مايكل ساندل: الشعبوية وترامب ومستقبل الديمقراطية
محتوى مترجم | ||
المصدر | ||
التاريخ | ||
الكاتب |
على الرغم من أن هذه المقالة، وهي في الأصل محاضرة ألقاها صاحبها في معهد العلوم الإنسانية في فيينا، تعيد في جانب منها ترديد بعض التحليلات التقليدية عن صعود ترامب والشعبوية، فإنها تقوم في الجانب الآخر منها بإعادة تحليل الشعبوية من منظور يختلف عن تحليلها اليساري بوصفها نتاج غياب العدالة الاقتصادية، أو الليبرالي بوصفها ردة فعل لتطرف سياسات الهوية التي يتبناها اليسار الهوياتي.
فمايكل ساندل، صاحب المقالة، هو أحد أهم وجوه الفلسفة السياسية المعاصرة، وأبرز من قاموا بنقد الليبرالية وطرح «الجماعاتية Communitarianism» التي تركّز على إعادة الاعتبار في البعد الاجتماعي في حياة الأفراد، ومن ثمّ أهمية التقاليد والأخلاق والدين ونحوها. وهو من ثمّ يقوم بتحليل البعد الثقافي في الشعبوية، أي ذلك الانشغال لدى الجماهير بقضايا الهوية الوطنية ومعنى الحياة والأخلاق التي يعجز الفكر الليبرالي واليساري عن إدراكها والتعاطي معها.
محمود هدهود
إننا في زمن محفوف بالأخطار للديمقراطية. فروسيا، تركيا، المجر، بولندا، وغيرها من البلاد التي منحتنا آمالًا ديمقراطية، بدأت بدرجات متفاوتة تنتهج الاستبداد، كما أن الديمقراطية في مشكلة حتى في مناطق أكثر حزمًا وثباتًا. في الولايات المتحدة الأمريكية يشكّل دونالد ترامب التهديد الأعظم للنظام الدستوري الأمريكي من بعد ريتشارد نيكسون. ورغم ذلك، وبغض الطرف عن التعثر الحادث في أول سنة ونصف من رئاسة ترامب، لم يخرج صوت المعارضة بعد.
قد يعتقد المرء أن تغريدات ترامب المثيرة، وسلوكه الشاذ، وإصراره على الاستخفاف بمعايير الديمقراطية، من شأنه منح المعارضة هدفًا سهلًا، لكن الأمر لم يكن كذلك على أية حال، فإن الغضب الذي أثاره ترامب تسبب في الشلل بدلًا من إثارة الحماسة، بالنسبة إلى أولئك الذين قد يتولون دفة سياسة الصمود.
هنالك سببان لشلل المعارضة. الأول: التحقيق الذي أجراه المحقّق الخاص روبرت مولر في احتمال التواطؤ الروسي مع حملة ترامب، والأمل في أن تتسبب نتائج تحقيق مولر في إقالة ترامب، هي الأمنية التي تحول بين الديمقراطيين وطرح أسئلة صعبة حول رفض الناخبين لهم على كلٍ من مستوى الولاية والفيدرالية. سببٌ ثانٍ لهذا الشلل يكمن في الفوضى التي يخلقها ترامب، حيث إن دفقه المتواصل من الاستفزاز له تأثير مربك على النقّاد الذين يعانون من أجل التمييز بين التحديات الفعلية التي تمس الديمقراطية وبين ما ينبغي تفويته من مشتّتات.
وقد قال الكاتب الإيطالي إيتالو كالفينو ذات مرة: «لقد قضيت أول عشرين سنة من عمري ووجه موسوليني في كل مكان». كذلك هو ترامب الذي يتصدر المشهد بشكل دائم؛ بفضل تغريداته، وأيضًا لنهم الأخبار التلفزيونية لتغطية كل سلوك غريب وشائن صادر عنه.
اقتصاد الغضب
يمكن أن يكون الغضب الأخلاقي فعّالًا سياسيًا في حال قيادته وتوجيهه من خلال تقدير سياسي. وما تحتاجه معارضة ترامب حاليًا هو «اقتصاد غضب economy of outrage» ملتزم بأولويات مشروع سياسي إيجابي.
