ميدوري ناكا: صراع أمريكا واليابان على بقايا «ضحايا هيروشيما»
يوم 6 أغسطس من عام 1945م..
عاشت الممثلة المسرحية الشهيرة ميدوري ناكا (Midori Naka) قمّة مجدها بعد نجاحها المتتالي على خشبة المسرح بشكل دفعها إلى مصاف نجوم المجتمع الياباني بفضل ما حباها الله به من جمال وموهبة فائقين.
لهذا كان منطقيًا أن تستعين الحكومة اليابانية بجهودها، مُشكِّلة منها ومن 16 فردًا رفاقها عُصبة فنية قدّمت عروضًا متنقلة في أماكن عِدة، بما فيها المنشآت العسكرية لرفع الروح المعنوية وسط الجنود، سُمّيت فرقة «ساكورا» المسرحية.
لم تدر ميدوري (تعني «خضراء» في اللغة اليابانية)، ذات الـ36 عامًا، أن هذا النجاح المدوي سينتهي في غمضة عين، ضربة لم تكن متوقعة رغم أن الممثلة اليابانية بزغ نجمها في توقيتٍ صعب، اجتاحت فيه العالم حربًا عالمية دفعت الجميع لقتال الجميع، ولم تكن اليابان بمعزلٍ عن ذلك بعدما خاضت حربًا ضروسًا ضد الولايات المتحدة، واشتبكت الدولتان في سلسلة متصلة من المعارك.
وفي ذلك اليوم، تحديدًا، أتى الرد الأمريكي المُزلزل؛ قنبلة ذرية تتفجّر لأول مرة في مدينة هيروشيما، والتي انتقلت إليها ميدوري بصحبة فرقتها الفنية منذ أشهر معدودة لتقديم موسم مسرحي بها، ولسوء حظ أعضاء تلك الفرقة الفنية فإن المنزل الذي استأجروه في هيروشيما لم يبتعد أكثر من 650 مترًا عن النقطة التي انفجرت فيها القنبلة الذرية التي ألقتها أمريكا على المدينة متسببة في موجة من الذعر اجتاحت العالم.
فيما بعد حكت ميدوري أنها كانت في المطبخ، تُعدُّ الإفطار لزملائها، وكانت ترتدي «الكيمونو» الزي التقليدي لنساء اليابان، حين باغتها «ضوء أبيض» سطع في عينيها وصوت انفجار صمّ أذنيها، فقدت وعيها على الفور، وحينما استيقظت كان الظلام قد عمَّ كل شيءٍ من حولها، وانهدم المبنى الذي كان يؤويها منذ دقائق.
للغرابة، لم تُصب ميدوري بأي أذى! فقط عدة خدوش سطحية، وإنما كانت حالتها الجسدية جيدة جدًا لدرجة سمحت لها بالخروج من تحت أنقاض المنزل الذي كان يؤويها.
تقول ميدوري، إنها حينما استعادت وعيها اكتشفت أن «الكيمونو» تمزّق تمامًا، فخرجت إلى الشارع لا ترتدي إلا ملابسها الداخلية الممزقة، حيث ركضت في قلب المدينة التي تحولت إلى قطعة من الجحيم إلى أن عثر عليها بعض جنود الجيش.
وقتها لم تعلم ناكا أنها العضوة الوحيدة بالفرقة التي نجت من هذا الانفجار الجهنمي، وأن باقي زملائها ماتوا إثر هذا الحادث.
أول شهيدة بالإشعاع
نقل جنود الجيش الياباني ميدوري إلى مركز إغاثة مؤقت لم تشعر فيه بأي تحسّن، ظلّت تتقيأ دمًا حتى شعرت بالقلق على نفسها، فاستقلت القطار إلى طوكيو يوم 9 أغسطس.
بفضل مكانتها في اليابان كممثلة شهيرة، أُلحقت ميدوري بمستشفى تابع لجامعة طوكيو حيث فحصها عدد من أفضل أطباء البلاد، على رأسهم ماتسو تسوزوكي، أبرز خبير إشعاع عرفته اليابان حينها، حيث حظت بعناية طبية فائقة.
برغم كل هذه الجهود، ساءت حالة الممثلة اليابانية تدريجيًّا؛ شعرها تساقط، انخفض عدد خلايا دمها البيضاء بشكلٍ قياسي، وارتفعت درجة حرارتها، وسط عجز عتاة أطباء اليابان عن إنقاذ حياتها، ليس هذا وحسب، وإنما عجزهم عن فهم مصدر معاناتها أساسًا.
وبحسب السجلات الرسمية الطبية اليابانية لميدوري التي عُثر عليها عام 2013م، فإن معدل خلايا كرات الدم البيضاء هوى إلى عُشر الأرقام الطبيعية خلال وقتٍ وجيز، كما تخطت درجة حرارة جسدها الـ40 وتساقط الشعر من رأسها. ازداد الأمر سوءًا عندما ظهرت عدد من البقع الأرجوانية -أشبه بآثار الكدمات- المتفرقة في أنحاء جسدها.
وغيرها من التفاصيل المرعبة التي كشف عنها أحد أفراد الفريق الطبي المُعالِج سنة 1988م، والذي كان طالب طبٍّ في مقتبل مسيرته المهنية لحظة الانفجار الذري.
