التعدين كبديل للإعلانات: طريقة ربح جديدة لصناع المحتوى

فى الثاني عشر من يناير/كانون الثاني الماضي، تداول مستخدمو مواقع التواصل الاجتماعي رسالة تحذير من زيارة موقع جريدة «اليوم السابع» المصرية، وذلك لاستخدامها برمجية تقوم بتعدين العملات الافتراضية مثل البتكوين. وقد لاقت رسالة التحذير انتشارًا واسعًا بين المستخدمين، الأمر الذي وصفه بعض الإعلاميين بالفضيحة غير الأخلاقية. وبسرعة شديدة استجابت اليوم السابع لهذا التحذير ونشرت في اليوم التالي بيانًا مقتضبًا أوضحت فيه أن الكود الخاص بالتعدين تم حقنه عبر أحد الإعلانات الخاصة بشركة أجنبية، وأنهم قاموا بحذف البرمجية.

وفي الثاني عشر من فبراير/شباط الجاري، تداول مستخدمو فيسبوك تحذيرًا حول موقع آخر يقوم بتعدين عملة «بتكوين» وهو موقع «مصريات» الإخباري، ليستجيب الموقع أيضًا ويوضح أنه كان ضحية لاختراق، كما نشرت رئيسة تحرير الموقع نفيسة الصبّاغ بيانًا يوضح الجوانب التقنية للأمر وتوضيحًا بأن إدارة الموقع تعمل على إزالة الأكواد الخاصة بالتعدين.

وبغض النظر عن الجوانب التقنية للأمر، وعن صحة ما إذا كانت تلك المواقع قد وضعت الأكواد بمحض إرادتها ثم تنصلت من الأمر فيما بعد، أو أنها فعلاً وقعت ضحية لانتهاكات من المعلنين، فإن اللافت للنظر هو التعامل مع التعدين في الواقعتين كتهمة بحد ذاتها من مستخدمي مواقع التواصل الاجتماعي، وهو التعامل الذي يشي بعدم معرفة عن تقنيات البلوك تشاين وكذلك لطبيعة هذا التعدين.

كيف يربح صنّاع المحتوى؟ السؤال الأهم منذ اختراع الإنترنت

صنّاع المحتوى هم الجنود المجهولون للإنترنت، إنّ أغلب المحتوى الموجود على الإنترنت تمت كتابته بواسطة أناس عاديين، جنود مجهولين يعملون على مدار الأربع والعشرين ساعة لنشر المعرفة والموسيقى ومقاطع الفيديو، الأمر الذي يستغرق الكثير من الجهد والوقت. ولكن في المقابل لا يحصل صناع المحتوى على امتيازات مادية تكافئ عملهم. ومع تطور المحتوى على الإنترنت أصبح من الضروري لأي صانع محتوى على الإنترنت أن يكون متفرغًا تمامًا لما يفعله. ولكن كيف سيدفع هؤلاء الصنّاع فواتيرهم في نهاية كل شهر؟ أو على الأقل لتمويل مواقعهم الإلكترونية التي تتكلف الكثير من الأموال لاستضافتها وصيانتها؟

تأتي الإجابة الفورية من كبرى الشركات الرأسمالية كشركة جوجل؛ ببساطة قم بوضع الإعلانات على موقعك، وهي الإجابة التي ظللنا لعقود طويلة نظن أنها الإجابة الوحيدة على هذا السؤال، وهي إجابة تبدو للوهلة الاولى منطقية. ولكن يواجه هذا الحل عقبة كبرى، وهي أنه على عكس وسائل الإعلام المرئية والمطبوعة، يمكن لأي شخص من أي مكان في العالم تصفح أي موقع في العالم، ولذلك فإذا كنت متصفحًا عربيًا وتتصفح موقعًا أمريكيًا على سبيل المثال، لن يكون لك أي صلة بالإعلانات المعروضة أمامك على الشاشة، وهو ما يجعل نقود المعلن تضيع هباءً، بالإضافة لملكك الدائم من الإعلانات.

وهنا تتدخل الشركات الرأسمالية مرة أخرى: لماذا لا نجعل الإعلانات مخصصة؟ لماذا لا نجعل الإعلانات مفصلة على كل مستخدم، خاصة وأن التكنولوجيا تسمح لنا بهذا؟ ومرة أخرى تبدو الفكرة رائعة للوهلة الأولى، لكنها تثير مشكلتين أساسيتين: إحداهما مشكلة أخلاقية، والأخرى مشكلة تقنية.

لماذا تعد إعلانات الإنترنت فكرة سيئة؟

المشكلة الأخلاقية هنا أنك لكي تظهر إعلانات مخصصة على الإنترنت، عليك في البداية معرفة من هم المستخدمون، عليك أن تجمع عنهم معلومات أساسية كالشريحة العمرية والجنس وبلد الإقامة وبلد الولادة، كما أنه ربما عليك أن تجمع معلومات أكثر حساسية كالطعام الذي يحبونه وتفضيلاتهم الجنسية وحتى علاقتهم بأهاليهم وغيرها.

