الانقلابات العسكرية في جمهوريات الموز
يتكرر التاريخ مرات تلو مرات، لكن لا أحد يتعلم، ويعتقد كل ديكتاتور أنه استثناء وأن الرصاص والقمع سيجلبان له مزيدًا من الاستقرار ودعمًا لأركان دولته، ولكن قد ينتهي به الحال إما إلى نفي خارج البلاد والعيش مطاردًا من مؤيديه قبل معارضيه أو إلى سجن مدى الحياة في سجون الظلام التي كان يعدها لمعارضيه أو إلى الإعدام لتنتهى أسطورة كل حاكم ظالم أمام أعين شعبه.
في أواخر السبعينات في أمريكا اللاتينية، في قارة عُرفت بجمهوريات الموز نتيجة لتعدد الانقلابات العسكرية المدعومة من الولايات المتحدة الأمريكية في سبيل واضح لإسقاط حركات التحرر الوطنية المتخلصة من براثن رأسمالية النظام العالمي وكسر أي قواعد تنتمي إلى المعسكر الشيوعي الذي كانت تعتقد الولايات المتحدة الأمريكية أنه ينتمي إلى الاتحاد السوفيتى في إطار الحرب الباردة، وبالتحديد في عام 1973 تم انتخاب بيرون رئيسًا للأرجنتين بعد سنوات من الفاشية العسكرية وانتخبت زوجته إيزابيل بيرون كنائبة له، وفي عام 1974 اعتلت صحة الزعيم وأصبحت زوجته المسيطرة على الحكومة وبعد وفاة بيرون أعلنت إيزابيل والدموع تنهمر من عينيها خبر موت الزعيم الذي يسعى لتحرير الوطن من قبضة الرأسمالية وأنها خليفته في تولي القيادة.
تولت إيزابيل بيرون الرئاسة وحتى ذلك الحين كان يبدو أن الأمور هادئة في القصر ولا توجد معارضة تُذكر، ولكن منذ هذه اللحظة بدأت تتعالى أصوات الإعلام والصحف أن هناك انقلاب عسكري على الرئيسة إيزابيل يمهد في الطريق ولكن إيزابيل لم تكن تتوقع هذا الانقلاب. الكل يعلم إلا إيزابيل!
في عام 1976 وبينما إيزابيل تتجه من مقر الحكومة الى القصر الرئاسي ببيونس إيرس لم تهبط الطائرة إلى قصرها، حطت بها في مطار مدني ونزلت لتجد مجموعة من الجنود شاهري السلاح وجنرالًا يعلن أنها رهن الاعتقال ويجب عليها أن تترك السلطة اللآن.
فهمت إيزابيل أن المقاومة مستحيلة وبدأ عهد الانقلاب الدموي في الأرجنتين بحكم خورخي فيديلا المدعوم من الولايات المتحدة الأمريكية. قام خورخي فيديلا بكبح جماح أي تحركات تحرر اجتماعي أو نقابات، وقام بحل الاتحادات الطلابية والأحزاب السياسية ليعلن بصراحة أنه لا صوت يعلو فوق صوت الجنرال وأنه جاء ليخلص الوطن من المخربين والشيوعيين الذين يتآمرون ضد الوطن لأجندات خارجية وقام العسكريون بتصفية ثلث الإنتاج وخاصة المنشآت الصغيرة والمتوسطة مع انفتاح متسارع على الواردات والاقتراض من الخارج بشكل عشوائي ومتدافع، ولا حاجة إلى الإشارة إلى أن قسمًا كبيرًا من المبالغ المقترضة من الخارج لم تكن تصل إلى خزانة الدولة، بل تغذي استثمارات العسكريين بالخارج ومجموعاتهم الاقتصادية بواسطة آلية فساد سماها الشعب «الدراجة المالية».
تعددت جرائم خورخي بنوع آخر من الوحشية، فقام بخطف 500 طفل من مواليد معارضيه ووهبهم إلى عائلات العسكريين لتربيتهم كجنود له في محاولة لصنع قالب مجتمعي مؤيد لكل سياسته. وكانت المرأة الأرجنتينية أكثر من دفع الثمن بعمليات الخطف والاغتصاب الواسعة والحمل القسري لتربية جنود العسكر الموالين له بعد الولادة، وجعل خورخي عمليات خطف المعارضين منهجًا في صلب سياسة الدولة في ظل نظامه العسكري، وقد لجأ الجيش إلى تصفية عناصر المعارضة المشتبه بهم، وقتل وشرّد واعتقل ما يقرب من 30 ألف رجل وامرأة وطفل، كان 67% منهم من الشباب بين سن الـ 18 والـ 30 عامًا خلال خمس سنوات من الحكم فقط، وكانت قواته تلقي بهم بعد إخضاعهم لعمليات تعذيب من الطائرات والمروحيات في نهر «لابلاتا» حتى لا يُعثر على جثثهم على الإطلاق.
