغريب أن كاتب المقال اعتبر أن ذلك الانحياز «استشهادًا سياسيًا»، في حين أن أرض المعركة السياسية – المفترض أن تلعب على رقعتها الأحزاب السياسية في مصر – قائمة على بلد تعد الغالبية العظمى من سكانه من الفئات الاجتماعية الأكثر فقرًا وتهميشًا؛ فوفق تعريفات البنك الدولي لحد الفقر، فإننا نستطيع أن نعتبر أن 85% على الأقل من الشعب المصري يقعون ضمن تلك الفئة الاجتماعية الأكثر فقرًا، لذا فإنه من السذاجة السياسية أن يغض أي حزب سياسي يريد أن يمارس دورًا سياسيًا حقيقيا وفعالا، الطَرْف عن تلك الفئات الاجتماعية!
كما أنه في بلد يوضح واقعها الصريح أن أهاليها من الصعيد وسيناء وسيوة ومطروح مهمشون اجتماعيًا، سيصبح من قبيل الهزل السياسي أن يتخلى عن قضاياهم، حزب سياسي، لأنه يجب أن ينشغل فقط بقضايا أعضاء حزبه أو فئتهم الاجتماعية!
ما كان لحزب سياسي يدَّعي أنه يهدف إلى تغيير البيئة السياسية والاجتماعية في مصر إلا وواجبه الأول أن يكون في صف 90% أو أكثر من أبناء شعبه إذا كان يريد حقًا أن يمارس عملا سياسيًا حقيقيًا، وإلا فعلينا أن نبقى في دائرة الساحة السياسة المصرية التي لم تخرج في مجملها من نقاشات فوقية لا أثر لها في واقع الشعب من قريب أو من بعيد.
(5)
لا أستطيع أن أدعي في نهاية المقال أن الحزب قد استطاع الانتقال من حالة المثال إلى حالة الواقع، ولا أستطيع أن أدعي كذلك أن الحزب قد استطاع أن يصل إلى مرحلة نجاح قادرة على أن تحجب عنه الأخطاء الظاهرة التي وقع فيها أو حتى قادرة على أن تبقيه في الساحة السياسية، إلا أن واجبنا – كناقدين للتجربة – أن نحدد بدقة مواضع ذلك الخلل الذي وقع فيه الحزب حتى يمكن لنا أن نتجنبها بذواتنا أو بغيرنا في تجارب المستقبل القريب بإذن الله.