كيف يمكن أن يبدو مشروع كهذا؟ للإجابة على ذلك السؤال علينا البدء بالوقوف أمام الرضا عن التفكير السياسي الذي مهد الطريق لترامب في الولايات المتحدة وللشعبوية اليمينية في بريطانيا وأوروبا. الحقيقة المرة أن انتخاب دونالد ترامب تم باستغلال تفاقم كل من القلق والإحباط والشكاوى القانونية التي لم تتمكن الأحزاب السياسية السائدة من تقديم حلول مقنعة لها.
وبالنسبة للقلقين من ترامب ومن الشعبوية فإن هذا يعني أن تحريك سياسة الاحتجاج والمقاومة ليس كافياً، بل إن من الضروري الانخراط في سياسة الإقناع. وسياسات مثل هذه يجب عليها البدء بفهم الاستياء الذي يعكّر صفو السياسات في أمريكا والديمقراطيات حول العالم.
فشل الليبرالية التكنوقراطية
على غرار انتصار البريكسيت في المملكة المتحدة، كان انتخاب ترامب حكمًا غاضبًا جرّاء عقود من صعود عدم المساواة ونسخة من العولمة التي تفيد أصحاب الشئون العليا تاركةً الأشخاص العاديين يشعرون بالعجز. كما كان ذلك بمثابة توبيخ لمقاربة تكنوقراطية للسياسة غير مهتمة باستياء أولئك الذين يشعرون بأن الاقتصاد والثقافة أولياهم ظهريهما.
يشجب بعضهم صعود الشعبوية بوصفها إلى حد ما مجرد رد فعل عنصري أو زينوفوبيا تجاه المهاجرين والتعددية الثقافية. ويراها آخرون من ناحية اقتصادية بحتة بوصفها احتجاجات على فقدان الوظائف الذي تسببت فيه التجارة العالمية والتقنيات الحديثة.
لكن من الخطأ النظر إلى التعصب الأعمى في الاحتجاجات الشعبوية فحسب، أو إظهارها كمجرد احتجاج اقتصادي؛ إذ يفتقر ذلك إلى حقيقة أن الاضطرابات التي نشهدها هي استجابة سياسية لفشل سياسي ذي أبعادٍ تاريخية.
فالشعبوية اليمينية الصاعدة هذه الأيام يمكن اعتبارها عَرَضًا لفشل السياسات التقدمية، وقد أصبح الحزب الديمقراطي طرفًا في ليبرالية تكنوقراطية أكثر ملاءمة للطبقات المهنية من الناخبين ذوي الياقات الزرقاء وناخبي الطبقة الوسطى الذين شكّلوا ذات يوم قاعدته. وقد أصاب مأزقٌ مثل ذلك حزب العمال في بريطانيا، وأدى في أعقاب هزيمته في الانتخابات العامة الأخيرة إلى مفاجأة انتخاب جيرمي كوربن المناهض للنظام المؤسسي، كزعيم للحزب.
اقرأ أيضًا:مفعول كوربن: لأن هنالك بديلًا للنيوليبرالية
وتعود أصول هذا المأزق إلى الثمانينيات، حيث حاجج كل من رونالد ريغان ومارغريت تاتشر عن أن المشكلة هي الحكومة، وأن الأسواق هي الحل، وبعد خروجهما من المشهد السياسي قام سياسيو يسار الوسط مثل بيل كلينتون في الولايات المتحدة الأمريكية، وتوني بلير في بريطانيا، وجيرهارد شرودر في ألمانيا، بتخفيف وطأة الإيمان بالسوق لكنهم زادوه صلابة، وقد حاولوا تقليم التطرفات الفجة للسوق المنفلتة، لكنهم لم يطعنوا في الفرضية المركزية لعصر ريغان-تاتشر، القائلة بأن آليات السوق هي الأدوات الأساسية لتحقيق الخير العام. وتماشيًا مع هذا الإيمان، تبنوا نسخة من العولمة التي تقودها الأسواق، ورحبوا بالأمولة financialization* المتزايدة للاقتصاد.
