العسكر والسلطان: تحديات في طريق سلطان عُمان الجديد
مع إعلان البلاط السلطاني وفاة قابوس بن تيمور سلطان عمان، قفزت إلى الأذهان صورة عمان المتخيلة، عمان البلد الهادئ المنعزل. أكّد هذه الصورة الانتقال السلس للسلطة، وقطع دابر الشك بوجود اختلافات داخل العائلة، لكن تعود سلاسة انتقال السلطة إلى عامل رئيسي، هو المؤسسية التي فرضها قابوس في تحديد من سيخلفه على العرش.
حسب الأمر السلطاني 101/96 وتعديله عام 2011، فإن مجلس العائلة يتشاور أولًا لثلاثة أيام، فإن لم يتفق تحرك مجلس الدفاع مع رؤساء المحكمة العليا ومجلسي الدولة والشورى لتثبيت من أوصى به السلطان. يحتفظ مجلس الدفاع الأعلى في خزانات خاصة بخمس وصايا للسلطان، أربعة منها موجهة لمجلس العائلة الحاكمة عبر مجلس الدفاع، وواحدة موجهة لمجلس الدفاع نفسه.
بعد إعلان وفاة السلطان قابوس، أعلن مجلس الدفاع الأعلى انعقاده بشكل دائم، وطبقًا للأمر السلطاني 105/96 لم يتدخل المجلس إلا بعد انقضاء مهلة الثلاثة أيام، وطلب من مجلس العائلة الانعقاد فورًا، وطبقًا لذلك فإن النظام الذي أقره قابوس بين وثيقتي 1996 ووثيقة 2011، تعني أن مجلس الدفاع هو الموكل بإدارة شئون البلاد حتى استقرار العائلة على مرشح، في حين كان رد العائلة فوريًا وسريعًا نحن نحتكم لرسالة السلطان، ونثبت من فيها عبر مجلس الدفاع.
مشهد العائلة الحاكمة مقابل مجلس الدفاع يثير العديد من التساؤلات حول الدور الذي يضطلع به ذلك المجلس، وما إذا كانت هناك احتمالات لتحولات قد تطرأ على نظم الحكم في الخليج وهل يتشكل مجلس الدفاع من أعضاء العائلة المالكة؟ وهل له دور محوري في الانتقال السلس للسلطان الجديد هيثم، أم أنه فقط كان مكملًا لمجلس العائلة المالكة؟
مجلس عسكري يدير الانتقال
تشكل مجلس الدفاع بمرسوم سلطاني عام 1996، وهو مكون من ثمانية أعضاء، تاسعهم السلطان نفسه، وفي حال وفاته يتولى وزير المكتب السلطاني رئاسته.
ترأس المجلس الفريق أول سلطان بن محمد النعماني وزير المكتب السلطاني، وهو أعلى منصب عسكري رفيع بعد السلطان قابوس. انعقد المجلس بحضور جميع الأعضاء، الفريق حسن بن محسن الشريقي المفتش العام للشرطة والجمارك، الفريق سعيد بن علي الهلالي رئيس جهاز الأمن الداخلي، الفريق الركن أحمد بن حارث النبهاني رئيس أركان قوات السلطان المسلحة، اللواء الركن مطر بن سالم البلوشي قائد الجيش السلطاني العماني، اللواء الركن طيار مطر بن علي العبيداني قائد سلاح الجو السلطاني العماني، اللواء الركن بحري عبد الله بن خميس الرئيسي قائد البحرية السلطانية العمانية، اللواء الركن خليفة بن عبد الله الجنيبي قائد الحرس السلطاني العماني.
جميع من يتولى المناصب الرفيعة في هذا المجلس ليسوا من العائلة المالكة. عهد السلطان قابوس إلى المجلس للقيام بدور تنظيمي لإدارة مرحلة فراغ العرش، ما يعني إسنادهم مهامًا جوهرية داخل المشهد السياسي. استبعد قابوس من هذا المجلس وزراء مثل الداخلية، وذلك كون منصب الوزير بالأساس سياسيًا وليس عكسريًا، كما أن وزير الداخلية من العائلة المالكة.
