فيلم «Midsommar»: كيف يصير الانفصال العاطفي بهذا الرعب
في سينما الرعب، اعتدنا أن يباغتنا ما هو مفزع في حلكة الليل، حيث في قلب هذا الظلام، تستيقظ مخاوفنا الأكثر غوراً في الذات. بعد فيلمه (Hereditary) يعود المخرج آري آستر بفيلمه الثاني، الأكثر نضجاً واكتمالاً من سابقه، (Midsommar) حيث يصنع هنا كابوسه في وضح النهار، إذ ينتقل مجموعة من الأصدقاء الأمريكيين بدعوة من صديقهم السويدي إلى قريتة حيث تقيم طائفة دينية ذات طقوس وتقاليد غامضة،كل 90 عاماً يقام احتفال ديني لهذه الطائفة، هذا الاحتفال الذي يحمل الفيلم اسمه يعني منتصف الصيف، وهو ما أتى الأصدقاء لحضوره.
في هذا الوقت من العام يصير الوقت كله نهاراً تقريباً. المكان بهدوئه وألوانه الزاهية أشبه بفردوس،لكنه ينقلب بالتدريح إلى جحيم حقيقي، إلى واحد من أكثر الكوابيس إفزاعاً وعنفاً.
كيف نفهم سينما الرعب؟
في الفيلم الوثائقي (دليل المنحرف إلى السينما) الذي يقدم خلاله الفيلسوف سلافوي جيجيك تفكيكاً ذكياً وبارعاً لفن السينما، يرى جيجيك أنه لفهم وقراءة دراما فيلم الرعب، علينا أن نجرده من كل عناصر الرعب. ما يخبرنا به جيجيك هنا، يعني أن الدراما الحقيقية تكمن تحت السطح المرعب للفيلم، وبالتال علينا أن نبعد عناصر الرعب جانباً من أجل الوصول إلى قلب الفيلم.
في فيلم داني آستر لدينا داني/ فلورنس بوغ تعرضت في بداية الفيلم لفقدان عائلتها في حادث مأساوي، ثم لدينا علاقتها بصديقها كريستيان/ جاك رينور الذي نراه في بداية الفيلم على وشك الانفصال عنها، كل من حوله يرى علاقة بداني غير مناسبة، لكن بعد مأساتها العائلية، لا يستطيع الانفصال عنها بدافع الإحساس بالذنب. لم تستطع داني مواجهة صدمة فقد عائلتها، إنها تتهرب حتى من مجرد ذكر الموضوع أمامها، أحد أصدقاء كريستيان، يحاول أن يعبر عن أسفه لفقدها فتتركه مسرعة.
لم تستطع أيضاً مواجهة المخاوف وانعدام الأمان الذي يحكم علاقتها بصديقها. إنها تشعر دائماً أنها عبء على العلاقة، وتخشى أن يهجرها صديقها، لذلك فهي تتقبل عدم اهتمامه بها، وتعتذر حتى عن أخطائه هو، لدينا إذن حادث مأساوي يفتتح الفيلم، وعلاقة عاطفية تتأرجح على حافة الانهيار، هما ما يشكلان تيار الدراما الحقيقية التي تغذي السطح المرعب بالمخاوف التي يجسدها، كما يشكلان المعنى الكامن خلف الكابوس. لأن مخاوفنا بلا جسد، تسعى سينما الرعب إلى تجسيدها وتضخيمها على الشاشة، ما يهرب منه بطلا الفيلم في الواقع، يواجهانه بشكل صادم ومرعب داخل الكابوس المخلوق لهما.
تبدأ داني منذ وصولها إلى السويد وبعد تناولها لبعض الأعشاب المهلوسة، تبدأ في مشاهدة انعكاس أختها الميتة في مرآة الحمام، تشاهد أيضاً بعد ذلك شبح أمها المتوفاة وهو ما ينذر بانفلات ما هو مكبوت داخلها. منذ انتقالها للسويد كل المشاهد كما أشرنا نهارية، مشهد واحد فقط ليلي يمثل كابوساً شخصياً لداني، نشاهدها تستيقظ من نومها لتكتشف أن كريستيان هجرها وحيدة وهرب مع أصدقائه، تراهم يبتعدون عن المكان في السيارة التي أتوا بها، ثم تشاهد جثث عائلتها الموتى، تبدأ في الصراخ، ليخرج من جوفها مادة سوداء أشبه بغبار أو رماد، من هذا الرماد الذي يشكل مخاوفها العميقة يصنع آستر كابوسه الساطع.
ومشهد النهاية الصادم لا يمن قراءته إلا في هذا السياق، كتعبير مجازي عن تخلصها من علاقتها السامة بكريستيان وتخلصها من كل ما يربطها به. يمثل مشهد النهاية على محتواه المخيف لحظة تطهير بالنسبة لداني، فهذه الابتسامة التي تتسلل إلى وجهها في هذه اللحظة لا تعكس أي نوع من السادية بل تعكس إحساساً بالتحرر والتجاوز.