قامت إدارة كلينتون بالاتحاد مع الجمهوريين في الترويج للسوق العالمية وتحرير القطاع المالي في التسعينيات، وانصبت فوائد هذه السياسات على أهل القمة، ولكن الديمقراطيين لم يقوموا إلا بأقل القليل في التعاطي مع عدم المساواة المترسخة وتنامي سلطة المال في السياسة. وبفقدانها مهمتها المعتادة في ترويض الرأسمالية وكبح السلطة الاقتصادية لصالح الديمقراطية، فقدت الليبرالية قدرتها على الإلهام.
وعند ظهور باراك أوباما في المشهد السياسي بدا وكأن ذلك كله سيتغير. فقد قدم في حملته الانتخابية لعام 2008 بديلًا مثيرًا للغة الإدارية والتكنوقراطية التي صارت تمثل الخطاب الليبرالي العام. كما أوضح إمكانية تحدّث السياسة التقدمية بلغة تحمل أهدافًا أخلاقية وروحانية.
لكنّ الطاقة الأخلاقية والمثالية المدنية التي أوحى بها هذا المرشح لم تستمر أثناء رئاسته. وبتوليه الرئاسة في خضم المأزق المالي عيّن الاستشاريين الاقتصاديين الذين قاموا بالترويج لإلغاء القيود المالية أثناء رئاسة كلينتون. وبتشجيع منهم، أنقذ موقف البنوك بشروط لم تُحمّلهم مسئولية التصرف الذي قاد إلى الأزمة، كما قدم بعض المساعدة للمواطنين العاديين الذين فقدوا منازلهم.
وسكت الصوت الأخلاقي لأوباما، وفضل الاسترضاء بدلًا من التعبير عن الغضب تعليقًا على الغضب العام في وول ستريت. وقد ألقى الغضب العارم بظلاله على فرصة الإنقاذ المطروحة أثناء رئاسة أوباما، وأدى إلى تغذية شحن الاحتجاجات الشعبية التي وصلت – عبر الطيف السياسي – في اليسار إلى حركة «احتلوا وول ستريت Occupy Movement» وترشيح بيرني ساندرز؛ وفي اليمين إلى حركة حزب الشاي وانتخاب ترامب.
اقرأ أيضًا:أين ذهبت حركة «احتلوا وول ستريت»؟
والانتفاضة الشعبية في أمريكا وبريطانيا وأوروبا تعتبر رد فعل عنيف تجاه نخب الأحزاب السائدة، ولكن أبرز أسبابها كانت الأحزاب الليبرالية وأحزاب يسار الوسط ــ الحزب الديمقراطي في أمريكا، وحزب العمال البريطاني، والحزب الديمقراطي الاشتراكي الألماني الذي وصلت حصة أصواته إلى أدنى مستوى تاريخي في الانتخابات الفيدرالية، والحزب الإيطالي الديمقراطي الذي انخفضت حصته من الأصوات إلى 20%، والحزب الاشتراكي الفرنسي الذي حاز مرشحه الرئاسي 6% فقط من الأصوات الناخبة في الجولة الأولى لانتخابات العام الماضي.
إعادة التفكير في السياسات التقدمية
على الأحزاب التقدمية إعادة التفكير في مهمتها وهدفها، قبل أن يأملوا في استعادة التأييد الشعبي لهم. ولذلك، ينبغي عليهم التعلم من الاحتجاجات الشعبوية التي أزاحتهم؛ ليس بكراهية الأجانب والقومية المتشدقة، ولكن بالتعامل الجاد مع الشكاوى الشرعية، بالإضافة إلى المشاعر السيئة التي تتضمنها. ويجب أن يبدأ الأمر بالاعتراف بأن هذه الشكاوى ليست اقتصادية فقط، بل لها وجه أخلاقي وثقافي كذلك؛ إذ لا تقتصر الشكاوى على الأجور والوظائف فحسب، بل تتعلّق بالتقدير الاجتماعي كذلك.
وإذا كانت الأحزاب التقدمية تود معالجة الغضب والضغائن التي تكدّر الأجواء السياسية، فهنالك أربعة مواضيع عليهم التصدي إليها، وهي: انعدام المساواة في الدخل، الميريتوقراطية، منزلة/قيمة العمل، والوطنية والمجتمع الوطني.
