الشرق الأوسط بعد زيارة بايدن: ما الذي تغير؟
حظيت زيارة الرئيس الأمريكي، جو بايدن، للمملكة العربية السعودية، باهتمام كبير محلياً وإقليمياً ودولياً؛ فالزيارة شملت إبرام اتفاقات تعاون وعقد مباحثات مع العاهل السعودي، وجلسة ثنائية بين ولي عهده، محمد بن سلمان، والرئيس الأمريكي بعد سنوات من الخلافات والتوترات بين البلدين وتدهور الثقة، وفتور العلاقة إلى درجة كبيرة.
وأعلنت الرياض توقيع 18 اتفاقية ومذكرة تعاون مع واشنطن في مجالات عديدة أبرزها اتفاقات مع وكالة الفضاء الأمريكية «ناسا» لاستكشاف القمر وكوكب المريخ، وشركة «بوينج» لصناعة الطيران، و«رايثيون» للصناعات الدفاعية التي تنتج نظام الدفاع الجوي الشهير «ىاتريوت»، واتفاقات تتعلق بتقنيات الجيل الخامس وإنترنت الأشياء، وقطاع الاتصالات، والطاقة النظيفة، والاستخدامات السلمية للطاقة النووية.
وفي ما يخص الطلب الأمريكي من المملكة بزيادة إنتاج النفط، قال بايدن إن المسئولين السعوديين يشاركونه الحاجة الملحة إلى زيادة الإمدادات النفطية، وإنه يتوقع خطوات في هذا الاتجاه في غضون أسابيع.
دمج إسرائيل في المنطقة
شمل الجزء الأول من رحلة بايدن إلى المنطقة زيارة إلى الأراضي المحتلة، الأربعاء، حيث التقى قادة الكيان العبري، ثم توجه، الخميس، إلى بيت لحم بالضفة الغربية حيث عقد قمة مع رئيس السلطة الفلسطينية، محمود عباس، قبل أن يذهب إلى مطار بن جوريون الإسرائيلي وينطلق منه إلى جدة، الجمعة، لبدء الجزء الثاني من رحلته.
وقد تعهد الرئيس الأمريكي عقب وصوله إلى إسرائيل بإعطاء دفعة لعملية «دمج» إسرائيل في المنطقة، وصاحبت زيارته تكهنات احتمال لحاق السعودية بأربع دول عربية طبعت علاقاتها مع إسرائيل في عهد الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، وهو ما لم يحدث، لكن الهيئة العامة للطيران المدني السعودي، استبقت وصول الرئيس الأمريكي بساعات، بإعلان فتح أجواء المملكة لجميع الناقلات الجوية، التي تستوفي متطلبات الملاحة الجوية بما يشمل الطيران الإسرائيلي.
وهو ما ثمنه بايدن ووصف القرار في بيان له بأنه «تاريخي»، واعتبره «خطوة مهمة نحو بناء شرق أوسط أكثر تكاملاً واستقراراً»، مبيناً أن هذه الخطوة شغلت المناقشات بين الرياض وواشنطن لفترة طويلة، مفتخراً بأنه سيصبح أول رئيس أمريكي يطير من إسرائيل إلى المملكة.
وتابع البيان:
وأعلن رئيس وزراء الكيان العبري، يائير لابيد، أن الطائرات الإسرائيلية ستسافر إلى المملكة العربية السعودية، ووصف القرار بأنه جاء نتيجة «طريق طويل من الدبلوماسية المكثفة والسرية مع السعودية والولايات المتحدة»، مبيناً أنه «الخطوة الأولى فقط» ، ووعد بالمزيد في طريق تحسين العلاقات.
وخلال زيارة بايدن، نقلت تقارير إعلامية موافقة إسرائيل على نقل جزيرتي تيران وصنافير الاستراتيجيّتَين في البحر الأحمر إلى السعوديّة، وهما مشمولتان باتفاق السلام لعام 1979 بين مصر وإسرائيل، بالتزامن مع إعلان تل أبيب رغبتها أن تُشكّل جولة بايدن إشارة انطلاق للعلاقات الدبلوماسيّة مع الرياض، وقد أعلن بايدن في مؤتمر صحفي عقده، مساء الجمعة، في جدة أن قوات حفظ السلام الأمريكية التي تتمركز في جزيرتي تيران وصنافير ستغادر الجزيرتين بعد أن استقرت هناك أكثر من أربعة عقود بحسب اتفاقية السلام.
