مينو رايولا: صانع البيتزا الذي اكتسب ثقة إبرا وبوجبا
التصريح الأشهر الذي أطلقه شخصية كـ «فيرجسون» معروفة بالاتزان يقابله تصريحات أخرى من نجوم لمعت بكرة القدم تدين للوكيل الإيطالي «مينو رايولا» بالفضل في النجاح باختيار وجهتهم بعد أن ينعتوه بالإخلاص وكفاءة الإدارة. حلقة ضبابية من التناقض تتشكل بمجرد حضور اسم «رايولا».
هذا التناقض في الآراء يكشف لنا حقيقة الانقسام حول الدور الذي يلعبه وكلاء اللاعبين وينتج عنه بالضرورة قوائم السلبيات والإيجابيات، شبكة الوكلاء التي حازت تقدم استثنائي خلال السنوات الأخيرة باتت تشكل جزءًا رئيسيًا بحسابات اللاعبين والأندية لحسم الصفقات الكبرى.
هل تحوّلت كرة القدم لسوق تجاري تتضاعف فيه الأعداد الصفرية بجنون؟ هل كانت لآفاق الاحتراف أن تنطلق بمثل تلك الدرجة لولا الدور التسويقي للوكلاء؟ ماذا عن سياسة تفريغ المواهب وإضعاف الفرق؟ هل يجبر الوكيل أحدًا على اتخاذ القرارات أم أنها رغبة اللاعب والنادي بالنهاية؟
دوامة لا تخضع بالضرورة إجاباتها للصحيح وللخطأ المطلق، لكن الأكيد أن التعرف على أسلوب عمل ومسيرة «رايولا» سيرسم صورة ذات خطوط واضحة ويبدد كثيرًا من الغموض حول أسلوب عمل وكلاء اللاعبين.
الوكيل الإيطالي الأشهر «مينو رايولا».
الأمر يبدأ بمطعم أحيانًا
للوهلة الأولى قد يظن البعض أن العمل كوكيل لاعبين يقتضي المرور بالمستطيل الأحضر والدفاع عن ألوان أحد الفرق، ليس بحالة «رايولا» الذي هاجر رفقة عائلته نحو مقاطعة شمال «هولندا»الساحرة «هارلم» حين بدأ والده مشروعه الأول بإقامة مطعم، انشغل «مينو» الصغير خلال سنوات الطفولة بالعمل مع والده بدلًا من الالتحاق بأحد أكاديميات كرة القدم.
التطرف الذي قصده «مينو» هي طباع والده الدؤوب المُجِدّ، حيث علمه قيمة الإخلاص والانخراط الكامل بالعمل لمدة قد تصل لنحو 20 ساعة يوميًا!
بدأ «رايولا» بغسيل الأطباق ثم العمل كنادل واكتسب خلال تلك الفترة مهارات التواصل مع الزبائن وتسويق الخدمات والأهم بناء شبكة علاقات استطاع من خلالها تحقيق أول مليون وهو ابن الـ 19 ربيعًا بعد المساهمة في بيع رخصة أحد مطاعم «ماكدونالدز»!
بدأ «رايولا» دراسة الحقوق بعد أن توسع نشاط مطعم العائلة ليشمل أحد عشر فرعًا، لكنه سرعان ما ترك الجامعة ليقوده شغفه نحو مجال جديد سيصنع من خلاله اسمه الحالي؛ الإدارة الرياضية بالتأكيد.
استطاع «مينو» إقناع إدارة نادي «هارلم» المحلي بتعيينه مديرًا رياضيًا، وبالرغم من صغر سنه حينها إلا إنه دخل بخلافات حادة مع إدارة النادي أودت بانفصاله وتأسيسه لشركة «إنترميزو»التي تعمل على مساعدة المستثمرين الهولنديين بإيطاليا،الشركة التي ساهمت بصفقة انتقال اللاعب «براين روي» من أياكس لفوجيا الإيطالي، كان «روي» هو أول لاعب يفتح الباب لمينو في عالم يصفه الأخير بأنه كان منغلقًا لا يرحب بأي مساهمة من خارج حدود الإدارات الرسمية للأندية أو اللاعبين القدامي.
تلي ذلك مساهمة الشركة نفسها بصفقة إنتقال الهولندي الفذّ «بيركامب» لصفوف النيراتزوري؛ خطوة أضفت مزيدًا من البريق لاسم الشركة.
لم يمر الكثير حتى حصل على موعد للقاء المدير الرياضي الجديد لنادي تورينو «لوسيانو موجي»، إنتظر «مينو» أكثر من ربع ساعة وعندما أتي «موجي» استهجن غضب «رايولا» وهدده قائلًا: «اسمع! عليك احترامي وإلا فلن تبيع لاعبًا واحدًا بإيطاليا، أتفهم؟!» ،تهديد «موجي» شكّل تحديًا جديد للشاب الإيطالي.