على نهج الوراثيات القرو أوسطية من يرتضيه العسكر ارتضاه الناس، فهم يملكون القوة والمنعة. هذا الدور الذي أُسند لمجلس الدفاع له امتداد ينبئ بشيء مختلف، شيء جديد في وجه عمان عن بقية أخواتها في مجلس التعاون الخليجي. إنه الاعتماد المتزايد على القوة العسكرية وممثليها، على حساب الاعتماد الكلي على الأسرة الحاكمة والتكوينات الجهوية المرتبطة بها، فهل تشهد عمان عسكرة ومؤسسية من نوع ما؟
تحولات اجتماعية
عُمان أفقر دول مجلس التعاون الخليجي، تعاني من مشكلات اجتماعية واقتصادية وثالثة سياسية. فبعد هزيمة ثورة ظفار 1975، كان أمام قابوس تحديات جمة، من أهمها فقر عمان مقارنة ببقية دول الخليج. تحتاج عمليات المحاصصة السياسية وإدارة التوازنات كما في دول الخليج إلى وفرة لكي تتم عمليات توزيع الريع.
في البداية بدت عمليات الإصلاح السياسي باستيعاب المتضررين في الوظائف العليا، وتوزيعها بشكل جهوي مع أفضلية للعائلة المالكة في القطاع الاقتصادي، أما وظائف الدولة الناشئة والتي يظل جهازها البيروقراطي ضعيفًا فدُفع بها للمواطنين، كسبيل إلى توزيع الريع وذلك لمناطق على حساب أخرى، مع تراجع شديد في عمليات التنمية السياسية.
تلك التحديات فرضت على السلطان قابوس أمرًا ملحًا داخليًا، فالتوازن الذي يمارسه عبر سياسته الخارجية، قد يفقده داخليًا، فنسب التعليم المتدنية، مع تراجع الإنتاج المحلي للدولة، والشعور بالمظلومية في المناطق البعيدة عن مسقط، كل ذلك جعل السلطان يبدأ بالتوسع في بناء المدارس وأنشأ جامعة قابوس عام 1986، وربط التعليم الجامعي بمركزية العاصمة.
تبع ذلك تغيرات جوهرية في شكل الجهاز البيروقراطي، وفي عام 1993 بدأ السلطان سياسة تعيين العمانيين في الوظائف العليا بدلًا من الخبرات الأجنبية والعربية، ثم تبعها تغيير في شكل وهيكل النظام السياسي فاستحدث مجالس عسكرية 1996، وأجرى تعديلات في القوانين التي تنظم عمل البنك المركزي 2000، وأنشأ أيضًا مجلسًا للرقابة الإدارية 1999.
وبُعيد 11 سبتمبر/ أيلول، استحدث مجلس الأمن الوطني عام 2003، ونظرًا لنسب البطالة التي بحسب صندوق التنمية قاربت الـ 20% من الشعب العماني، مع تراجع الناتج المحلي إلى 31 مليار دولار لسنة 2005، أنشأ قابوس مجلسًا لوضع خطط التنمية الخمسية عام 2006.
وُضعت خطوات عديدة للتنمية، كان محركها تآكل الشرعية بسبب تراجع الريع، وارتفاع الفساد وعدم نضوج المؤسسات، والفقر في القطاع النفطي مقارنة بالدول المحيطة، فتمثلت محاور خطط التنمية منذ 2006م في:
أولًا: تدعيم القطاع الخدمي العام والخاص، فبحسب كُتيب الإحصاءات الصادر عن الأمم المتحدة، ارتفعت نسبة القطاع الخدمي ليشكل 40.5% من الاقتصاد عام 2018، كما أدت عمليات التوسع في القطاع الخدمي إلى استقطاب أكثر من 1.4 مليون عمالة خارجية بين عامي 2010 و 2018.
ثانيًا: جلب استثمار أجنبي، وذلك من خلال التعاقد مع الصين في تطوير ميناء الدقم، وعبر السماح بتأسيس شركات تقوم ببيع النفط الإيراني للتحايل على العقوبات الأمريكية، واستثمارات مالية جعلت منها منافسة لإمارة دبي، مع أفضلية الموقع عن الإمارات.