انعدام المساواة في الدخل
الرد الأفضل على مشكلة انعدام المساواة في الدخول هو المطالبة بتكافؤ أكبر في الفرص عن طريق إعادة تدريب الموظفين الذين فقدوا أعمالهم بحكم العولمة والتكنولوجيا، وتحسين فرص الوصول للتعليم العالي، وهدم الحواجز العرقية والجنسية، إلى أن يتلخص ذلك في أن أولئك الذين يعملون بجد وفقًا للقواعد عليهم أن يتمكنوا من الارتقاء بقدر ما تمكّنهم قدراتهم.
لكن هذا الشعار محض هراء الآن. ففي اقتصاد اليوم، لا يعتبر الارتقاء سهلًا. وتلك مشكلة مميزة للولايات المتحدة الفخورة بحركتها التصاعدية. وبشكل تقليدي، كان قلق الأمريكيين أقل من الأوروبيين تجاه عدم المساواة في الدخول، مؤمنين بأنه مهما كانت نقطة البداية في الحياة، فمن الممكن بفضل العمل الجاد الارتقاء من بلاء الفقر إلى ترف الثراء. لكن اليوم، هذا الاعتقاد في موضع شك. فالأمريكيون المولودون لأسرة فقيرة غالبًا يبقون فقراء عندما يبلغون. ومن بين المولودين في الجزء السفلي من مقياس الدخول سيبقى 43% منهم في هذا المستوى، بينما سيرتقي منهم نحو 4% فقط إلى الخمس الأعلى. ويبدو أن الارتقاء من الفقر في بلاد مثل كندا وألمانيا والسويد وغيرها من البلدان الأوروبية أسهل منه في أمريكا.
وقد يفسر هذا فقدان خطاب الفرص تأثيره الذي كان من قبل. على التقدميين إعادة النظر في الافتراض القائل بأن إمكانية الانتقال إلى مستوى أعلى من شأنها أن تعوض عن عدم المساواة. وعليهم أن يلتفتوا فورًا إلى عدم المساواة في السلطة والثروة، أكثر من اعتمادهم على مساعدة الناس في الاندفاع نحو سلم تكبر أبعاده أكثر فأكثر.
غطرسة الميريتوقراطية**
ولكن المشكلة أعمق من ذلك، فالتشديد على تحقيق ميريتوقراطية عادلة تنعكس فيها الجهود والمواهب على المكانة الاجتماعية، له تأثير جسيم على الطريقة التي نترجم بها نجاحنا من عدمه. ومبدأ أن الأنظمة تكافئ الموهوبين والجادين يشجّع أولئك الرابحين على النظر إلى نجاحهم الخاص باعتباره مقياسًا لقيمتهم، ويجعلهم يحتقرون من هم أقل منهم حظًّا.
وقد يشتكي الذين يتعرضون للخسارة من أن النظام مُزيف، إذ يغش الناجحون ويقومون بالألاعيب بغية الوصول للقمة، وربما يعتنقون الفكرة الواهية القائلة بأن فشلهم هو شأنهم الخاص، وأنهم ببساطة يفتقرون إلى الموهبة والدينامية للنجاح.
ويتسبب وجود هذه المشاعر سويةً – وهو الأمر الحاصل دومًا – في إشعال الغضب والضغينة تجاه النخب اللذيْن يغذيان الاحتجاجات الشعبوية. وعلى الرغم من كون ترامب مليارديرًا، فإنه يدرك هذا الغضب ويستغله. فبعكس باراك أوباما وهيلاري كلينتون اللذيْن تحدثا عن «الفرص» بشكل دائم ومكرر، فإن ترامب نادرًا ما يستخدم هذه اللفظة، وبدلًا من ذلك يطرح خطابًا حادًّا عن الرابحين والخاسرين.
وقد أعلى الليبراليون والتقدميون من شأن الدرجة الجامعية باعتبارها الطريق نحو الترقي، وباعتبارها أساس الاحترام الاجتماعي أيضًا، لدرجة أنهم لا يدركون الغضب الذي قد ينتج عن النظام الميريتوقراطي، ولا الأحكام القاسية التي يوقّعونها بالتالي على هؤلاء الذين لم يلتحقوا بالجامعات. وتلك المواقف من لُب انتصار ترامب والعنف الشعبي. وأحد أعمق المشاكل التي انقسمت حولها السياسات الأمريكية هي المشاكل بين أصحاب الشهادات الجامعية مقابل من لم يحصلوا على تعليم جامعي. ويحتاج الديمقراطيون إلى فهم الميريتوقراطية وما تئول إليه، من أجل التغلب على هذا الخلاف.
