الترمذي وابن حزم: بؤساء الحضارة الإسلامية

في رواية «شجرة البؤس» يصور لنا طه حسين قدرًا لا مفرّ منه وسيرة حياة لا يوشك الذل فيها أن ينتهي، فكأن الحياة شجرة بؤس ضاربة في جذور هذه الأرض تؤتي ثمر الحزن وأشكالاً من العذابات وصورًا من الليالي الأليمة. فيشعر القارئ أن هذه الرواية قد أخذت في التعبير عن حاله وتطابقت في مشاعرها مع مشاعره، وعن حال العالم والتقلبات التي تحيط به، فكانت روايته كما يصف الروائي اللاتيني غابرييل ماركيز: إن كل رواية جيدة هي سبر لأغوار العالم.

وقد أجاد طه حسين تلخيص رواية الحياة إذ قال:

وكم منا من أنكره الناس وفرحوا في مصابه، وكم منا من شقي في الحياة فلم يجد بقيلة ذاوية وكسيرة يابسة، وكم من «جان فالجان» ذلك الأمّي البسيط في رائعة فيكتور هيجو الذي امتدت يده إلى رغيف خبز ليطعم أخته وأطفالها الجياع ولكن المحكمة لم ترَ فقره وعوزه والسبب الذي حمله على فعلته فلم ترحم شقاوته، وحكمت عليه بالسجن فبات بائسًا يحقد على مجتمع لم يرحم أطفالاً جياعًا!

وقد سكب المنفلوطي على هؤلاء العبرات وعزّاهم في بؤسهم فكان أن أهدى لهم كتابه قائلاً:

حتى عدّ الأديب محمود فريد نفسه واحدًا منهم فنازعته نفسه إلى فطاحل العلم والأدب البؤساء وقد شتتهم الدهر ومزقهم كل ممزق فأصبحوا لصروفه هدفًا، وباتوا لا يعرفون للحياة طعمًا ولا للوجود قيمة، فكتب عن علماء العصور الإسلامية ومفكريها ممّن أذاقتهم الحياة أتعابها وأشغلتهم عن واجباتهم فكان كتابه كما عسى أن يكون خير معين لكل مبتئس وهديًا يُرقق به قلوب العباد القاسية.

فقد أطلعنا محمود فريد في كتابه «بؤساء العصور الإسلامية» على جماعة من نوابغ التاريخ الإسلامي ممن نالهم البؤس وعاكسهم الدهر، كما أطلعنا على البؤس في معناه، وأقسامه، وعلله.

وليس القصد من ذكر سير البؤساء ليقف المرء عند بؤسه وينتصر له، إنما القصد أن يتأسّى بالمصاب ويتعزّى به، فكثير من الخلق وقع في معين هذه الحال، وقليل من كان بؤسه تحفيزًا له ليخرج ما فيه من كنوز وأفكار.

تعريف البؤس وأنواع البائسين

البؤس من حيث تعريفه: دمار عاجل، وموت أدبي، ترتاع منه النفوس، وترتعد عند ذكره الأبدان. وهو الغاية التي تزعزع أركان العالم، وتحول القلوب عن أغراضها وميولها، وتجندل الشجعان من غير حرب، وتجعل القادر عاجزًا. وربما انقلبت إلى العكس؛ فتهب للعاجز قوةً ونشاطًا لينتقم من نفسه أو من غيره ليستريح من عوارض الأقدار.

والبؤس كلمة تدل على الشقاء، وهو شكل غير محسوس ولا ملموس، ومعناه الإملاق والعدم والفاقة والضنك والفقر.

ويصور محمود فريد حال البائسين لما يشتد بؤسهم بأنهم يرغبون في الموت بكل وسيلة، ويناجون الهلاك بوجدان شديد، وشعور غريب؛ فتنطمس أمامهم الحقائق، وتصغر العوالم، وتضيق عليهم الدنيا على اتساعها؛ فيزدرون بالكون وعظمته، والدنيا وبهجتها، والمجد وأبهته، حتى يصل أمرهم إلى إنكار المطامع والآمال، ويرسخ في اعتقادهم أن الله اختصهم بالبؤس دون الناس؛ لأنَّه تركهم وتخلى عنهم.