ثالثًا: التوسع الاقتصادي يستوجب إعادة المحاصصة، عبر توزيع الاستثمارات بين التكوينات العشائرية التي ترتبط بالأسرة المالكة، كان على رأس المستفيدين السلطان الجديد هيثم بن طارق، وأفراد من عائلة السعيد، ومنهم وجهاء ظفار.
رابعًا: التوسع في التجنيد والعسكرة، وتطوير الجيش وذلك استخدامًا لامتيازات التجنيد المالية كسبيل لتوزيع الريع، ومن جهة أساسية بناء للوطنية القومية بعد تراجع عامل ريع النفط وفقر عُمان.
حققت عمان من تلك السياسة معدلات تنمية عالية، فقفز الناتج المحلي إلى 63 مليار دولار عام 2018، كما توسع القطاع الخاص والخدمي مخففًا عبء التوظيف عن الدولة، وتراجعت البطالة إلى 16%، على الرغم من انخفاض دخل الفرد من الناتج القومي وذلك لأن هناك 44% من الشعب العماني عمالة وافدة، أكثر من 60% منهم قادمون إثر التحولات الاقتصادية تلك. شهدت أيضًا قطاعات الصحة والتعليم ارتفاعًا في الإنفاق من ميزانية الدولة، بما انعكس على ارتفاع نسبة المتعلمين.
مؤسسات وعسكرة
هذه الأرقام التي ذكرناها لا تنفي حقيقة واحدة، أن الشعب العماني على الرغم من عمليات التنمية تلك هو الأفقر بين أقرانه في مجلس التعاون، فعندما كانت حدود البطالة عام 2005 عند 400 ألف عُماني عاطل، فإنها عام 2011 كانت عند 370 ألف عاطل، وذلك ما دفع العمانيين للمشاركة في ربيع العرب 2011.
واستجابةً لمطالب الشارع، فعّل السلطان مجلس الشورى بصلاحيات أكبر، ثم أنشأ مجلسًا للتخطيط 2012، وقام بفصل السلطة القضائية بمجلس خاص بها بعيدًا عن يده سنة 2012، وأعاد تنظيم قوانين الرقابة الإدارية ثم أنشأ عام 2019 إدارة لجمع الضرائب، وقام بتعديل التشريعات المتعلقة بها.
كل تلك الخطوات عبّرت عن استيعاب النظام أزمته الحقيقية، شرعيته التي كانت مبنية على وجود السلطان، فقابوس كل شيء لم يعد يكفي للحفاظ على الشرعية السياسية، ما اقتضى توسع السلطان في بناء المؤسسات البيروقراطية بعد ربيع العرب، إلى جوار ذلك وظف العديد في قطاع الصناعة مع توسع جامعة قابوس في المجالات الهندسية والعلمية، حيث تصدرت عام 2018 الأولى عربيًا من حيث تخريج المهندسين نسبةً إلى عدد الطلبة.
نسب التعليم العالية لم تكن أيضًا كافية، فاتُخذت المؤسسة العسكرية أداة لإعادة توزيع الريع والتوظيف، بعد اكتفاء جهاز الدولة عن استيعاب المتخرجين الجدد. قامت القوات المسلحة بتوسيع عمليات التجنيد، لتشمل جميع المناطق بما فيها ظفار، وبدرجة أعلى مسقط، تبعها افتتاح كليات عسكرية جديدة؛ كلية الدفاع الوطني والكلية العسكرية التقنية عام 2013، لتنضم لقائمة الكليات العسكرية العشرة في البلاد.
منذ عام 1990، بدأ الجيش في اتخاذ شكل هيراركي منضبط، ثم قرر قابوس عام 1993 بتولي العمانيين المناصب العليا في الجيش بدلًا من البريطانيين. وعلى صعيد الجنود الذين كان غالبيتهم من الباكستانيين والبلوش، ثم تحولوا تدريجيًا لعمانيين في الغالب.
تضخم حجم القوات من 35 ألفًا لعام 1992 حتى بلغ 47 ألفًا في الخدمة و 72 ألفًا جنود احتياط عام 2019. كانت السياسات الاقتصادية والمؤسساتية بالإضافة للعسكرية تحتوي موقف الغضب إبان الربيع العربي، إلا أن الأهم هو فكرة انفصال تلك المؤسسات عن شخص السلطان، وهو ما لم يحدث في حياة قابوس.