وإذا تجاوزت الشركات الرأسمالية العقبة الأخلاقية عبر التلاعب بالمستخدم وإجباره على الموافقة على قواعد استخدام معقدة لاستخدام الخدمة يوافق فيها ضمنيًا أن تجمع الشركة بياناته الحساسة، فإن هناك مشكلة عملية أخرى تتعلق بحفظ هذه المعلومات؛ فلا يوجد أي نظام رقمي لا يمكن اختراقه. مهما حاولت أن تحافظ على سرية المعلومات الخاصة بالمستخدمين، فإنها ستكون معرضة للسرقة في أي وقت، فحتى إذا نجحت في تصميم نظام إلكتروني كامل perfect system ولا يمكن اختراقه فإنك لا تضمن الأخطاء الناتجة عن العنصر البشري. وهنا أنت أمام معضلة أخلاقية حقيقية: هل تجمع معلومات المستخدمين وتجعل حياتهم الخاصة وأسرارهم عرضة للخطر؟ لا تتوقف شركات الإنترنت كثيرًا أمام هذا السؤال، ففيسبوك وجوجل وغيرهما يجمعون عنك المعلومات في كل لحظة، ويتشارك في مساعدتهم كل الأطراف.

على سبيل المثال، يعرف فيسبوك أنك تقرأ هذا التقرير الآن عبر كود برمجى وضعه موقع «إضاءات» بحيث يستطيع استهدافك عبر إعلانات فيسبوك فيما بعد، وكذلك تعرف جوجل أنك تقرأ هذا المقال الآن عبر كود برمجي آخر، وضعه محللو البيانات في موقع إضاءات لكي يساعدهم جوجل في حساب عدد الزوار ومن أي مكان يتصفحون الموقع وغيرها من المعلومات، وكذلك فإن فيسبوك وجوجل يعرفان عندما تقوم بزيارة أي موقع آخر، وعبر ذلك يعرفان كل شيء عنك، أنواع أفلامك المفضلة، ما تقرؤه عند الحزن، وما تشاهده عند الفرح، تعرف خوارزميات الإعلانات كل شيء عنك، الأخ الكبير يراقبك دائمًا، ولا يتطلب الأمر أكثر من خطأ بسيط من أحد الموظفين لكي يعرف العالم كله هذه الأشياء عنك.

أما المشكلة الثانية هنا، فهي أن صناع المحتوى لا يحصلون في النهاية سوى على الفُتات، فإن برمجة وتأمين وصيانة هذا النظام الضخم الذي يراقبك يتكلف الكثير من الأموال، يتبقى منها مبلغ صغير مما دفعه المعلنون تأخذ منه الشركة الرأسمالية الجزء الأكبر وتعطي صاحب المحتوى الفتات أحيانًا مثلما هو الحال في يوتيوب وجوجل أدسنس، وفي أحيان أخرى لا تعطي الشركة منه صانع المحتوى أي شيء مثلما هو الحال في فيسبوك.

الإجابة دائمًا هي البلوك تشاين

منذ قام المبرمج المجهول ساتوشي ناكاموتو بإطلاق ورقته البيضاء لعملة البتكوين وقام بدمج عدة تقنيات خاصة بالتشفير والحوسبة لخلق قيمة اقتصادية، وكل يوم يمر نسمع عن شركة جديدة استطاعت تطويع تكنولوجيا البلوك تشاين لحل مشكلة جديدة على الإنترنت، فكيف يمكننا استخدام البلوك تشاين في حل هذه المشكلة؟

الإجابة في كلمة واحدة وهي التعدين. الأمر بسيط للغاية، تعتمد تقنية البلوك تشاين على اللامركزية، فلا يوجد أي بنك أو جهة أو وسيط يقوم بالإشراف على التحويلات التي تتم عبر العملات المشفرة كبتكوين وغيرها، وبدلاً من ذلك فإن التحويلات تتم عبر شبكة الإنترنت ويقوم المستخدمون الذين يقومون بالتعدين بفك بعض الرسائل المشفرة ليقوموا بدورهم بتأكيد عملية التحويل من طرف إلى آخر، وفي المقابل تتم مكافأتهم عبر أخذ عمولة على كل تحويل يتم بالإضافة أن كود العملة نفسها مصمم لمكافأة الذين يقومون بالتعدين.