ويذكر محمود فريد أن البؤساء يختلفون في تباين عقولهم ومقاماتهم باختلاف الأطوار والأعمال، ويقسم أحوالهم:

1. فمنهم من تلاحظه العناية فيُخلق سعيدًا مرزوقًا من المهد إلى اللحد، ولكنه مصاب بعلة من العلل التي تعترض البؤساء فأصبح من أجلها بائسًا، مهما كانت درجته وسمو مركزه وعلمه وحظه.
2. ومنهم من يكون سعيدًا بغناه، يعطي ويتصدق وهو في أمن ودعة ورخاء عيش، يهب ويمنح إلا أنه بعد زمن تزول عنه هذه النعمة فيصبح فقيرًا بائسًا.
3. منهم من يُخلق سعيدًا؛ كأن يكون ابن ملك أو أمير يتمتع بجميع أسباب الغنى والسعادة واليسار، ويتولى الملك بعد أبيه، إلا أنه مصاب بمرض يلازمه من وقت إلى آخر؛ فيقضي على أسباب سعده وينغص عليه هناء عيشه في بحبوحة مجده. وهذا يُعتبر من البؤساء.
4. منهم من يسعد تارةً ويفتقر أخرى، وهذا أيضًا من البؤساء.

فضائل البؤس ومساوئه

يرى محمود فريد أن للبؤس جانبين؛ جانبًا يحمل على الفضيلة، وجانبًا يحمل على المساوئ. أما فضائل البؤس كثيرة، منها: الورع، والتقوى، والثبات، والصبر، والتجلد على المصائب، ومكافحة الأهوال، ومعرفة الله جل شأنه والتفرغ إليه سبحانه وتعالى، واليأس من الدنيا، ويوجد الطمأنينة في النفوس، ويحض على الاعتزال والاهتمام بالآخرة.

حتى ذكر الراغب الأصفهاني ما يوافق ذلك فلما عرّف العزلة -والتي هي واحدة من ثمرات البؤس- قال: قيل: العزلة توفر العرض وتستر الفاقة، وترفع ثقل المكافأة. و قيل: ما احتنك أحد قطّ إلا أحبّ الخلوة، وقيل توحّد ما أمكنك فمن وطئته الأعين وطئته الأرجل.[1]

ثم إن هذه الأحزان والكوارث التي تتهاوى على الإنسان من كل جانب تورث إرهاف الحساسة ونصاعة الذهن وعمق الانفعال -كما أشار عبد الرحمن بدوي لما عزّا كافكا والتوحيدي- بل إنها تجعله يستمد من هذه الويلات غذاءً لروحه ومادّة لتفكيره.[2]

وكما يحمل البؤس على هذه الفضائل فهو لا شك جالب للمساوئ وسبب لها، فمن ذلك أنه يجلب التأفف، والضجر، واحتمال الهم، والكمد، والنزق، وضيق الصدر، وسوء الخلق، وقطع العشرة، والانحراف، والانكماش عن الخلق، والقهر، والإكراه والغلبة، والتطبع بالأخلاق المرذولة، وفساد الطوية، والخديعة، والمكر، والدهاء، والذل.

حلفاء الفقر

1- الخليل بن أحمد

وهو الخليل بن أحمد بن عمرو الفراهيدي الأزدي، كان إمامًا في علم النحو، وهو الذي استنبط العروض، وعنه أخذ سيبويه وغيره من العلماء. وكان رحمه الله متقللاً من الدنيا، صبورًا على العيش الخشن والضيق الشديد، وكان يقول: «لا يجاوز همي ما وراء بابي». وكان له راتب على سليمان بن حبيب بن المهلب بن أبي صفرة الأزدي والي فارس والأهواز، فكتب إليه سليمان يستدعيه بكتاب شديد اللهجة، فكتب الخليل جوابه:

فلما وقف سليمان على كتابه قطع عنه الراتب فاحتاج إلى ما ينفق، ولما اشتد عليه الحال ارتحل إلى البصرة وأقام في كوخ صغير من أكواخها لا يقدر على نفقة القوت، وأصحابه يكتسبون بعلمه الأموال، وكان دائمًا يتمثل بقوله:

وقد ترجم ابن خلكان للفراهيدي وذكر محنه وحال بؤسه،[3] ومن ذلك أنه أنشد -ولم يذكر لنفسه أم لغيره-:

وتُوفي إلى رحمة الله فقيرًا معدمًا سنة 170 هجرية، وكان سبب موته أنه قال: أريد أن أقرب نوعًا من الحساب تمضي به الجارية إلى البياع فلا يمكنه ظلمها، ودخل المسجد وهو يعمل فكره في ذلك، فصدمته سارية وهو غافل عنها بفكره، فانقلب على ظهره، فكانت سبب موته، وقيل: بل كان يقطع بحرًا من العروض.

2- الترمذي

هو الإمام العالم العامل محمد بن أحمد بن نصر أبو جعفر الترمذي الشافعي، كان رحمه الله مطبوعًا على الأدب ومكارم الأخلاق، متحليًا بالفضائل، سار ذكره مسرى الشمس والقمر حتى ملأ الآفاق بعلمه. ويصف محمود فريد حاله بين العلم الكثير والفقر المدقع، ويستشهد بمقولة كان يُكثر منها:

وله في وصف الحياة: ما أكثر خداع هذه الحياة! إنها كالسراب يحسبه الظمآن ماءً، كلما جد في طلبه ازداد بُعدًا، وكلما يئس وتوانى عن طلبها؛ أبرقت له وازداد لمعانها، عساه أن يوفق للَّحاق بها..

