أكثر من دراما: «Mindhunter» رحلة داخل عقول خطرة
يخبرنا فينشر منذ اللحظة الأولى في مسلسل «Mindhunter»، بأن كل شيء ليس على ما يرام، حيث نشاهد خلال المشهد الافتتاحي الذي يسبق ظهور اسم المسلسل، فصاميًا في إحدى نوبات مرضه يحتجز بعض المواطنين من أجل أن تحضر الشرطة زوجته، ثم يقوم بتفجير رأسه لأنه يعتقد تحت وطأة ضلالاته أن أحدًا لا يراه.
هذا المشهد الافتتاحي هو بوابة عبورنا نحو عالم مظلم ومخيف، أرض لا تُنبت غير الشك والظلال، حيث لا شيء واضح تمامًا، ولا أحد يعرف طعم اليقين. يختار المسلسل كنقطة انطلاق لأحداثه لحظة زمنية شديدة الالتباس، نهاية سبعينيات القرن الماضي، أي ما بعد اغتيال كينيدي، حرب فيتنام، ثورة الجنس في الستينيات، فضيحة ووترجيت وحين بدأ نمط غريب من جرائم القتل يطفو على السطح؛ جرائم متطرفة في عنفها دون دافع واضح. بدا الأمر آنذاك ولوهلة كصدى مرعب للاضطرابات السياسية والاجتماعية التي سبقته، أو نوع من تمرد الأبناء ضد السلطة البطريركية التي باتت تترنح تحت وطأة الشك في جدارتها أو جدواها.
القاتل المتسلسل والملقب إعلاميًا بـ (son of sam) بعد أن ارتكب مجموعة من أبشع جرائم القتل آنذاك، ادعى أنه فعل ذلك لأن كلب الجيران كان يتحدث إليه. فجأة بدا العالم غير منطقي وغارقًا في الفوضى. يقرر العميلان من مكتب التحقيق الفيدرالي الأمريكي، هولدن فورد (جوناثان جروف) وبيل تينش (هولت ماكالاني)، ضرورة الحفر عميقًا داخل الجانب المظلم لمجموعة من أخطر القتلة المتسلسلين في التاريخ الأمريكي عبر سلسلة من المحاورات معهم داخل السجون، لفهم دوافعهم النفسية، علّ ذلك يسهم بشكل ما في منع، أو على الأقل فك شيفرة، الجرائم المشابهة التي قد تحدث في المستقبل؛ أو كما يقول بيل تينش:
هذا إذًا هو مدار هذا المسلسل الذي كتبه جو بينال، جامعًا بين التوثيق والتخييل لمجموعة من الحوادث والشخصيات الحقيقية، ومعتمدًا على كتاب يحمل نفس اسم للعميل الفيدرالي جون دوغلاس الذي كان رئيسًا سابقًا لوحدة جرائم القتل المتسلسل في مكتب التحقيقات الفيدرالي (إف بي آي).
من الإثارة إلى الفلسفة
يدرك كل من شاهد مسلسل (mindhunter) بموسميه، مدى اختلافه عن غيره من الأعمال التي تنتمي لنوعية الجريمة والإثارة، فالسؤال الأساسي في أغلب هذه الأعمال يكون: من الذي ارتكب هذه الأعمال أو كيف ارتكبها؟ وإجابة هذا السؤال هي ما يصنع الإثارة والتشويق اللذين تتسم بهما الأعمال. أما هنا، فالسؤال الرئيسي: لماذا يرتكب هؤلاء القتلة هذه الجرائم بهذه الكيفية؟ وهو ما يقود في النهاية إلى سؤال أكثر شمولًا عن طبيعة السلوك الإنساني وما وراءه، أي إننا ننتقل إلى الأفق الفلسفي للشعراء والفلاسفة ورجال الدين الذين أدهشتهم تقلبات السلوك الإنساني.