حقيبة سوداء تطوف أوروبا
أُعجِب مينو بمدرب نادي «فوجيا» حينها التشيكي «زدينيك زيمان»، ليس لأن «زيمان» شخص مثابر وجاد فقط، بل لتطابق نظرتهم الفنية وتفضيلهم لنوعية اللاعبين أصحاب المجهود الوافر والأفضلية البدنية.
انتقل «زيمان» للاتسيو، لكن علاقتهم بقيت تتوطد، كلف «مينو» بالبحث عن لاعب بمواصفات معينة، فوجئ باتصال من «رايولا» عام 96 يقول فيه : «وجدته! يستطيع الركض 17 كم بالمباراة، يراوغ كمارادونا، والأهم يمكنه التدريب أكثر مما تتخيل».
لم يكن ذلك الذي يصفه سوى «بافل نيدفيد» المدفع التشيكي، التقطته أعين «رايولا» الذي تحوّل لرحالة تطوف أوربا وتعقد الجلسات وتتفاوض مع المدربين، ربما حظي بجانب من التوفيق حتى يكون «نيدفيد» أول عملائه لكن الأكيد أنه أحسن الاختيار؛ أهلًا بك «نيدفيد» بالعاصمة الإيطالية!
بالعودة لموطنه الثاني، كان «رايولا» يحدد هدفه الثاني، مهاجم أياكس الشاب المهاجم قوي البنيّة زلاتان إبراهموفيتش!
يحكي زلاتان بكتاب سيرته الذاتية عن لقائهما الأول بمطعم، ارتدي السويدي بدلته الكلاسيكية واستعد للقاء رسمي لكنه فوجئ بشريكه المستقبلي يرتدي الجينز ويأكل بنَهَم يكفي 6 أشخاص، لم يتحمس إبرا للتعاقد مع شخص بهذه الهيئة حتى وضعه الأخير بين أحد الخيارين وقال له: «هل تريد أن تكون ضمن قائمة أفضل لاعبي العالم؟ أم أكثرهم حصولًا على المال؟ أستطيع أن أساعدك بكليهما»
أخرج رايولا ورقة تجمع إحصاءيات دقيقة عن أداء إبرا ثم لم يجد أي حرج بأن يخبره :«زلاتان، أرقامك سيئة.. سيئة جدًا، لا أستطيع بهذا الأداء المزري أن أعمل معك».
ما لبث أن حدد له قائمة أفعال ينبغي عليه القيام بها مستكملا حديثه «أولًا: لا داعي لكل تلك السيارات والساعات التي تملك، واحدة فقط تكفيك، ثانيًا: أريدك أن تتدرب 3 أضعاف حصصك التدريبية الحالية، ثالثًا: افرض شخصيتك على زملائك قبل الخصم».
رايولا مع زلاتان في مدرجات السان سيرو.
وافق زلاتان على التعاقد مع ذلك الغريب بعد أن وثق تمام الثقة بقدرته على قيادة مستقبله، أمن أن «مينو» سيعمل بإخلاص لمسيرة حافلة ولـ 131 مليون يورو هي محصلة بيع السويدي بين 6 أندية قمة!
أما «لوسيانو موجي» فكان قد غادر «تورينو» ليلتحق بالغريم يوفنتوس وكانت أولوياته ضمان توقيع نيدفيد فكان أن هاتف رايولا الذي أحس بشيء من الانتقام للذات على الخط الآخر قبل أن يمنحهم صاحب بالون دور 2003.
أصدقاء لا عملاء
رايولا عن بالوتيلي في حواره مع فاينانشيال تايمز
إدارة المطاعم علمته أن الأمر لا يتعلق فقط بتقديم منتج جيد، بل ببناء علاقة جيدة مع الزبائن وتقدير ثقتهم، الاستماع وإبداء النصائح، الأمر ذاته إنتقل معه كوكيل، يشاع بحسب موقع الفاينانشيال تايمز أن “بالوتيلي” هرع عندما التهمت النيران بيته للإتصال بـ”رايولا” لنجدته، لم يخطر بباله شخصًا آخر.
“رايولا” شخص واضح جدًا، ينحاز أغلب الأوقات للاعبه، قبل أن يطلق تصريحاته النارية ضد “كلوب” بسبب إستبعاده لـ”بالوتيلي” لم يدخر جهدًا بتوجيه اللوم والإتهامات وأحيانًا الشتائم لـ”جوارديولا” ومعلمه “كرويف” بسبب أزمة “زلاتان”، أما شقيق “كروس” كان قد علق على السعر المبالغ فيه الخاص بـ”بوجبا” قبل أن ينال نصيبه من السخرية؛ مبدأ واحد لا يتغير:الإخلاص الدائم لأصدقائه.
صفة الإخلاص للاعب تضاف لميزة أهم وهي قدرة الإيطالي على قراءة الأحداث الكروية الكبري قبل وقوعها وبالتالي توجيه دفّة اللاعب بالتوقيت الصحيح بما يخدم مصلحته أولًا.