وقد لقبه محمود فريد بـ «أمير البؤساء» فكان رحمه الله صبورًا على الشدائد والعيش الخشن، وقيل إنه من شدة فاقته مكث سبعة عشر يومًا لا يقتات إلا لفتًا، كل يوم وليلة يأكل واحدة. وتوفي فقيرًا معدًما، وعلى منتهى البؤس والفاقة، لا يجد قوت ليلة، وكانت وفاته سنة 295 هجري.

3- جحظة البرمكي

يترجم له ابن خلكان فيقول: أبو الحسن أحمد بن جعفر بن موسى بن يحيى بن خالد بن برمك المعروف بجحظة البرمكي النديم؛ كان فاضلاً صاحب فنون وأخبار ونجوم ونوادر ومنادمة، وقد جمع أبو نصر ابن المرزبان أخباره وأشعاره، وكان من ظرفاء عصره، وهو من ذرية البرامكة، وله الأشعار الرائقة، فمن شعره قوله:

وأصاب البؤس جحظة كما أصاب أجداده من قبله، وبات لا يملك ما ينفقه، وكان لشدة تعلقه بالعلم يمكث طول ليله يراجع النكات الأدبية، ومباحث العلماء والفقهاء، ولما لم يجد ما يضيء يغتم غمًّا شديدًا، وينكب على وجهه من شدة الكدر.

ومن محاسن نثره قوله:

ومن أقواله الظريفة:

وتوفي حزينًا مكتئبًا فقيرًا بائسًا سنة 326 هجري.

4- ابن بسطام

هو يحيى بن علي بن محمد بن الحسن بن بسطام أبو زكريا الخطيب التبريزي الشيباني، إمام اللغة والنحو، تخرج عليه خلق كثير، وهو الذي شرح الحماسة وديوان المتنبي والمعلقات وغير ذلك، وكان فقير الحال جدًا لا يملك ما يقتات به إلا من وجوه الأعيان.

روي عنه أنه من شدة ملازمة البؤس له تحصل على نسخة من التهذيب في اللغة للأزهري في عدة مجلدات لطاف، فأراد تحقيق ما فيها على عالم من أئمة اللغة، فدلوه على أبي العلاء المعري، فوضع الكتاب في مخلاة وحمله على ظهره من تبريز إلى المعرة، ولم يكن معه ما يستأجر به دابةً تحمله. فسار على قدميه يقطع مهاد الأرض، وكان الفصل صيفًا، والحر شديدًا؛ فصهرته الشمس بحرارتها وهو في وقت الهاجرة، فرشح جسمه بالعرق، ونفذ العرق من ظهره إلى المخلاة ووصل إلى نسخ الكتاب فبللها حتى محا بعضها، فاغتم لذلك غمًّا شديدا وأثر فيه تأثيرًا كبيرًا، حتى أثر فيه الحزن؛ فمات فجأةً في شهر جمادى الآخرة، سنة «502 هجرية».

5- ابن حزم

هو أبو محمد علي بن أحمد بن سعيد بن حزم الغمام العلامة، صاحب العلوم والمعارف، الحافظ المجتهد. كان رحمه الله من النوابغ الأعلام، وفحلاً من فحول الكلام، المشهود لهم بلا جدال. ولشدة نبوغه وذكاء عقله، وتفوقه على من عداه بالعلم والأدب، كان كثير الوقوع في العلماء؛ فاتفق عدد عظيم من معاصريه على بغضه وتضليله، وشنعوا عليه، وخطلوا في ذمه حتى نفَّروا قلوب الناس منه، وقاطعوه ومانعوه، وما اكتفوا بذلك حتى وشوا به إلى الخليفة؛ فأقصاه من البلاد، وأصدر أمره إلى الولاة بطرده من إمارتهم، وأن يحذروا العامة عن الدنو منه؛ فخرج رحمه الله من دياره شريدًا طريدًا، ولما انتهى إلى بادية فلاة تُوفي بها سنة «456 هجرية»، ووجدوا تحت رأسه جعبةً وضع فيها مؤلفاته، ولما قرئت بمعرفة لجان تأسست لدرسها تاهوا في بحر علمه، وقدروا له حق قدره، وكانت مؤلفاته سببًا في رفع ذكره ما دامت الأرض وامتدت القرون إلى يوم العرض، كان رحمه الله على حالة لا تسر حبيبًا، حتى إن البؤس قد اعترضه طول أيام حياته رحمه الله.