يتحقق ذلك الانتقال في هذا العمل من خلال الابتعاد عن العنف المصوّر الذي تعتمد عليه أفلام ومسلسلات الجريمة، حيث نشاهد بدقة تفاصيل عنف ودموية هذه الجرائم التي ترتكب ضمن سياق هذه الأعمال. يستبدل هذا المسلسل العنف المصور بعنف الكلمات عبر لغة مهووسة بالعنف والجنس؛ فالعمل قائم بالأساس على سلسلة من الحوارات بين العملاء الفيدراليين ومجموعة القتلة المتسلسلين الذين يُفرِطون في وصف أدق تفاصيل جرائمهم وأكثرها قسوة ورعبًا.
هذا الاتجاه نحو عنف الكلمات دون الصور، يطلق العنان لمخيلة المشاهد، يجعله مشاركًا في خلق هذا العنف وتصويره، مما يجعل المشاهد أكثر انفعالًا بخياله مما كان ليكون انفعاله ببصره. هذا النهج واضح تمامًا من البداية حيث يعرض تتر المسلسل صورة ثابتة لجهاز تسجيل الحوارات مع ومضات لصور جثث وضحايا. يؤسس هذا من البداية لعمل قائم بالأساس على تلك الحوارات.
من الصورة إلى الحوار
بتخلي صناع المسلسل عن تصوير العنف وإبقائه دائمًا خارج الشاشة، يكونون بذلك قد تخلَّوا عن عامل جذب جماهيري كبير. والآن، ينطرح السؤال عن إمكانية تقديم عمل درامي يعتمد بشكل أساسي على الحوار دون الوقوع في فخ الملل والتكرار؟
هناك داخل كل مشهد من مشاهد الحوارات صراع محتدم وتوتر متصاعد. لدينا منذ اللحظة الأولى صراع بين طبيعتي ووجهتي نظر هولدن وبيل تينش؛ هولدن غريزي يعتمد كثيرًا في مقاربته لهؤلاء القتلة علي الحدس، بينما تنش أكثر منطقية وتشككًا. تنضم إليهما لاحقًا إخصائية في علم النفس ويندي كار (آنا تورف) التي تحاول أن تفرض على هذه المحادثات منهجًا علميًا صارمًا.
تاليًا، يأتي الصراع بين العملاء الفيدراليين والقتلة المتسلسلين. كل قاتل له صفاته النفسية الخاصة التي تفرض تكنيكًا خاصًا من أجل كسر حيله الدفاعية وجعله منفتحًا أثناء المحاورات في محاولة للاقتراب من شخصيته الحقيقية. يجعل هذا من كل مشهد من هذه المحاورات مشهدًا فريدًا في ذاته وحاملًا لتوتره الخاص، دون الانزلاق إلى فخ التكرار.
في عمل كهذا يعتمد بشكل أساسي في طرحه الدرامي علي حقائق سيكولوجية، يضيء المسلسل عبر هذه المحاورات إحدى الحقائق النفسية الهامة، وهي أن هنالك مسافة كبيرة بين ما تقوله الشخصيات وما تقصده فعلًا، وأن الكلمات قد تصير مجرد أقنعة أخرى لتلك الشخصيات، بينما تتكشف طبيعة هذه الشخصيات بشكل أساسي عبر لغة الجسد. يخلق هذا أيضًا نوعًا من الصراع بين سطح المشهد وباطنه، بين ما يقال وما يُقصد فعلًا، ما يزيد من مساحة التوتر داخل هذه المشاهد ويجعلها أكثر إثارة.
ما يرفع من قيمة هذه المشاهد الحوارية أيضًا ويجعلها أكثر إثارة للمُشاهد هو قدرة النص على خلق روابط بينها وبين الحياة الخاصة للعملاء الفيدراليين. ففي الموسم الثاني مثلًا، نجد ابن بيل تينش بالتبني متورطًا في جريمة ما لا تختلف كثيرًا عن جريمة يساعد هو في التحقيقات الخاصة بها. نجد ويندي التي تخفي مثليتها الجنسية، تضغط على أحد القتلة الذين تحاورهم للاعتراف بمثليته الجنسية.