بالنظر لمسيرة “زلاتان” ستجد أن “رايولا” كان قد أصر على انتقاله لليوفي، وضع المهاجم الشاب بفريق يحتوي على “نيدفيد، ديلبيرو، بوفون” كان ما يشغله، لاحقًا فتح خطًا من المفاوضات مع إدارة “الإنتر” قبل إنفجار الكالتشيوبولي بناء على معلومات وصلته ثم طار بـ”إبرا” لمستوى آخر بعد توقعه نجاح مسيرة “بيب”، ربما يكفي أن تعلم أنه من أصر على مغادرة “زلاتان” للميلان بعكس اللاعب الذي أحب الاستمرار بإيطاليا بعد أن أدرك “رايولا” أن معاناة الروسينيري ستستمر؛ هكذا منح “إبرا” أفضلية محلية بأغلب مسيرته ناهيك عن نجاح الهالة الترويجية حول السويدي أينما حل!
لكن خطوة “رايولا” التي تضفي بريقًا حول قدرته على قراءة الأحداث كان تعاقده مع “دوناروما” حارس الميلان صاحب الـ 17 عامًا والذي يتنبأ له كثيرون بخلافة “بوفون” ويسير بخطي ثابتة ستمحنه بالتأكيد عروضًا للإنضمام من أندية أخرى.
“رايولا” توقع أن انتقالًا ليس ببعيدًا سيتخطى حاجز الـ200 مليون للاعب ما برازيلي الجنسية دون التصريح باسمه، هل يبدو لك تصريحه منطقيًا؟ عمومًا يجب التعامل مع تصريحاته بحذر!
“رايولا” لا يتغير، فعلها مرة أخرى مع “بوجبا” حينما أصبح صديقًا لأسرة ناشئ مان يونايتد وأقنع الفرنسي أن إمكانياته أفضل من أن يعاني لأجل تصعيد للفريق الأول بالإضافة لراتبه حينها، المثير أن “فيرجسون” فوجئ بالمساحة الكبرى التي سيطر عليها الإيطالي من عقلية “بوجبا” قبل أن يميل الأخير نحو الرحيل لليوفي.
أربع سنوات فقط عاد بعدها “بوجبا” للأولد ترافولد كأغلي لاعب بسجلات الكرة والباقي للتاريخ، إن لم يكن هذا هو التعريف للنجاج الإداري الاستثنائي لمسيرة اللاعب، فما هو؟!
الأمر الآخر شديد الأهمية الذي برع فيه الإيطالي هو اختياره دائمًا للنادي الذي يحتاج لاعبه وليس النادي الذي يريده اللاعب، “رايولا” لا يثق دائمًا بوعود المدربين بل يعتمد على رؤيته وتوقعه، كان ذلك سبب تفضيل “ميختاريان” لمان يونايتد وها هو يعيش فترة انتعاش حالية، كما تألق “بالوتيلي” بعد عامين للنسيان بإنجلترا لأن مدرب نيس “لوسيان فافر” كان فقط بحاجة لمهاجم يستطيع إنهاء الهجمة بمنطقة الجزاء ليمنح “ماريو” صدارة هدافي الدوري الفرنسي بلمح البصر.
أما “لوكاكو” فإنه اللاعب الذي تشهد مسيرته على نجاح إدارة “رايولا”، فبعد سنوات من الإحباط قضاها البلجيكي ب”تشيلسي” يبرز اسمه الأن بصدارة هدافي البريمرليج بعد إصرار “مينو” ببقائه بإنجلترا ومضاعفة تدريباته ثم اختيار أندية كويست بروم ثم إيفرتون سيلعب فيها “لوكاكو” دور النجم الأول والمُخَلِص، الأن يطلق “رايولا” تصريحاته باللعب على الأوتار دعمًا للاعبه فيقول بأنه أفضل من “دييجو كوستا” أو بأنه سيلعب ذات يوم قريب ببايرن أو مدريد أو برشلونة، ربما باريس تحتاج تعويض لاعبه الأخر “زلاتان”!
“لوكاكو” كأغلب لاعبي “مينو” يحملون له التقدير والعرفان لاختياراته الصحيحة ولقدرته الكبيرة على تحفيزه.
المتاهة الممتعة
العمل كوكيل لاعبين عمل مرهق وصعب، لا ينجح به سوى الشخص الذي يمكنه ترويض عوامل مختلفة لمصلحته، عوامل كإدارات الأندية، شركات التسويق الأخري، شركات الإعلان، الصحافة، الجمهور، والأهم هو التوقيت لأن فترات تألق اللاعبين لا تدوم!
بعكس وكلاء آخرين، “رايولا” يفضل القيام بأغلب تفاصيل عمله بنفسه دون مساعدات كبري من أحد، يشبه الشخص الذي يدخل متاهة يصطحب صديقه اللاعب وينطلق أحيانًا بروح المغامرة وأحيانًا بحرص وتأني والهدف العبور للاختيار الأفضل، وخلال كل مخاطر تلك المتاهة يبدو “رايولا” متمسكًا ومؤمنًا بلاعبيه!