منزلة العمل
تزامن فقدان الوظائف بسبب التكنولوجيا والتعهيد*** مع الشعور بأن المجتمع يمنح نوع العمل الذي تتولاه الطبقات العاملة احترامًا أقل. ومع تحول النشاط الاقتصادي من صناعة الأشياء إلى إدارة الأموال، أغدق المجتمع على مديري صناديق التحوط والمصرفيين في وول ستريت المكافآت الهائلة، وأصبح التقدير الممنوح العمل بالمعنى التقليدي هشّّا وغير مؤكد.
وقد تقلّل التكنولوجيا الحديثة من منزلة وقيمة العمل، ويتوقع بعض ذوي الرؤى في وادي السليكون قدوم زمن يقضي فيه الذكاء الاصطناعي والروبوتات على عديد من وظائف اليوم. ومن أجل تسهيل مثل هذا المستقبل يقترحون دفع دخل أساسي للجميع. وما بُرِّرَ من قبل كشبكة لحماية المواطنين يُقدم الآن كتمهيدٍ للانتقال إلى عالم بلا وظائف. وسواء تم الترحيب بهذا العالم أو رفضه، فإنه سيظل السؤال المحوري لدى السياسيين في الأعوام القادمة. وللتفكير في هذا جيدًا ينبغي للأحزاب السياسية أن تتصدى إلى معنى منزلة العمل ومكانه في حياة طيبة.
الوطنية والجماعة الوطنية
تعد كل من اتفاقيات التجارة الحرة والهجرة من أقوى نقاط الغضب الشعبوي توترًا. على مستوى واحد، هذه هي المشاكل الاقتصادية، فالمعارضون يقولون إن اتفاقيات التجارة الحرة والهجرة تهدد الأجور والوظائف المحلية؛ في حين يرد المؤيدون بأن ذلك من شأنه دعم الاقتصاد على المدى الطويل. ولكن الغضب العارم الذي تثيره هذه القضايا يشير إلى أن شيئًا آخر على المحك.
غالبًا ما يشعر العمال الذين يعتقدون بأن بلادهم تهتم بالبضائع والأيدي العاملة الرخيصة أكثر مما تكترث بتوظيف شعبها نفسه – بالخيانة، وهذا الشعور بالخيانة غالبًا ما يُعبَّر عنه بطريقة قبيحة وعنيفة، مثل كراهية المهاجرين، وقومية متشددة تشوّه سمعة المسلمين وغيرهم من «الدخلاء»، ونغمة «استرجاع بلادنا».
يرد الليبراليون بإدانتهم للخطاب البغيض، ويؤكدون مناقب الاحترام المتبادل والتفاهم متعدد الثقافات. ولكن على الرغم من صحة هذا الرد المبدئي، فإنه فشل في معالجة مجموعة من الأسئلة المهمة المتضمّنة في الشكوى الشعبوية. ما الأهمية المعنوية للحدود الوطنية إن كانت لها أهمية معنوية؟ هل نحن مدينون لمواطنينا أكثر مما نحن مدينون لمواطني دول أخرى؟ وفي عصر عالمي، هل علينا أن نشذّب الهويات الوطنية أم أن نتطلع إلى أخلاقيات معنية بالإنسان بصورة عالمية؟
قد تبدو هذه الأسئلة صعبة وبعيدة كل البعد عن الأشياء الصغيرة التي نناقشها في السياسة هذه الأيام. لكن الانتفاضة الشعبوية تسلط الضوء على الحاجة إلى تجديد الخطاب الديمقراطي العام، ومعالجة الأسئلة الكبيرة التي يهتم الناس بها، وهي الأسئلة التي تتضمن المسائل الأخلاقية والثقافية.
إحياء الخطاب العام
وتواجه أي محاولة لطرح مسائل مثل هذه من أجل إعادة تصور شروط الخطاب الديمقراطي عقبة قوية، إذ يتطلب ذلك أن نعيد التفكير في الفرضية المركزية لليبرالية المعاصرة. كما يستلزم أيضًا أن نتساءل حول فكرة أن السبيل إلى مجتمع قادر على التحمل يكون بتجنب الخوْض في جدالات أخلاقية موضوعية في السياسة.