وفي مقابلة صحفية عام 2012 قام خورخي فيديلا بخروج نادر عن صمته ليصف للمرة الأولى الأسلوب المستخدم لقمع معارضيه ويبرر الدكتاتور السابق استخدام التعذيب واختفاء الجثث قائلًا: «كان ينبغي تصفية 7 آلاف إلى 8 آلاف شخص. كنا نعلم أن ذلك كان الثمن الواجب دفعه لكن لم يكن هناك أي حل آخر إن كنا نريد كسب الحرب ضد المخربين».
وقد تم إحصاء نحو 350 معسكرًا سريًا للتعذيب والتصفية خلال الحكم الدكتاتوري في الأرجنتين، بينها المدرسة الميكانيكية للبحرية الشهيرة في بوينس إيرس، وفي سؤاله عن المختفين قال «هم ليسوا أمواتًا أو أحياءً، فقط هم مفقودون». وقد نظمت أمهات المفقودين وقفة احتجاجية في ميدان بلازا دى مايو مطالبين بالبحث عن ذويهم المختفين ووضعوا على رؤسهم قماشات مكتوبًا عليها أسماء ذويهم. في بداية الأمر لم تعطهم السلطة اهتمامًا كبيرًا إلى أن زدادت أعداد الأمهات ولقت حركتهم الاحتجاجية قبولًا شعبيًا من المارة بالشوارع. وفي عام 1978 قام خورخي بمحاولة لإلهاء الشعب بتنظيم كأس العالم لكرة القدم على أراضي الارجتنين للمرة الأولى ولكن انقلب السحر على الساحر فبدلًا من أن يُتخد كوسيلة لإسكات المعارضة وإبعاد الأحداث الجارية على الساحة ركّزت أمهات ساحات مايو مسيرتهن الاحتجاجية أمام المباريات، وقد غطت وسائل الإعلام الدولية -المتواجدة لنقل أحداث البطولة- احتجاجات أمهات مايو وشهاداتهن عن التعذيب والقتل والاختفاء القسري ونُقلت الأحداث من قلب الأرجتين إلى باقي دول العالم، وقد علق النجم العالمي يورهان كورييف بأنه لن يلعب في كأس العالم بالأرجنتين اعتراضًا على مذابح ضد الإنسانية ترتكب هناك، وبسبب الفشل الاقتصادي المتتابع للإدارة العسكرية والاقتراض المتوالي الذي أوصل الدين الخارجي إلى 200 مليار دولار، اصطنع العسكريون حربًا باسم الوطنية ضد إنجلترا على جزر فوكلاندا. كان يُنتظر من الولايات المتحدة مساندتهم في تلك الحرب، لكنها تخلت عنهم وساندت البريطانيين ومُنيَ العسكر بهزيمة ساحقة وفقدوا مصداقيتهم للأبد.
مهما تعددت طرق الديكتاتور ومهما بلغ الجنون المقدس لشعبيته الزائفة وزاد قمعه الموتور سينتهي إلى حتفه وتنتصر الشعوب. فالجماهير قد تغفو أعوامًا لكنها لا تموت فإن استيقظت من سباتها أعدت لجلاديها المشانق.
وأخيرًا اضطر المجلس العسكري للاستقالة وترك الشعب ينتخب أول رئيس مدني له، وهو راؤول ألفونسين -الذي صعد للسلطة عام 1983- وحوكم خورخي فيديلا –مع ثمانية عسكريين آخرين من أركان حكمه– محاكمات عادلة، وحُكم على فيديلا بالسجن مدى الحياة عام 1985 لاتهامه بارتكاب أعمال تعذيب وقتل وجرائم أخرى، وحكم على خمسة من قيادات الجيش بالسجن 25 عامًا بتهمة التورط في قضايا تعذيب واحتجاز غير قانوني وانتهاكات لحقوق الإنسان، ولفظ خورخي فيديلا أنفاسه الأخيرة في مايو عام 2013 عن عمر ناهز 87 عامًا، عجوزًا وحيدًا في الزنزانة التي كان يمضي فيها عقوبة السجن عن الجرائم التي ارتكبها نظامه العسكري الاستبدادي، تصاحبه لعنات مئات الآلاف ممَّن آذى ذويهم، وعشرات الآلاف من الأرواح التي أزهقها في خمس سنوات فقط. ولم تُجرَ أي تشريفات عسكرية في جنازته لأنه جرد من رتبة الجنرال في الجيش الأرجنتيني. فضلًا عن ذلك، هناك إجراء فرض في عام 2007 يحظر القيام بأي تشريفات لمحكومين بتهم تتعلق بانتهاكات حقوق الانسان. مهما تعددت طرق الديكتاتور ومهما بلغ الجنون المقدس لشعبيته الزائفة وزاد قمعه الموتور سينتهي إلى حتفه وتنتصر الشعوب. فالجماهير قد تغفو أعوامًا لكنها لا تموت فإن استيقظت من سباتها أعدت لجلاديها المشانق.