ويقوم التعدين على مبدأ إثبات العمل proof of work، وهو يعني ببساطة أنك لا تحتاج إلى مهارة أو ذكاء لفك شفرة الرسائل، ولكن بدلًا من ذلك عليك أن تقوم بتجربة آلاف الحلول المختلفة إلى أن تجد الشفرة الصحيحة، ولذلك فإنك في الواقع لا تقوم بأي شيء في عملية التعدين، وبدلاً من ذلك يقوم معالج جهاز الكمبيوتر الخاص بك بكل العمل من أجلك.

التعدين كمصدر ربح لصنّاع المحتوى

انتشرت مؤخرًا فكرة برمجية بسيطة يمكنك من خلالها استخدام تقنيات جافا سكربت لتستطيع استخدام أجهزة الكمبيوتر التي تتصفح موقعك الإلكتروني في تعدين إحدى العملات وأخذ الأرباح لنفسك، ولا تحتاج إلى أي مهارة برمجية للقيام بذلك، فيمكن لأي صاحب موقع تسجيل حساب على المواقع التي تقدم هذه الخدمة كموقع كوين هايف coinhive، وإضافة الكود إلى موقعك لتبدأ بجني الأرباح، بلا أي انتهاك لخصوصية مستخدمي موقعك.

هل التعدين يضر بجهاز الكمبيوتر الخاص بي؟

لا، قاطعة ونهائية، إن عملية التعدين هي عملية تستخدم معالج الكمبيوتر الخاص بك، مثلها مثل أي عملية أخرى يقوم بها الكمبيوتر. إذا كنت من مستخدمي جوجل كروم، فإن جوجل كروم في أحيان كثيرة يستخدم معالج حاسوبك أكثر من عملية التعدين، وأغلب الألعاب الحديثة التي تلعبها على جهازك تقوم باستخدام جهازك استخدامًا مماثلاً. بالطبع تؤثر عملية التعدين على سرعة جهازك، ولكن يزول تأثيرها بمجرد إغلاقك للموقع الذي يستخدم جهازك في التعدين.

أخلاقيات التعدين

ولكن على الرغم من عدم ضرر عملية التعدين بجهازك، فإنها مثل الإعلانات وجمع المعلومات ينبغي أن يتم إعلام المستخدم بحدوثها عبر إدراجها في شروط الخدمة أو إظهار رسالة للمستخدمين تستوجب موافقتهم قبل البدء في عملية التعدين، وهي نفس الممارسة المتبعة الآن في استخدام الكوكيز على أجهزة المستخدمين.

أما المستخدمون الذين لا يرغبون في استخدام أجهزتهم في التعدين، فيمكنهم تنصيب أداة بسيطة من متجر كروم أو أي متصفح آخر ستقوم بمنع التعدين من جهازه، تمامًا مثل المستخدمين الذين لا يحبون الإعلانات ويقومون بتنصيب إضافة لمنعها، كما أن أغلب إضافات مانع الإعلانات تقوم بإيقاف عمليات التعدين أيضًا.

لماذا ما زلنا نستخدم الإعلانات إذن؟

إن الواقع ليس ورديًا تمامًا كما نظن، فبالإضافة للمفاهيم المغلوطة حول البلوك تشاين وبتكوين التي تجعل أصحاب المواقع يخشون المخاطرة بسمعتها عند استخدام مثل هذه التقنية، والتضييق الرسمي من الحكومات المختلفة على المتعاملين بالعملة، فإن تقنية البلوك تشاين لم تتطور بعد لتعطي أصحاب المواقع أرباحًا جيدة من استخدامها.

لكن المستقبل مشرق، خاصة مع انتشار الوعي بتقنية البلوك تشاين يومًا بعد الآخر، وأيضًا بسبب ظهور طفرات تقنية أخرى تجعل الكسب من عملية التعدين أسهل، مثل ظهور عملة الريبل والتي تعتمد على شبكة تحويلات أسرع كثيرًا وعمليات تعدين أسهل، مما جعل شركة ويسترن يونيون العالمية تتبنى هذه الشبكة بشكل تجريبي لاستخدامها في تحويل الأموال.

ما زالت تكنولوجيا البلوك تشاين جديدة نسبيًا وتواجه الكثير من التحديات، خاصة الاستخدام السيئ لتقنيات التعدين عبر عدم الالتزام بالأخلاقيات الخاصة بالتعدين، أو عبر اختراق عدد ضخم من المواقع وحقن أكواد التعدين بها مثلما حدث في اليوم السابع وموقع مصريات، أو ما كشفت عنه التقارير مؤخرًا عن استخدام الشركة المصرية للاتصالات لأجهزة المستخدمين المصريين للتعدين عن عملة مينرو. لكن إذا ما نجحت في التغلب على تلك التحديات فربما ستكون مدخلنا إلى عصر جديد يستخدم فيه البشر الإنترنت بحرية أكثر وبتلافي كل المشكلات التي تواجه الإنترنت اليوم.