ولمبدأ التجنب Principle of Avoidance، أي ذلك الإصرار على خروج المواطنين عن معتقداتهم الأخلاقية والروحانية عند الخروج إلى الساحة العامة، سحر قوي. فيبدو أن هذا المبدأ يُحجم خطر فرض قيم الأغلبية على الأقلية، وأنه يمنع إمكانية أن تئول السياسة المحمومة أخلاقيًّا إلى حروب دينية، ويوفر أساسًا آمنًا للاحترام المتبادل. لكن استراتيجية التفادي هذه، وهذا الإصرار على الحياد الليبرالي فكرة سيئة. إنه يعوقنا عن معالجة القضايا الثقافية والأخلاقية التي تحرّك الثورة الشعبوية. فكيف يمكن مناقشة معنى العمل ودوره في حياة كريمة دون مناقشة التصورات التنافسية لحياة جيدة؟ كيف يمكن لنا إمعان التفكير في العلاقة الحقيقية بين الهويات الوطنية والعالمية دون السؤال عن الفضائل التي تعبر عنها هذه الهويات والادعاءات التي تقدمها لنا؟
ويتجاهل الحياد الليبرالي قضايا المعنى والهوية، بينما يُعنى بقضايا العدالة. وعليه، فإنه يتجاهل الغضب والمقاومة اللذين يحركان الثورة الشعبوية؛ فهذا الحياد الليبرالي يفتقر إلى الوسائط المعنوية والبلاغية والودية اللازمة لفهم هذا الاغتراب الثقافي، والذل الذي يشعر به عديد من ناخبي الطبقة العاملة والطبقة الوسطى؛ كما أنه يتجاهل غطرسة الميريتوقراطية من قبل النخبة.
وترامب واعٍ تمامًا لسياسات الإذلال. فمن وجهة نظر العدالة الاقتصادية، فإن شعبويته مزيفة؛ إنها نوع من الشعبوية البلوتوقراطية. وقد كان من شأن خطته الصحية أن تُخفّض الإنفاق العام على الرعاية الصحية لعديد من داعميه من الطبقة العاملة، وذلك لتمويل التخفيضات الضريبية الضخمة لصالح الأثرياء. لكن التركيز فقط على هذا النفاق يُضيّع الهدف. فعندما انسحب ترامب من اتفاقية باريس لتغير المناخ زعم بشكل غير معقول أنه يقوم بذلك لحماية فرص العمل في أمريكا. ولكن حقيقة هذا القرار ومبرره السياسي كان مضمونه على ما يبدو كامنًا في هذه الملاحظة السخيفة: «نحن لا نريد أن تضحك علينا دول وقادة آخرون بعد الآن». فتحرير الولايات المتحدة من اتفاقية تغير المناخ لم يكن في الواقع يتعلق بالوظائف أو الاحتباس الحراري، بل كان في مخيلة ترامب السياسية متعلقًا بتفادي المهانة. وهذا ينعكس على ناخبي ترامب، حتى أولئك الذين يهتمون بتغير المناخ.
والمشكلة بالنسبة لأولئك الذين خلّفتهم ثلاثة عقود من العولمة المدفوعة باعتبارات السوق ليست متمثلة في انخفاض الأجور وفقدان الوظائف فحسب، ولكن أيضًا فقدان الاحترام الاجتماعي، فالأمر لا يتعلق فقط بالظلم، بل بالخزي أيضًا.
ويتجاهل الساسة الليبراليون والديمقراطيون في الاتجاهات السائدة هذا البعد من السياسة. يعتقدون أن مشكلة العولمة هي ببساطة مسألة عدالة التوزيع؛ أن أولئك الذين اكتسبوا من التجارة العالمية، والتكنولوجيات الجديدة، وأمولة الاقتصاد لم يعوضوا بشكل كافٍ أولئك الذين خسروا. لكن هذا يسيء فهم الشكوى الشعبوية، كما يعكس عيبًا في الفلسفة العامة لليبرالية المعاصرة.