كيف يمكننا أن نضع هذا الفيلم في سياق سينما الرعب؟
ينتمي الفيلم لنوع فرعي من سينما الرعب يسمى (folk horror)، موجود منذ بدايات السينما، لكنه حقق رواجاً نوعياً نهاية الستينيات وبداية السبعينيات، مع انتشار الثقافة المضادة وجماعات الهيبي، مع جرائم عائلة مانسون ذات العنف الطقوسي، التي أعادت الاهتمام من جديد بثقافات الشعوب القديمة وطقوسها الغريبة. يدخل تحت هذا النوع كلاسيكيات مثل: (the wicker man)، (nosefratu)، و(pinic at hanging rock).
تشترك هذه الأفلام في عدة عناصر مثل: وجود طوائف دينية غريبة ومجتمعات لا تزال تحتفظ بطابعها البدائي لم تغيرها الحداثة، حيث تشكل تقاليدها الغامضة، وطقوسها الدموية التي تنتنمي إلى عالمها القديم مظهر الرعب الصادم في هذه الأفلام، هذه الأفلام تكون أقرب إلى حكاية خرافية تدور في عالم معاصر.
يمكننا أن نرى فيلم آستر كحكاية خرافية، حكاية داني ورحلتها العاطفية من الهرب من مخاوفها، إلى مواجهتها، ومحاولة تجاوزها. كل الطقوس المرعبة والدموية التي يحتشد بها الفيلم هي انعكاس مضخم لصدمة فقدها. هذه الثقافة البدائية ترى الموت جزءاً من دورة الحياة، وترى أن الموتى بموتهم يمنحون حياتهم قرباناً لمن يأتي بعدهم، هذه الفكرة قد تكون في مجملها محاولة للمواساة، لدفع تاني للتجاوز والمضي بحياتها وعدم التوقف عند الحدث الصادم.
في غرفة نومها نجد هذه اللوحة، لرسام يدعي جون باور، هي لوحة من سلسلة لوحات تستلهم الحكايات الخرافية الإسكندنافية، هذه اللوحة تحديداً لطفلة تحمل تاجاً تقبل دباً ضخماً، والتي تعكس على نحو ما طبيعة داني، التي بهروبها من صدماتها دون مواجهة كأنها تقبل هذا الدب الضخم دون وعي بما يشكله من خطر، خاصة وأن التاج والدب سيحملان دلالات محددة في الحكاية الفيلمية فيما بعد.
جماليات غير تقليدية لسينما الرعب
يتحاشى آستر في فيلمه كل الكليشيهات الخاصة بفيلم الرعب التقليدي، لدينا ميزانسين مضاء كلياً بضوء الشمس، وبلا ظلال، ملابس الطائفة البيضاء تضاعف من سطوع الشاشة، هذا السطوع ملائم لفكرة الكشف، وتحرير المخاوف الداخلية. لدينا المساحات المفتوحة، الألوان الزاهية، الأمر أشبه بالنزول داخل حلم جميل، لكنه يخبئ الرعب تحت هذا السطح البراق. يميل المخرج للقطات طويلة زمنياً، وكأنه يترك لمشاهديه أن يتشربوا بمشاعر الهلع والغضب التي تتضنها هذا اللقطات.
هذا أيضاً يخلق إيقاعاً هادئاً ومتمهلاً أكثر، يطهو الرعب على نار هادئة دون أن يتعجل أي شيء، يترك مشاهده تتنفس بطبيعية. هناك أيضاً بعض القفزات المونتاجية التي تمنح مشهديتها طابعاً حلمياً، إذ نشاهد داني تدخل وعلى وجهها علامات الهلع إلى حمام مسكن كريستيان، ثم نشاهدها ونفس الهلع على وجهها داخل حمام الطائرة التي تقلها إلى السويد، هذا يختصر الزمن الزائد، وهذه القفزات بين الأماكن أشبه بما يحدث في الأحلام، مثلما تؤكد مشاعر الهلع التي تحاول داني أن تكبتها. في المشهد الذي تدخل فيه السيارة التي تقل الأصدقاء حدود القرية المتجهين إليها، يقلب آستر المنظور 180 درجة، وكأنه يخبرنا بداية بانقلاب عوالم أبطاله، ليصير ما هو داخلي ومكبوت، خارجياً ومجسداً على نحو واضح.
يعد فيلم الرعب من الأنواع الفيلمية الموبوءة بالكليشية، وإعادة تدوير الحكايات، ونادراً ما تجد ضمنها فيلماً يحمل شيئاً من الأصالة والتجديد على مستوى الشكل أو المضمون. ينتمي فيلم آري آستر الثاني إلى هذه الفئة النادرة التي تحمل هاجساً ذاتياً وفنياً، فهو يعترف في أكثر من حوار بأنه كتب فيلمه تحت تأثير انفصال عاطفي، كذلك هناك تواصل في التيمات بين فيلميه، كلاهما يتضمنان تيمات الفقد والتراجيديا العائلية، والرعب الطقوسي. نجد في فيلميه أيضاً قدراً غير قليل من التجديد على صعيد الحبكة والجماليات، وهو ما يبشر بميلاد مخرج ينتمي لسينما المؤلف، رغم عمله ضمن السينما الأنواعية فإنه يحمل طموحاً فنياً كبيراً.