الكائنات الدقيقة على الأرض أكثر من النجوم في المجرة
محتوى مترجم | ||
المصدر | ||
التاريخ | ||
الكاتب |
لقرون طويلة سعى البشر لاستكشاف ووصف المتنوع البيولوجي للأرض بصورة كاملة، إذ سعى المتخصصون وعلماء الطبيعة إلى تصنيف الفصائل في جميع القارات والمحيطات من أعماق القشرة الأرضية إلى أعالي الجبال ومن الأحراش الأكثر انعزالًا إلى مدننا المعمورة. ألقى هذا الاهتمام الضخم الضوء على أنماط السلوك التي فسر التطور إمكانياتها كأساس لفهم الأصل المشترك للحياة. وإلى وقت قريب كان يعتقد أن كوكبنا مأهول بحوالي عشرة ملايين نوع (107) وعلى الرغم من أنه ليس بالعدد الضئيل، فقد اعتمد هذا التقدير في الغالب على الأنواع التي يمكن رؤيتها بالعين المجردة.
فماذا عن الأنواع الأصغر كالبكتيريا والعتائق والطلائعيات والفطريات؟ فهذه التصنيفات على وجه العموم هي الأكثر وفرة وانتشارًا، كما أنها الأكثر امتدادًا على جدول تطور أشكال الحياة على الكوكب، فما هي مساهمتها في التنوع الحيوي العالمي؟
تشير الدراسات الحالية – إذا وضعنا الكائنات الدقيقة في اعتبارنا – إلى أن الأرض قد تكون موطنًا لعدد مذهل يقارب التريليون فصيلة (1012 )، إذا كان هذا صحيحًا فسيكون كل المجهود الضخم لاكتشاف التنوع البيولوجي على الأرض كشف فقط واحد من ألف بالمائة (0.0001 %) من جميع الفصائل على الأرض.
يُظهر تقدير التنوع البيولوجي – حتى في أكثر المواطن المعروفة – مجموعة غير مسبوقة من التحديات، فلأكثر من قرن تعرف العلماء على الفصائل الدقيقة عبر استنباتها في أطباق بتري أولًا، ثم صنفوا خصائص الخلية بالإضافة إلى جوانب أخرى من نظامها الحيوي كالتحمل الحراري والركائز التي تستهلكها والإنزيمات التي تنتجها. ولكن مناهج كتلك تقلل من قدر التنوع بصورة دراماتيكية، وليس ذلك فحسب، لأن استنبات الغالبية العظمى من الكائنات الدقيقة يكون صعبًا، ولكن أيضًا لأن الفصائل الدقيقة يمكنها أن تقوم بوظائف مشابهة وليس من المحتمل أن يتم تمييزها حسب مظهرها.
في منتصف التسعينات بدأ عدد متزايد من البيولوجيين التخلي عن أساليب الاستنبات لصالح التعرف على الكائنات من خلال التسلسل المباشر للأحماض النووية- DNA – وذلك عبر مياه المحيطات وأسطح أوراق النباتات والمواد الرسوبية في الأراضي الرطبة وحتى بداخل رشاشات الاستحمام.
وتحسنت هذه الأساليب بصورة دراماتيكية على مدار العقود السابقة، فمن خلالها يمكن دراسة ملايين الميكروبات في مرة واحدة، ومع هذا الأسلوب فائق الإنتاجية توصلنا إلى أن غرامًا واحدًا من تربة زراعية يمكن أن يحتوي – في المعتاد – أكثر من عشرة آلاف فصيلة، وعلى غرار ذلك نعلم أن ما يقرب من 1013 تريليون خلية بكتيرية تكون ميكروبيوم (مجموع الميكروبات المتعايشة مع إنسان – المترجم) ، وهذه الميكروبات لا تساهم فحسب في عملية الهضم والتغذية الخاصة بالمضيف، ولكن تمثل امتدادًا لجهازه المناعي أيضًا.
وحين ننظر لما هو أبعد منا، نجد أن الميكروبات متواجدة في قشرة الأرض وفي غلافها الجوي، وفي العمق الكامل للمحيطات والقمم الجليدية. وبصورة إجمالية يقدر عدد الخلايا الميكروبية على الأرض بما يقرب من نونليون 1030 خلية، إنه رقم يفوق التخيل ويتجاوز العدد التقديري للنجوم في الكون، ومن هنا يطرح هذا الأمر تساؤلًا عن عدد الفصائل التي قد تكون موجودة بالفعل؟
وُضعت قوائم طويلة من الفصائل لكل نظام بيئي تقريبًا، بالإضافة إلى ما يقرب من 20000 فصيلة نباتية وحيوانية يتم اكتشافها كل عام؛ ويصادف أن يكون العديد من هذه الفصائل خنافس، فالتقارير عن وجود قوارض أو أسماك أو زواحف أو حتى ثدييات أمر غير شائع. وعلى خلاف ما يبدو مثيرًا للبيولوجيين وكذلك للعامة، تساهم النباتات والحيوانات الجديدة بحوالي 2% من إجمالي الفصائل كل عام فقط، وهي علامة على أننا قد نصل إلى تعداد شبه كامل للكائنات على الكوكب.