يميّز عديد من الليبراليين بين النيوليبرالية (أو مبدأ عدم التدخل laissez-fair، تفكير السوق الحر) والليبرالية التي تتجلّى فيما يسميه الفلاسفة «العقل العام الليبرالي». والأولى هي عقيدة اقتصادية، في حين أن الثانية هو مبدأ الأخلاق السياسية التي تصر على أن الحكومة يتوجب عليها أن تكون محايدة تجاه التصورات المتنافسة للحياة الطيبة.
على الرغم من هذا التمييز، فإن هنالك تقاربًا فلسفيًا بين الإيمان الليبرالي الجديد في منطق السوق ومبدأ الحياد الليبرالي. فمنطق السوق يجذب الانتباه، إذ يبدو أنه يقدم سبيلًا لحل الأسئلة الشائكة العامة دون الدخول في مناقشات مثيرة للجدل حول كيفية تقييم السلع كما ينبغي. فعندما يبرم شخصان صفقة، يقرران لنفسيهما القيمة التي يجب وضعها على السلع التي يتبادلانها. وبالمثل، فإن الحياد الليبرالي جذاب لأنه يبدو أنه يقدم سبيلًا لتحديد وتبرير الحقوق دون الافتراض المسبق لأي تصور معين للخير***. لكن الحياد زائف في الحالتين. فلا الأسواق أدوات محايدة أخلاقيًّا لتحديد الصالح العام، ولا المنطق الليبرالي العام طريقة محايدة أخلاقيًّا للوصول إلى مبادئ العدالة.
إن إجراءنا لمناقشتنا العامة كما لو كان من الممكن إسناد الحكم الأخلاقي إلى الأسواق، أو إجراءات المنطق الليبرالي العام، قد خلق خطابًا عامًّا فقيرًا، خاويًا من المعنى العام. إن مثل هذه المساحات العامة الفارغة تملؤها دائمًا بدائل سلطوية ومتعصبة وضيقة، سواء كانت في شكل أصولية دينية أو قومية متشددة. وهذا ما نشهده اليوم. فلقد جوّفت ثلاثة عقود من العولمة والليبرالية التكنوقراطية التي تحركها الأسواق الخطاب الديمقراطي، وجرّت المواطنين العاديين من القوة، كما نجم عنها ردة فعل شعبوية عنيفة تسعى إلى تغطية الساحة العامة بقومية انتقامية متعصّبة.
خواء من المعنى العام
ولإعادة تفعيل السياسة الديمقراطية نحتاج إلى إيجاد طريقنا إلى خطاب علني أقوى أخلاقيًّا، وهو نهج يحترم التعددية بالتعامل مع اختلافاتنا الأخلاقية بدلًا من تحاشيها.
ليس الفصل بين الجوانب المتعصبة للاحتجاج الشعبوي وبين مظالمه الشرعية بأمرٍ هين، لكن المحاولة مهمة، ففهم هذه المظالم وخلق سياسة يمكن أن تتجاوب معها هو التحدي السياسي الأكثر إلحاحًا في عصرنا.
* الأمولة Financialization: تمدد القطاع المالي في المجال الاقتصادي وتوسع تجارة أسواق المال والأوراق المالية على حساب الإنتاج المادي للسلع والخدمات؛ وهو ما يدرّ ربحًا سريعًا وهائلًا لصالح الأثرياء دون أن يحقق تنمية اجتماعية نافعة للجمهور العام.** الميريتوقراطية Meritocracy: تترجم أحيانًا إلى «الجديروقراطية» لكننا آثرنا كتابتها بالحرف العربي وفقًا لنطقها على غرار «ديمقراطية»، وهي تعني أن تكون الكفاءة هي أساس المكانة وليس النبل الموروث من النسب أو حجم الثروة.*** التعهيد Outsourcing: طريقة لتقسيم العمل حيث تقوم المؤسسة بإحالة بعض أعمالها إلى مؤسسات أخرى لإنجازها، بما يسمح للمؤسسة بتوفير نفقاتها وتقليل عمالتها، وغالبًا ما يتم التعهيد بالأعمال إلى جهات أجنبية في بلدان تمتاز مثلًا باليد العاملة الرخيصة، مما يعني فقدان أهل البلد الأصلي كلهم فرص عمل ممكنة.