وأوضح البيت الأبيض في بيان له أنّ الانسحاب سينفذ في نهاية العام الجاري وأن المنطقة ستُتخصص «للسياحة والتنمية»، وفق ترتيبات تمّ التفاوض عليها على مدى أشهر عدّة «تأخذ مصالح كل الأطراف في الاعتبار، بما في ذلك إسرائيل».
وتابع البيان أن الرياض «وافقت على احترام كل الالتزامات والإجراءات القائمة في المنطقة» أي باعتبار الجزيرَتين جزءاً من منطقة لا تنتشر بها قوّات عسكريّة.
أما مسألة احتمال تطبيع المملكة علاقاتها مع إسرائيل فالموقف الرسمي والمعلن حيال هذا الأمر بينه ولي العهد السعودي، الأمير محمد بن سلمان، في مقابلة أجراها مع مجلة «ذي أتلانتيك» الأمريكية، قال فيها إن بلاده لا تنظر الى إسرائيل كـ«عدو» بل كـ«حليف محتمل».
وفي الحوار الذي نشرته وكالة الأنباء السعودية كاملاً، سُئل بن سلمان عما إذا كان سيحذو حذو دول عربية طبعت مع تل أبيب، فقال: «إنهم يملكون الحق كاملاً في القيام بأي شيء يرونه مناسباً للإمارات العربية المتحدة، أما بالنسبة لنا، فإننا نأمل أن تُحل المشكلة بين الإسرائيليين والفلسطينيين، إننا لا ننظر الى إسرائيل كعدو، بل ننظر لهم كحليف محتمل في العديد من المصالح التي يمكن أن نسعى لتحقيقها معاً، لكن يجب أن تُحل بعض القضايا قبل الوصول إلى ذلك».
ولم يوضح ولي العهد السعودي القضايا المقصودة، لكن الموقف المعلن للمملكة باستمرار هو أن إيجاد حل للقضية الفلسطينية شرط لتطبيع العلاقات مع إسرائيل وهو ما تضمنته مبادرة السلام العربية التي طرحتها الرياض وأقرتها القمة العربية التي عقدت في العاصمة اللبنانية، بيروت، عام 2002 بالإجماع، ويصعب على المملكة التراجع عن هذا الموقف، لكنها يمكن أن تتخذ خطوات جزئية على شاكلة قرار فتح الأجواء أمام خطوط الطيران الإسرائيلية.
منافسة روسيا والصين
هدف الرئيس الأمريكي أيضاً من وراء هذه الزيارة إعادة ترميم ما تهدم من نفوذ بلاده في المنطقة العربية، والتأكد من إمكانية «الاستمرار في القيادة في المنطقة وعدم خلق فراغ قد تملؤه كل من روسيا والصين».
وتمتلك الرياض وواشنطن علاقات تجارية واسعة بالفعل، ووصل حجم التبادل التجاري بين البلدين في عام 2021 وحده إلى 92.5 مليار دولار، وسجلت الصادرات النفطية السعودية إلى واشنطن العام الماضي أكبر مستوى لها على الإطلاق، وهي أكبر شريك تجاري لها في المنطقة، لكن المشكلة تكمن في العلاقات السياسية وملف حقوق الإنسان الذي كان عرضة للانتقاد الأمريكي خصوصاً خلال أزمة اغتيال الصحفي جمال خاشقجي في أكتوبر/ تشرين الأول 2018 في القنصلية السعودية في إسطنبول بتركيا.
وتعهد بايدن في يونيو/حزيران الماضي بأنه لن يلتقي ببن سلمان، لكن البيت الأبيض أكد بعدها أن بايدن سيقابله كجزء من اجتماع ثنائي مع العاهل السعودي الملك سلمان وفريق القيادة الأوسع في البلاد، وأخيراً التقاه بحضور والده الملك سلمان، ثم عقد لقاءً ثنائياً معه بحضور وفدي البلدين.
وقال بايدن، إن هدف زيارته للسعودية يتمثل في تعزيز العلاقات المشتركة، وخلال مؤتمر صحفي سبق زيارته، قال إن سبب رحلته إلى المملكة أكبر من مجرد مراعاة المصالح الأمريكية، وأن الزيارة فرصة لتصحيح الأخطاء السابقة بالانسحاب من المنطقة.