وعلى العكس تمامًا، تضم السلالات السحيقة فصائل لم يتكلم أحد عنها، فمنذ سنوات قليلة وفي خزان واحد للمياه الجوفية في كولورادو وجد العلماء 35 شعبة بكتيرية جديدة – الشعبة هي مجموعة كبيرة تصل إلى آلاف أو عشرات الآلاف – وبالنسبة للميكروبات فتحتوي الشعبة على ملايين الفصائل المتقاربة. وتحتوي الشعب التي تم اكتشافها في خزان المياه الجوفية هذا حوالي 15% من جميع الشعب البكتيرية المعروفة سابقًا على الأرض. ولتقريب الصورة ينتمي البشر إلى شعبة الفقاريات، وكذلك أكثر من 65000 فصيلة أخرى من الحيوانات التي تمتلك نوتوكورد (أو عمودًا فقريًا)، بما في ذلك الثدييات والأسماك والبرمائيات والزواحف والطيور والغلاليات، تقترح اكتشافات كتلك أننا على قمة جبل جليدي فيما يتعلق بوصف تنوع المجال الميكروبيولوجي.
في أفضل الأحوال يجب أن يكون هناك اتفاق على طبيعة الفصيلة إن كنا بصدد السعي للحصول على تقدير للتنوع الحيوي العالمي، بالنسبة للنباتات والحيوانات تُعرف الفصيلة بصورة عامة على أنها مجموعة من الكائنات القادرة على التزاوج وإنتاج سلالة قادرة على البقاء، ولسوء الحظ يبقى هذا التعريف غير عملي في تصنيف الفصائل الدقيقة إذ أنها تتكاثر لا جنسيًا (يمكن للكائنات الدقيقة أن تحول الجينات بين أفرادها القريبين؛ عبر عملية تُعرف بــ«نقل الجينات الأفقي» وهو أقرب إلى أن يكون إعادة جمع يحدث في أعضاء التناسل الجنسية).
ومع ذلك فهنالك طرق لتصنيف الكئنات بناءً على الأصل المشترك، وهو ما يمكن الاستدلال عليه من البيانات الجينية. والأسلوب الأكثر شيوعًا لتحديد الفئات الميكروبية يتضمن مقارنة التسلسل الجيني الريباسي rRNA، حيث يدخل هذا الجين في بناء الريبسومات – الآلات الجزيئية المطالبة بتخليق البروتين في جميع أشكال الحياة – وعبر مقارنة أوجه التشابه بين التسلسلات يمكن للعلماء التعرف على مجموعات من التصنيفات دون الحاجة إلى استنباتها أو تصنيف بنيتها الفسيولوجية أو الخلوية. ومن بين التحفظات المتعلقة بالتصنيف المبني على الـrRNA للتصنيفات الميكروبية، قد يقلل هذا التصنيف من تقدير الرقم الحقيقي للفصائل، ولكن في هذه الحالة يكون التقدير الحالي أن الأرض قد تكون موطنًا لما لايقل عن (1012 ) فصيلة، وهو ما قد يكون في الحقيقة تقديرًا متحفظًا على الرغم من ضخامة الرقم.
في النهاية، لمعرفة عدد الفصائل الميكروبية على الأرض آثار عملية من شأنها تحسين جودة الحياة، فقد يحفز مفهوم استغلال التنوع الحيوي الوصول لوقود بديل لتلبية احتاجات الطاقة المتزايدة، أو منتجات جديدة لإطعام هذا العدد سريع التزايد، وكذلك اكتشاف الأدوية لمحاربة الأمراض الوبائية الجديدة. ولكن قد يكون هنالك أسباب أكثر بساطة للرغبة في معرفة عدد الفصائل التي تتشارك الكوكب معنا، فمن قبل بزوغ الحضارة اعتمد بقاؤنا على التجربة والخطأ في التعامل مع النباتات والحيوانات والميكروبات التي حاولنا حصدها أو ترويضها أو تجنبها كلية، واهتمامنا بالتنوع الحيوي ما هو إلا انعكاس لفضول متأصل لدينا عن العالم الطبيعي وموقعنا منه، وسواء كان يتطلب الأمر الإعجاب أو الحماية أو التغير أو الاستغلال، فلن يتجاهل البشر أبدًا الفصائل التي تسكن الأرض معنا.