ورغم إعلانها لمعالجيها أنها تشعر بقدرٍ من التعافي، فإنها في تمام الساعة 12:30 من صباح يوم 24 أغسطس لفظت الممثلة اليابانية آخر أنفاسها، لتكون أول ضحية لأول قنبلة ذرية عرفها العالم.
ولتكون هذه الوفاة فاتحة العقد أمام عشرات الآلاف من المرضى الذين استقبلتهم المستشفيات اليابانية لحالات نجت بمعجزة من الانفجار، لكنها في المقابل عانت من آثار مميتة للإشعاع. لاحقًا مات منهم قرابة 200 ألف شخص في غضون أيامٍ معدودة بسبب ما عُرف حينها بـ«مرض القنبلة الذرية»، وسيُعرف لاحقًا بـ«التلوث الإشعاعي».
أمريكا تستولي على الرفات
على مدى شهرين فقط، تمكن العلماء اليابانيون من بذل جهود كبيرة لإجراء عمليات تشريح واسعة النطاق بحق الضحايا في محاولة لاستيعاب بعض تفاصيل تلك الطامة الكبرى التي ألمّت بهم.
استسلم اليابانيون في 15 أغسطس عقب 6 أيام فقط من قصف ناجازكي، وفي 2 سبتمبر وقّعت الحكومة اليابانية وثيقة الاستسلام، والتي مكّنت الفرق الطبية الأمريكية من التدفق بأريحية على أراضي اليابان.
في 11 سبتمبر عام 1945م، صادر الجنرال توماس فاريل بالجيش الأمريكي رفات (قُدرّت الأجزاء المستولى عليها بعينات 218 جثة أجرى عليها العلماء اليابانيون عمليات تشريح) بعض ضحايا القنبلة الذرية؛ لإجراء المزيد من الفحوصات عليها في الولايات المتحدة ليتعرّف الباحثون الأمريكيون أكثر وأكثر عن تأثير القنبلة الذرية على البشر.
وهي الخطوة التي اعترض عليها حينها عدد من العلماء اليابانيين بدعوى أن جثث المتوفيين «ليست غنائم حرب»، لكن في ظل استسلام الدولة اليابانية الكامل للثقل الأمريكي كان من المستحيل على أحدٍ الاعتراض على تلك الخطوة.
ما استحوذ على عقول الأمريكيين وقتها هو ضرورة احتكار المعرفة النووية بأي ثمن، لذا اعتبروا أن جهود معرفة تأثير سلاحهم الذري على البشر لا تقل أهمية عن جهود تصنيعه، حرصًا على ألا يتسرّب أيٍّ منها إلى الاتحاد السوفييتي، وهو المسعى الذي سيفشل في نهاية الأمر، وسيتوصل السوفييت إلى سرِّ القنبلة الذرية عقب 4 أعوامٍ فقط من إطلاقها.
وفي 26 نوفمبر من ذات العام وقّع الرئيس الأمريكي هاري ترومان (Harry S. Truman) أمرًا تنفيذيًا يأمر بإجراء عمليات بحثية طويلة الأمد على الإصابات التي خلّفتها القنبلة الذرية، والتي حتّمت تشبّث أمريكا بما انتزعته من «رفات مشع» لضحاياها اليابانيين.
من ضمن هذا الرفات المُصادَر كان بقايا جسد ميدوري ناكا، التي خلّدت هذه الخطوة اسمها أكثر مما فعل الفن، بعدما باتت عودة بقايا إلى البلاد مطلبًا مُلِحًا وقوميًّا لم تتوقف اليابان عن طلبه بمرور الوقت، حتى استجابت أمريكا أخيرًا، وأعادت ما تبقى من ميدوري إلى وطنها بعد 46 عامًا من الغياب، ولتضع نقطة الختام- أخيرًا- على القصة البائسة التي جمعت- من دون قصد- بين ممثلة اليابان الشهيرة وسلاح أمريكا الفتّاك.
وفي مايو 1973م عاد رفات اليابانيين- ومن ضمنهم جسد ميدوري- من ضحايا الإشعاع إلى وطنهم، أخيرًا، وهي الخطوة التي تفاعلت معاها اليابان بما يليق بجلالها باحتفال شعبي ضخم وتغطية إعلامية كبيرة احتفت بالعائدين كما لو أنهم أبطال قوميون آتون من منفى.
وهي خطوة بلغ من حجم تأثيرها أن اعتبرت المؤرخة الأمريكية سوزان ليندي (Susan Lindee)، أنها «أعادت التوازن الدقيق والمعقد لشكل العلاقة بين اليابان والولايات المتحدة».
حُفظت هذه البقايا في متحف أقامته اليابان خصيصًا لإحياء ذكرى هيروشيما وضحاياها، هو متحف هيروشيما التذكاري للسلام.
لا يعرض المتحف البرطمان الزجاجي الذي يحفظ ما تبقى من جسد الممثلة اليابانية، ولكنه عرض على موقعه الرسمي صورة منخفضة الجودة له، لتكون آخر ما يُطالعه الجمهور من ذكرى الممثلة اليابانية التي أطاحت بمسيرتها الفنية قنبلة ذرية، ربما لولاها لحلمت يومًا بتصدّر أفيش أحد أفلام هوليوود.