وقد ناقش الإعلام السعودي بكثافة مسألة توصيف هذا الموقف الأمريكي؛ هل هو تحرك تكتيكي أم استدارة استراتيجية، أي هل واشنطن تريد الحصول على بعض المكاسب الحالية من الرياض كإقناعها مثلاً بضخ مزيد من النفط في الأسواق العالمية لتعزيز الغياب الروسي الجزئي، أم أن هذه الزيارة ستكون فاتحة فصل جديد من العلاقات الدافئة بين البلدين، وبداهةً تفضل السعودية الخيار الثاني.
وقد وصلت العلاقات إلى مستوى من الفتور جعل الرياض ترفض زيادة إنتاجها النفطي لإنقاذ الدول الغربية من أزمة طاقة بعد استغنائها عن نفط روسيا وغازها، في موقف يعكس مدى التغير في العلاقات، فقد كان قرار السعودية في سبتمبر/أيلول 1985 بزيادة إنتاجها النفطي أحد أسباب انهيار الاتحاد السوفيتي، العدو اللدود لواشنطن، إذ أدى انخفاض أسعار آنذاك لخسائر ضخمة للسوفيت، وكانت واشنطن حينها تتعهد بحفظ أمن الخليج وفقاً لمبدأ كارتر المعلن عام 1980، لكن اليوم تحتفظ الرياض بعلاقات مع موسكو، ولا تثق الرياض في الالتزام الأمريكي خاصةً بعد تقليص واشنطن منظومات الدفاع الجوي «باتريوت» عدة مرات متجاهلة تواصل الهجمات الصاروخية على المملكة من جانب ميليشيات الحوثي المدعومة من إيران، وبالتالي أصبحت معادلة الأمن مقابل النفط، شيئاً من الماضي.
وعلى الرغم من استخدام الولايات المتحدة لغة تشبه تلك التى استخدمتها قديماً للإعلان عن «مبدأ كارتر»، لكن المصداقية لم تكن حاضرة هذه المرة، بل إن هذه اللهجة القوية في الحديث أعطت إيحاء قد تكون للتمهيد للتوصل إلى اتفاق أمريكى مع طهران، وطمأنة مخاوف دول الخليج من أن يحد الاتفاق من الالتزام الأمريكى تجاه المنطقة.
وناقش الوفد الأمريكي خلال زيارته المخاوف الأمنية السعودية وسبل التعاون في هذا الملف، إذ يمثل الموقف من التهديد الإيراني لدول الخليج موضوعاً خلافياً رئيسياً بين الرياض وواشنطن، فالأولى تطالب الثانية بعدم الاكتفاء بالتعامل مع الخطر النووي الإيراني بل العمل على تقييد البرنامج الصاروخي والمشروع الإقليمي لطهران.
وقد تضمن جدول الزيارة في يومها التالي، حضور بايدن قمة (GCC+3) التي ضمت زعماء الدول الخليجية الست، وقادة مصر والأردن والعراق، وسط انتشار أنباء عن سعي أمريكي لإنشاء تحالف دفاعي بين تل أبيب وعدد من الدول العربية بهدف ربط أنظمة الدفاع الجوي بحجة مواجهة إيران، ولم يلق هذا المشروع قبولاً من الدول المقترحة، فرئيس وزراء العراق، مصطفى الكاظمي، تعهد، الجمعة، قبل سفره لجدة بعدم الانضمام إلى أي محور أو حلف، وهو نفس ما قاله أنور قرقاش، المستشار الدبلوماسي لرئيس الإمارات، مبيناً أن بلاده ستعين سفيراً لها في طهران، وبينما تحمس الأردن للاقتراح، لم تبد مصر أي حماس له، كما أن الكويت وعُمان وقطر لا يريدون توتير العلاقات مع طهران، أما البحرين فهي مرتبطة بالفعل باتفاقية تعاون عسكري مع إسرائيل.
وعقب مغادرة الأمريكيين للسعودية، جاءت زيارة الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، لطهران، الثلاثاء، في خطوة اعتبرها الإيرانيون ردًا على زيارة بايدن للمنطقة، ورسالة روسية إلى دول الخليج بعدم الذهاب بعيداً باتجاه الولايات المتحدة وإلا فإن الروس سيذهبون بعيداً في علاقتهم مع طهران، وقد أعرب ديميتري بيسكوف، المتحدث باسم الكرملين عن خشيته من أن تؤدي «دبلوماسية النفط» الأمريكية إلى قلب السعودية ضد روسيا.