المؤكد أن المؤسسة العسكرية أصبحت فاعلة في المشهد السياسي، والأخطر أنها ليست تحت قيادة الأسرة المالكة، والذي قُصد منها أن تحفظ التوازن في المشهد السياسي، فلا تحترب العائلة فيما بينها، وفي نفس الوقت تستوعب أكبر عدد من الفاعلين في المجتمع.
الموجة الأخيرة
بندكت أندرسون في كتابه الجماعات المتخيلة، وصف تلك الدول التي بُنيت قوميتها في فترة الاستعمار، بموجة القومية الأخيرة، حيث تشكلت قوميتها عبر التضحية والتحرير من الاحتلال وكذلك التحرر من شركائه كالملوك والسلاطين.
هذا ما لم تنجح فيه ثورة ظفار، التي انتهت مهزومة أمام جيش قابوس. فبالرغم من استقلالية عمان واعتمادها على أدوات بناء القومية الحديثة، من مجلة وإذاعة وتعليم موحد، وصولًا إلى التاريخ وعمليات التعداد والخريطة، لكنها ظلت مرتبطة بشخص وحالة قابوس الذي حكمها طيلة خمسين عامًا.
ومع تراجع شرعية نظامه وبزوغ الاحتجاجات من جديد جراء تدني عمليات التنمية والفساد، جاءت فكرة إعادة بناء الوطنية عبر جسور المؤسسة العسكرية. ما لم تنجح فيه ثورة ظفار، يُبعث اليوم من داخل النظام؛ عمليات تجنيد وخطاب واحد لجموع الشعب العماني، التضحية من أجل الوطن، من أجل أن نحيى جميعًا مع السلطان.
عمان المتخيلة التي أصبحت مقرونة في الأذهان بالسلام والتوازن بين الجميع، أصبحت أشبه بالحالة الوطنية والقومية أكثر من كونها توجهًا في السياسة الخارجية، واليوم تضطلع فيها المؤسسة العسكرية بدور محوري في بناء وتشكيل الوعي القومي في البلاد، انطلاقًا من دورها في الحفاظ على استقرار عملية الانتقال بشكل سلمي وهادئ، وصولًا لفعاليتها في محيطها الملتهب من هرمز شرقًا إلى اليمن غربًا.
مع تولي آخرين غير العائلة المالكة قيادة الجيش، وتوسع التجنيد في صفوف الشعب أفقيًا ورأسيًا، هل سنشهد مزاحمة لتلك الكتل العسكرية على مصالح سياسية أو اقتصادية ما؟ هل يُعاد في عمان نموذج عرابي مصر الذي قام بثورته بعد ان امتلك المصري حقوقًا في الترقي في الجيش، ونموذج الضباط الأحرار بعد اتفاقية 1936؟ هل تشهد عمان حدثًا مشابهًا، مع نمو الروح القومية والمؤسسية في الدولة، ومع غياب الحالة القابوسية من المشهد التي اقترنت بها شكل الدولة في عمان؟
إن أكثر التحديات التي تفرض على السلطان الجديد تتمثل في مدى فعالية المؤسسات التي أنشاها قابوس خصوصًا، وأن بناءها لم يكتمل فقد كان حاضرًا بتصوره وثقله في المشهد، ولم تُبنى بعد بشكل استقلالي. والتحدي الآخر في المؤسسة العسكرية التي تضخمت واحتوت مكونات مجتمعية متعددة، ما يجعلهم شركاء بشكل أو بآخر في المشهد العماني.
المعضلة تتمثل في مدى قدرة هيثم بن طارق على تدعيم تلك المؤسسات، وفي نفس الوقت يحفظ التوازن بينها، بحكم أنها لم تعمل لمصالحها في عهد قابوس. الواقع الوحيد أن عمان تختلف عن أخواتها في الخليج، فقد قفزت نحو شرعية التضحية مبكرًا مع حفاظها على جانب من توزيع الريع والمحاصصة.
- جميع الإحصاءيات في المقال مصدرها كتيب الإحصاءات العالمية، الأمم المتحدة، نيويورك 2018، ص١٧٦