عندما تحضر تقنيات السينما لخدمة الدراما
حدثت طفرة كبيرة في مجال الدراما التليفزيونية خلال العقد الأخير، وتلاشت الحدود التي كانت تفصل بين الصورة التليفزيونية والسينمائية. ومع انجذاب مخرجين سينمائيين كبار مثل باولو سورنتينو ونيكولاس ريفن وديفيد فينشر إلى عالم الدراما التليفزيونية، بات من المنطقي الحديث عن جماليات سينمائية خالصة تطبع هذه الأعمال.
في مسلسل «Mindhunter»، لدينا ديفيد فينشر كمنتج ومخرج لبعض الحلقات. فينشر واحد من أهم المخرجين السينمائين حاليًا وصاحب بصمة خاصة لا تنكر. ورغم وجود أسماء مخرجين آخرين على العمل، لكننا نستطيع أن ندرك أن الرؤية الإخراجية لهذا العمل تحمل بصمة فينشر دون شك، بل يمكننا القول إن هذا المسلسل هو امتداد لعالمه السينمائي على صعيد التيمات واللغة السينمائية، خاصة في أعمال مثل «Seven» و«Zodiac» التي تتناول تيمة القاتل المتسلسل.
من ناحية اللغة السينمائية، يمتلك فينشر براعة استثنائية في الحكي البصري، بإمكانه فقط عبر وضع الشخصيات وتأطيرهم داخل المشهد أن يعبر عن دواخل شخصياته وطبيعة مشاعرهم. في مشهد حواري بين هولدن والقاتل إد كيمبر، نجد إد يشغَل المساحة الأكبر من الكادر بجسده الضخم، لقطاته مصورة من مستوى العين، بينما يصور هولدن الذي يشغل المساحة الأقل من نقطة أعلى فيبدو ضئيلًا. يبدو إد هنا مسيطرًا على المشهد. إنها ديناميكية السلطة والقوة التي يخلقها فينشر فقط عبر تفاصيله السينمائية.
يميل فينشر هنا مثلما في أفلامه إلى تحريك الكاميرا بديناميكية شديدة مرتبطة جدًا بحركة الممثل، تتحرك إذا تحرك وتتوقف إذا توقف. تحاكي حركة الكاميرا حركة الممثل، فهي مرآة له، أو كأن حركة الممثل تضاعف نفسها عبر حركة الكاميرا. إن هذا طبيعي جدًا بالنسبة لفينشر المهووس بالسلوك البشري الذي يجد في حركة الجسد التعبير الأمثل عنه. وبالنسبة لعمل يحفر عميقًا وراء التجليات الأعنف للسلوك الإنساني، فإن هذا يغدو ضروريًا جدًا وجوهريًا.
في الموسم الأول، لدينا حركة الكاميرا في كامل المسلسل سلِسة وانسيابية ومن وجهة نظر موضوعية، باستثناء مشهد النهاية حيث يصاب هولدن بنوبة ذعر، هنا تتوتر الكاميرا، حيث تُستخدم كاميرا محمولة باليد ومهتزة بشدة. تعكس حركة الكاميرا مشاعر هولدن، ثم تتحول اللقطة الأخيرة إلى لقطة ذاتية، حيث يلقي بنا فينشر داخل رعب هولدن.
يميل فينشر أيضًا إلى اللقطات الواسعة في الغالب، لقطات تظهر الشخصيات ومحيطها، وكأنه يشير عبر هذا الخيار التقني للأثر الذي يتركه المحيط على سلوك شخصياته، لا يستخدم اللقطات المقربة إلا للضرورة القصوى، ليلفت نظر المشاهد إلى تفصيلة ما، تكون في الغالب هي الأكثر أهمية داخل المشهد، حيث تدفع الحدث الدرامي للأمام أو تضيء طبيعة شخصياته.
لدينا هنا أيضًا نغمات اللون الأصفر المفضّل لفينشر التي تصبغ جميع كادرات هذا العمل وكأنها بصمته اللونية.
يثبت مسلسل (mindhunter) بموسميه أنه ليس مجرد مسلسل آخر من مسلسلات الجريمة والإثارة، بل رحلة سيكولوجية مشوقة عبر الجانب المظلم لمجموعة من أخطر القتلة المتسلسلين في التاريخ الأمريكي.